

-
أثر السياق في تصوير المعنى في قوله تعالى :
"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا "
دعوة الشهداء إلى الشهادة على وجهين :
الأول : دعوتهم إلى تحمل الشهادة وقت كتابة العقد .
والآخر : دعوتهم إلى أداء الشهادة عند حدوث خلاف .
فما المراد من دعوتهم ؟ هل إلى الأداء أم إلى التحمل ؟
إن الجملة القرآنية حذفت المدعو إليه , " فجمعت بين الأمرين وهما :
ألا تأبى إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة , ولا إذا دعيت إلى أداءها " ( 123)
وهذا من سعة دلالة الحذف , كما قال الإمام عبد القاهر عنه : " إنه باب دقيق , المسلك لطيف المأخذ , عجيب الأمر , شبيه بالسحر ؛ فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر , والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة , وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق , وأتم ما تكون بياناً إذا لم تُبنْ " ( 124)
وإذا كان المحذوف هو تحمل الشهادة ؛ فإنه يستفاد منه أن تحمل الشهادة فرض كفاية , وإذا كان المعنى : إذا دُعِي إلى الأداء فعليه أن يجيب , أي أنها فرض عين .
قال مجاهد : " إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار , وإذا شهدت فدعيت فأجب .. "
وروي عن ابن عباس والحسن البصري : أنها تعم الحالين , " التحمل والأداء " ( 125)
والذي أميل إليه في تعيين المحذوف هو : تحمل الشهادة , وذلك لعدة أسباب , ومنها :
1 – أن السياق في الحديث عن الدعوة للشهادة , ولو كان السياق في شأن الأداء لأمر الشاهد بالحضور قصراً ؛ لأنه لم يشهد غيره على التداين .
2 – أن الحديث هنا عن توثيق العقد , وليس عن فض نزاع , وهذا يناسبه أن تكون الدعوة للتحمل , وليس للأداء .
3 – أن الآية التالية تناولت الأداء , وحذرت من كتمان الشهادة فقيل فيها " ولا تكتموا الشهادة " ولا داعي هنا للتكرار , فالحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد .
4 – لو كان الأمر لأداء الشهادة لما جاز لأحد أن يتخلف عنها , " ولقد جاء عن الربيع : أن الرجل كان يطوف في القوم الكثير يدعوهم ليشهدوا , فلا يتبعه أحد منهم , فأنزل الله عز وجل : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " .
6 – أن الآية تحدثت من قبل عن نهي الكاتب عن الإباء,فقالت"ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"والكتابة والشهادة جناحان للتوثيق,وضبط الحقوق , وقد جاء عن ابن جريج أنه سأل عطاء : ما شأنه إذا دعي أن يكتب وجب عليه ألا يأبى , وإذا دعي أن يشهد لم يجب إن شاء ؟
قال:كذلك يجب على الكاتب أن يجيب,ولا يجب على الشاهد أن يشهد ,فالشهداء كثير"( 126) .
فقوله : " الشهداء كثير " : محمول كما لا يخفى على التحمل , وليس الأداء .
المجاز المترتب على تقدير المحذوف :
إذا كان الأمر متعلقاً بتحمل الشهادة , فكيف يجوز إطلاق اسم الشهداء عليهم من قبل ؟
لقد ذهب الطبري إلى عدم جواز هذا فقال : " غير جائز أن يلزمهم اسم الشهداء , إلا وقد استشهدوا قبل ذلك , فشهدوا على ما ألزمهم شهادتهم عليه اسم الشهداء , فأما قبل أن يستشهدوا على شيء فغير جائز أن يقال لهم شهداء ؛ لأن ذلك الاسم لو كان يلزمهم , ولما يستشهدوا على شيء يستوجبون بشهادتهم عليه هذا الاسم , لم يكن على الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستحق أن يقال له : شاهد , بمعنى أنه سيشهد , أو أنه يصلح لأن يشهد .
وعليه كان معلوماً أن المعنيّ بقوله : " ولا يأب الشهداء " مَنْ وصفنا صفته ممن قد شهد فدُعي إلى القيام بها ؛ لأن الذي لم يشهد غير مستحق اسم شهيد , ولا شاهد " . ( 127)
والأمر – كما أرى – أبسط من كل هذا ؛ لأن من الأصول المعتمدة في علم البلاغة أن الشيء يجوز تسميته باسم ما يؤول إليه على سبيل المجاز المرسل , الذي علاقته اعتبار ما سيكون ؛ مثل قوله تعالى : ( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً ) (يوسف:36) .
وهو ما عليه الأمر هنا . ( 128 ).
وعليه , يجوز تسمية الرجال باسم الشهداء ؛ لأنهم سيصيرون شهداء , وفي ذلك نكتة , وهي أنهم بمجرد دعوتهم إليها فقد تعينت عليهم الإجابة فصاروا شهداء . ( 129)
كما لا يخفى أن فيها تحريضاً لهم بالمدح بهذا اللقب , بالإضافة إلى أنهم ذو خبرة , ومجربون في الشهادة .
يقول ابن عاشور : " وإنما جيء في خطاب المتعاقدين بصيغة الأمر , وجيء في خطاب الشهداء بصيغة النهي ؛ اهتماماً بما فيه التفريط ؛ فإن المتعاقدين يُظن بهما إهمال الإشهاد , فأُمرا به .
والشهود يُظن بهم الامتناع فنهوا عنه , وكل يستلزم ضده " ( 130) .
أما لبنات هذه الجملة فإنها تحمل من الكنوز الدلالية الكثير التي تتناغم مع دلالة الأساليب : وأول ما يلقانا هنا هو " لا " الناهية في قوله : " ولا يأب الشهداء " .
والنهي بـ " لا" مشعر برغبة المنهي في ارتكاب المنهي عنه إن كانت له مندوحة , فحين يقال : لا تفعل كذا .. يفهم منه أن له رغبة في فعله , أو أنه يفعله الآن , فنهي عنه , وهذا يصور نفرة النفوس من تبعات الشهادة , ومحاولة الفكاك منها , ولولا طاعة الله تعالى لما شهد أحد ...
أما اصطفاء الفعل " يأبى " دون " يمتنع " مثلاً ؛ فلأن الإباء فيه من الرفض المصحوب بالعلة , وخوف المستقبل , والحذر من الإقدام , فهو ليس امتناعاً ساذجاً , بل امتناع معلل , وهذه أقصى درجات الرفض , ولا يعنى هذا أن القرآن أباح الامتناع عن الشهادة ؛ لأن من سنن القرآن الكريم أنه يوجه النهي إلى أعلى درجات الفعل ليكون ما دون ذلك داخلاً فيه ً, وهو المعروف بالتنبيه بالأعلى على الأدنى .
كما أن الكلمة بجرسها العالي تشعر بالدفع , والإعراض عن هذا الأمر , ومَنْ من المؤمنين يحب الشهادة في أمور تحفها المخاطر ؟ !!!!
أما لفظ " الشهداء " فجاء جمعا لدخول النساء في هذا اللفظ , فصاروا جمعاً , وفي كلمة " إذا " ما يشير إلى كثرة ذلك منهم ً وأنهم صاروا معروفين بالشهادة , وقد يلوح من هذه الآية دليل على أنه يجوز للإمام أن يقيم للناس شهوداً , ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم , فلا يكون لهم شغل إلا تحمل حقوق الناس حفظاً لها , وإن لم يكن ذلك ضاعت الحقوق وبطلت " ( 131 )
" وقد أحسن قضاة تونس المتقدمون , وأمراؤها في تعيين شهود منتصبين للشهادة بين الناس , ويُعرفون بالعدالة , وكذلك كان الأمر في الأندلس , وذلك من حسن النظر للأمة , ولم يكن ذلك
متبعاً في بلاد المشرق ..
وكان مما يعد في ترجمة بعض العلماء أن يقال : كان مقبولاً عند القاضي فلان " ( 132)
دلالة " ما " في قوله : " إذا ما دعوا " :
قيل " " ما " مزيدة (33) , وراعى بعضهم اللفظ فقال " ما" حرف زائد للتوكيد عند جميع البصريين , ويؤيده سقوطها في قراءة ابن مسعود" بعوضة " في قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) (البقرة:26) .
وتأتي " ما " على ستة معان منها : " التوكيد , ويسميه بعضهم صلة , وبعضهم زائدة , والأُولى
أولى ؛ لأنه ليس في القرآن حرف إلا وله معنى , والنحاة إنما يقولون زائدة , يقصدون أنها لا تؤثر على إعراب الجملة , ولا يقصدون خلوها من المعنى , أو إنها يمكن الاستغناء عنها .
والذي ينبغي الوقوف عليه هنا أن السياق يستدعي هذا التوكيد ؛ لأن إعراض الشهداء عن الشهادة كثير , بل إن المسلم ليتهرب منها ؛ خشية الوقوع في الزلل أو النسيان , أو معاداة أحد المتداينين إن
شهد عليه , ومن أجل كل ذلك كان التوكيد هنا حسناً ؛ ليعلم أن شهادته ضمان للحقوق , ودفع للشبهات , وإغلاق لأبواب الشقاق ....ولكن هل يمكن ملاحظة النفي في " ما " هنا ؟
إن ملاحظة النفي هنا مقبول أيضاً ؛ لأن المعنى حينئذ هو أن : على الشهداء الإدلاء بشهادتهم , حتى وإن لم توجه إليهم الدعوة للشهادة ؛ لأن فيها إحقاقاً للحق .
كما أن من دلالة " ما " المفهومة من خلال السياق هنا أنها تومئ إلى الإسراع في تلبية الدعوة , دون تأجيل أو تسويف , فكأنها تدل على الحينية , وتخصيص المستقبل الكامن في " إذا " , فإن قيل : ولا يأب الشهداء إذا دعوا " , جاز أن يلبوا اليوم أو غداً أو بعد أسبوع .
أما حين يقال : " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " فيعني وجوب أن تكون الإجابة للدعوة في حينها , وفي ذلك تعجيل بحفظ الحقوق , وإيحاء للشهود بخطورة الأمر , ووجوب حسمه في حينه .
ويؤيد هذا أن الآيات التي جاءت فيها " ما " غالباً ما تدل على ربط الفعل بالزمن الحاضر العاجل دون تأخير , وذلك في مثل :
1 – " ( قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ) (الانبياء:45) 2 – (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ) (فصلت:20) 3 -(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ)(التوبة:92)وغير ذلك كثير
وأيضاً من الدلالات التي يمكن فهمها أنهم في أي وقت يدعون فيه للشهادة فعليهم التلبية ؛ وذلك لأن " ما " تحمل معنى الوقت , وهذه من أوجه دلالتها , كما قال ابن هشام في نحو قوله تعالى : " مادمت حياً " مريم 31 " أصله:مدة دوامي حياً ..وفي نحو "كلما أضاء لهم مشوا فيه " البقرة 20 أي : كل وقت إضاءة , واستدل ابن مالك على مجيئها للزمان ... (135)
أما اصطفاء الفعل " دعوا " فيشير إلى الرفق , واللين والتودد إلى الشهداء ؛ لأنهم لايبتغون من شهادتهم إلا رضى الله تعالى ؛ لذلك حملت من الترغيب ما يجذبهم إليها , ولو كانت الشهادة شهادة أداء لأمروا بالحضور ؛ إذ ليس هناك غيرهم .
******
الكناية في قوله " ولا تسأموا "
" لقد انتقل الشارع إلى غرض آخر , غرض عام للتشريع , يؤكد ضرورة الكتابة – كَبُرَ الدَّين أم صغر , بحجة أن الدين الصغير لا يستحق , أو أنه لا ضرورة للكتابة بين صاحبيه لملابسة من الملابسات كالتجمل , والحياء , أو الكسل وقلة المبالاة , ثم يعلل تشديده في وجوب الكتابة تعليلاً وجدانياً وتعليلا علمياً .(136).
والساْم في لغة العرب " يعني : الكسل والتهاون والملل في تكرير فعل ما , أو الملل مما يكثر فعلاً كان أو اسماً " ( 137 ) .
وعليه ففي الفعل كناية عن صفة ؛ " لأن المراد من السأم هو الكسل , إلا أنه كُنِّي به عنه ؛ لأنه وقع في القرآن صفةً للمنافقين " ( 138)
وقيل : كُني بالسأم عن الكسل ؛ لأنه صفة المنافق ؛ ولذلك قال – صلى الله عليه وسلم – لا يقول المؤمن كسلت " ( 139)
وكأن النهي هنا " نهي عن أثر السأم , وهو ترك الكتابة ؛ لأن السآمة تحصل للنفس عن غير اختيار , فلا يُنهى عنها في ذاتها " .
وعليه , فإن الأمر بالكتابة آكد من ذي قبل ؛لأن الصغير والكبير من الديون داخل في دائرة النهي .
كما يلحظ في دلالة الكناية هنا التحرز من وصف المؤمنين بصفةٍ التصقت بالمنافقين , وهي الكسل ؛ فحين قال الله تعالى في وصف المنافقين : ( وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى ) (النساء:142) آثر أن يجنب المؤمنين وصفهم بالصفة التي اشتهر بها المنافقون ؛ تكريماً لهم , فقال " ولا تسأموا " بدلاً من – ولا تكسلوا .
وهذا الفعل _ تسأموا – قد يرد لازماً , وقد يتعدى بحرف الجر , وقد يتعدى بنفسه , وذلك نحو " وهم لا يسأمون " ( فصلت 38) , ونحو " لا يسأم الإنسان من دعاء الخير " ( فصلت 49 ) وقد يتعدى بنفسه كما هو في الآية هنا " ولا تسأموا أن تكتبوه .. "
ودوران الفعل بين اللزوم , والتعدي بحرف , والتعدي بنفسه يشير إلى دورانه بين القوة والضعف , وهذا يعني أن السأم في الآية سأم شديد , فنهي عن هذا السأم الشديد الناتج من كثرة الكتابة , أو من قلة الدين .
وأوقع الفعل على المفعول المؤول دون الصريح , فقال : ولا تسأموا أن تكتبوه " دون " كتابته " , إيماءً إلى أن كتابته تكون مرة واحدة , وتنتهي مهمة التوثيق , أما إضمار المكتوب , وعدم إظهاره في " أن تكتبوه " فللإشارة إلى ثقله على النفوس , ورغبتها في إخفائه , وعدم الكشف عنه , أو أن الضمير يُذكِّر المتعاملَين بالديْن وبالحق معاً ؛ إذ يمكن إرجاعه إلى كل منهما , أي ولا تسأموا أن تكتبوا الحق , وهذا من الإيجاز البديع .
وجه التعبير بالصغير والكبير :
التعبير بهما يفيد الإحاطة والشمول لكل دين , وقد بدأ بالصغير ؛ لأنه الأقرب إلى التهاون والكسل في كتابته , فأراد تعميم الكتابة , فبدا بما يمكن الكسل فيه .
ولفظ الصغير والكبير " يستعملان في الأجسام و لا يستعملان في الأعداد , فالأعداد يستعمل معها القليل والكثير والاستعمال هنا من قبيل الاستعارة كما قال الراغب , وأبو هلال ( 140)
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن التعبير بهما هنا " يعني " على أي حال " ( 141) وكأن لا فرق , حتى أنهم فسروا هذا بذاك ( 142)
لكنني أرى في هذا الاستعمال ما يصرف الذهن إلى شيء آخر غير المال , إن العبارة تصرف الذهن إلى الحق , وإلى "الدَّيْن" , وهي أمور ألصق بالصغر والكبر منها بالكثرة والقلة .
إعادة لفظ " الأجل " :
ذكر الأجل في أول الآية , وأعيد ذكره هنا في شبه جملة وقعت حالاً من الهاء في جملة " تكتبوه " والمعنى " ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً مستقراً في ذمة المدين إلى وقت حلوله الذي أقر به .
فالضمير في " أجله " عائد إلى المدين , أي الأجل الذي ضربه للدائن لأنه أعلم بموعد سداده , وقدرته على هذا السداد , فجعل الأجل وتحديده من خصائصه ؛ حتى لا يكون له عذر عند حلوله .
وتكرار ذكر الأجل ؛ لأن السياق سياق سأم من الكتابة , مما يُشعر بالتهاون في الضوابط السابقة , فأعيد التنصيص على الأجل ؛ لبيان أنه لا فرق بين ما سبق وما هو لاحق , فالحق أحق أن يتبع .
******
التحريض بالخبر في جملة
( ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا )
هذه جملة تحريضية , جاءت بعد تتابع الأوامر والنواهي ، وكأنها علمت أن النفوس قد زادت عليها الأعباء فجاءت بما يقويها ويشد من أزرها , وهذه الجملة مكونة من مبتدأ وهو " ذلكم " , وعدة أخبار معطوف بعضها على بعض .
ولنقف أولاً على هذا المبتدأ وهو " ذلكم " حيث تكون منة [ذا , واللام , وكم ] .
أما " ذا " .
فهي اسم إشارة " والإشارة هنا تعود إلى أقرب مذكور , وهو : الكتابة , وقيل : الكتابة والاستشهاد , وجميع ما تقدم مما يحصل به الضبط ] ( 143) .
ومعلوم أن اسم الإشارة يفيد وضوح المشار إليه حتى كأن المخاطب ينظر إليه , أوأن اسم الإشارة هنا يعيد أطراف المعاملة إلى رؤية ما وضع من ضوابط مرة أخرى , ليتبينوا ما فيه, وكأنها مراجعة أخيرة للدين ومن هو الذي عليه الحق ومن هو صاحب الحق , ومتى السداد ....إلخ
إنها مراجعة سريعة , أو نظرة أخيرة للأمر جملة قبل انفضاض الموقف ... كل ذلك مفهوم من قوله " ذلكم "
وجيء بالام في " ذلكم " تنبيها على صعوبة تحقق كل هذه الضوابط : من كتابة الدين على يد كاتب , وشهود عدول , وتحديد موعد السداد ... وغير ذلك من الضوابط الدالة على ندرة تحققها كاملة .
ثم خوطب المؤمنون جميعاً فجيء بكاف الخطاب , والميم الدالة على الجمع ؛ ليكون الأمر أشبه بالإعلان العام غير المحصور في فئة دون فئة , مما يستدعي التريث قبل الإقدام عليه من كل إنسان يفكر في الاستدانة , فالأمر لن يخل من عناء , وإعلام الناس بأنه مدين .
ثم جاء الخبر الأول وهو : أقسط عند الله :وعن أبي عبيدة : [قسط : جار , وقسط : عدل , وأقسط بالألف : عدل لا غير ..] ( 144 )
وإيثار لفظ القسط دون العدل هنا [ لأن القسط هو : العدل البين الظاهر , ومنه سمي المكيال قسطاً , والميزان : قسطاً لأنه يصور لك العدل في الوزن حتى تراه ظاهراً , وقد يكون من العدل ما يخفى , ولهذا قلنا : إن القسط هو النصيب الذي بَيَّنْتَ وجوهه ( 145) .
وقيل:[ عند ] والعندية هنا عندية علم, وتعني التقدير والحكم ؛ أي أقسط في قدر الله تعالى وحكمه .
وقيل [عند الله ]ولم يقل عند ربك؛لأن السياق سياق حكم وميزان , وهو أليق بالجلال منه بالجمال .
وأقوم للشهادة :
وهذان اللفظان أحدث تركيبهما غموضاً عندي من حيث دلالة لفظ أقوم وإضافته إلي الشهادة ، ثم علاقة كل ذلك بالقضية الأساسية هنا وهي (ولا تسئموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلي أجله ) .
أما دلالة لفظ ( أقوم ) فقيل فيه :يعني : [ أعون علي إقامة الشهادة ] (146 ) .
وقيل : [أصح وأحفظ ] (147) .
وقيل : [أثبت لها وأعون عن إقامتها ] (148 ) .
كما قيل إنها :[ أثبت للشاهد إذا وضع خطهُ ثم رآه تذكر به الشهادة ؛ لاحتمال أنه لو لم يكتبه ؛ أن ينساه كما هو الواقع غالباً ] (149 ) .
[وأصله من قول القائل :أقمته من عوجه : إذا سَّويته فاستوي ، وإنما كان الكتب أعدل عند الله تعالي وأصوب لشهادة الشهود علي ما فيه ؛ لأنه يحوي الألفاظ التي أقرّ بها البائع والمشتري .. فلا يقع بين الشهود اختلاف في ألفاظهم بشهادتهم ؛ لاجتماع شهادتهم علي ما حواه الكتاب .
وإذا اجتمعت شهادتهم علي ذلك كان فصل الحكم بينهم أبين لمن احتكم إليه من الحكام مع غير ذلك من الأسباب ](150 ).
وهذا يفتح الباب لمعني آخر ،وهو أن هناك من يشهد فقط ولا يكتب ،فلما قيل : (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً ) ، فهم منه أن الشهادة حينئذٍ تكون علي مكتوب ؛ فلا يتخللها نسيان أو ضلال ، أو اختلاف بين الشاهدين .
وعليه ؛ [فالشهادة علي شيء مكتوب أقوم من الشهادة التي تعتمد علي الذاكرة وحدها ] (151 )
لأن تتابع الأيام يُنسي ،مما يترتب عليه عوج في الشهادة ،أو نسيان بعضها ،أو اختلاف بين الشاهدين ، ويترتب علي كل ذلك ضياع الحقوق وبزوغ الخلاف .
يقول القرطبي "وأقوم للشهادة ،دليل علي أن الشاهد ، إذا رأي الكاتب ولم يذكر الشهادة لا يؤديها ؛
لما دخل عليه من الريبة ، ولا يؤدي إلا ما علم،لكنه يقول:هذا خَطّي ولا أذكر الآن ما كتبت فيه " .
قال ابن المنذر[أكثر من يُحفظ عنه من أهل العلم يمنع أن يشهد الشاهد على خطه إذا لم يذكر الشهادة
واحتج مالك على جواز ذلك بقوله تعالى" وما شهدنا إلا بما علمنا " – يوسف 81
وقال بعض العلماء :
لمَّا نَسَب الله تعالى الكتابة إلى العدول جعلهم يشهدون على خطهم , وإن لم يذكروا .
ذكر ابن المبارك عن معمر عن بن طاووس عن أبيه : يُشهد على شهادة فينساها ؟
قال : لا بأس أن يشهد إن وجد علامته في الصك , أو خط يده .
قال ابن المبارك : استحسنت هذا جداً .
وفيما جاءت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم _ أنه حكم في أشياء غير واحدة بالدلائل والشواهد ] ( 152)
لكن الثابت أن الإمام مالك – رحمه الله – [ كان يحكم بالخط إذا عرف الشاهد خطه ... ثم رجع عن ذلك حين ظهر في الناس ما ظهر من الحيل , والتزوير ] ( 153 ) .
وعليه , فإذا كان هناك شك في الشهادة خرجت الشهادة عن وجهها , وفي القرآن الكريم :
( ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا) (المائدة:108)
وبعد :
فإن الهدف الأسمى من كل هذه الضوابط سلامة الصدر بإحقاق الحق , وذلك من خلال الكتابة , والشهادة , فكأن الكتابة وحدها لاتكفي , والشهادة وحدها لا تكفي , فلا بد من اجتماع الأمرين , حتى نصل إلى نفي الريب : " وأدنى ألا ترتابوا " فالعقول تنسى , وقد تغضب فتكتم , وقد تمالئ فتجور , وما يمنعها من كل ذلك إلا الكتابة والشهادة .
قوله تعالي (وأدني ألا ترتابوا.. )
----------------
والدنو هو القرب : من دنا يدنو ؛أي أقرب إلي عدم الارتياب ، [والارتياب شك مع تهمه ،فإنك
تقول إني مرتاب في فلان ،إذا شككت في أمره ،واتهمته ،والارتياب أمر قلبي ،ومع ذلك استخدم معه لفظ "أدني "،وهو مخصوص بالقرب المكاني؛لأنه:" لا يكون إلا في المسافة بين شيئين " ] (154 ) .
وفي ذلك إخراج للمعنوي ، وهو الارتياب في صورة المحسوس ؛ لأن هذا المعنوي يترك أثاره علي الحواس من غضب ونحو ذلك .
ويبقي السؤال :
هل بعد كل هذه الضوابط لا تنتفي الريبة انتفاءً كاملاً ؛ فيقال "وأدني ألا ترتابوا " ، ولا يقال وانفي للريبة ؟
إن هذا يعطي معنيً مهماً, وهو أنه بالرغم من كل هذه الضمانات إلا أن نفس الإنسان تظل في قلق وتوجس من ضياع هذا المال؛فهي بعد كل هذا تقترب من الضمان،لكنها لا تحصل علي الضمان التام
ولما كان قائل هذا الكلام هو خالق تلك النفس ، كان لابد من فهم طبيعة هذه النفوس وعلاقاتها بالمال , فهي علاقة ذات خصوصية شديدة , بحيث لا تطمئن إلا بوجود المال في حوزتها , أما إذا كان في حوزة الغير فمهما أعطيت من ضمانات ؛ فإنها لا تنفك عن الريب , وخوف الضياع .
حذف المفضل عليه :
حُذف المفضل عليه في الجمل الثلاث ؛ إذ التقدير :
ذلكم أقسط عند الله من عدم الكتابة .
وأقوم للشهادة من عدم التحيّز في الشهود .
وأدنى إلى عدم الريبة من ترك كل هذا .
[وحسن حذف المفضل عليه لكون أفعل الذي للتفضيل وقع خبراً, وتقديره : الكتب أقسط , وأقوم , وأدنى من عدم الكتب ]( 155) .
ووجه الحسن هنا هو اختزال التفضيل في تلك الألفاظ الثلاثة , حتى لا ينصرف الذهن إلا إليها , فيقبل على الأمر والنهي إقبال المحب الموقن بحكمة ما وضع من ضوابط ,وأنه في صالحه.
ترتيب الجمل الثلاث :
يقول أبو حيان [ نسق هذه الأخبار في غاية الحسن ؛ إذ بدئ بالأشرف , وهو قوله : " أقسط عند الله " أي في حكم الله ,فينبغي أن يتّبع ما أمر به , إذ اتباعه متعلّق الدين الإسلامي , وبني عليه قوله " وأقوم للشهادة " لأن ما بعد امتثال أمر الله هو الشهادة بعد الكتابة , وجاء بقوله " وأدنى ألا ترتابوا " أخيرا ؛ لأن انتفاء الريبة مترتب على طاعة الله تعالى في الكتاب والإشهاد , فعنهما ينشأ أقربية انتفاء الريبة , إذ ذاك هو الغاية في أن لا يقع ريبة , وذاك لا يتحصل إلا بالكتب والإشهاد غالبا فيُثلج الصدر بما كتب وأشهد عليهً وما ضبط بالكتابة والإشهاد لا يكاد يقع فيه شك , ولا لبس , ولا نزاع ]( 156)
وهذا يؤكد أن الترتيب ترتيب تصاعدي , فبدأ بالالتزام بأمر الله تعالى , إذ هو الأساس الذي يبنى عليه , وانتهى بنفي الريبة , إذ هي العلة الملاحظة من وراء كل هذه الضوابط .
فهذه الضمانات وإن كانت أوامر ينبغي السمع لها والطاعة , تعبداً لله تعالى إلا أن من ورائها علة عظيمة , وهي سلامة المجتمع , والمحافظة على علاقاته وروابطه , وهذا ما أكدته جملة : " وأدنى ألا ترتابوا .. "
أسلوب الاستثناء في قوله تعالى :
( إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ)
وهذه الجملة تبين أن التجارة الحاضرة بيوعها مستثناة من قيد الكتابة , وتكفي فيها شهادة الشهود ؛ تيسيراً للعمليات التجارية التي يعرقلها التقييد , والتي تتم في سرعة , وتتكرر في أوقات قصيرة ؛ ذلك أن الإسلام وهو يشرع للحياة , قد راعى كل ملابساتها , وكان شريعةً عملية واقعية ,لا تعقيد فيها ولا تعويق لجريان الحياة في مجراها . ( 157 )
ولكني ألحظ هنا في هذه العبارة دلالة أخرى خافية , وهي : لفت أنظار المؤمنين إلى التيسيرات في غير الديون , فالآية تعرض العوائق الكثيرة في شأن الديون , وتضع في الإطار نفسه الأبواب الميسرة ,والطرق الممهدة , حتى تفر النفوس من عقبات الديون إلى تيسيرات البيع الناجز .
كما أن الجملة من باب الاستثناء المنقطع , حيث فَصَلَ كلام كثير بين المستثنى والمستثنى منه , وأصل جملة الاستثناء هي : " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلا أن تكون تجارة حاضرة ... "( 158) .
ومعنى الانقطاع هنا : أن التجارة الحاضرة ليست من باب الديون في شيء , لكن لمّا كانت في حاجة إلى توثيق عقد البيع , كما يوثق عقد الديون أُلحقت التجارة بالديون من وجه احتياجها إلى توثيق , لكن توثيق عقد البيع أقل كلفة وشروطاً من عقد المداينة .
وجه البلاغة في وصف التجارة بالحضور والدوران :
يرى الزمخشري – رحمه الله – أن قوله : [ حاضرة تديرونها بينكم ] مفهوم من لفظ التجارة نفسها , ويسأل فيقول : [ فإن قلت ما معنى " تجارة حاضرة " وسواء كانت المبايعة بدين أو بعين , فالتجارة حاضرة ؟
وما معنى إدارتها بينهم ؟ .
قلت : أريد بالتجارة ما يُتَّجر فيه من الأبدال , ومعنى إدارتها بينهم : تعاطيهم إياها يداً بيد , والمعنى : إلا أن تتبايعوا بيعاً ناجزاً يداً بيد , فلا بأس أن تكتبوه ؛ لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين ] ( 159 ) .
لكن هذا الاستفسار في حاجة إلى مراجعة فليست كل تجارة حاضرة , وبخاصة تلك الصفقات التجارية التي تعقد في الغرف المغلقة , وعن طريق الحاسبات الالكترونية .
كما أنه ليست كل تجارة حاضرة دائرة , فالدوران والحضور صفتان لازمتان لإباحة منع الكتابة .
أما الحضور فيعني وجود السلعة والثمن في مكان واحد , ويتم فيها البيع يداً بيد .
وأما الدوران : فيعني التجارة السريعة , ولقد كان الفقهاء يقولون إنها ذات المطعومات , أو ذات الثمن القليل ؛ لأن هذه هي الدائرة بين الناس , لكن اللفظ أعم من ذلك , وبخاصة في عالمنا المعاصر , وقد رأينا السلعة الواحدة تباع في المجلس الواحد أكثر من مرة , ولأكثر من شخص , وذلك في السوق المصرفي , أو ما يسمى بالبورصة , أو ما يطلق عليه المزاد العلني , فهذا الدوران للسلعة الواحدة يبيح ترك الكتابة , بل يستلزمها إذ لا يمكن الكتابة في مثل هذه المبايعات الحاضرة السريعة توسعة على الناس , ورفعاً للحرج .
وجملة : " تديرونها بينكم " ؛ فيها استحضار لعملية الانتقال من تاجر إلى آخر , ومن ثالث إلى رابع , مما يصعب معه التوثيق .
وقوله " بينكم " يعطي معنى اجتماعهم , وتداول البيع يداً بيد , وانتفاء الحرج ؛ لأن البيع قائم على الإيجاب والقبول .
*******
يــــــــــــتــــــــــــــــــبـــــــــــــــــع
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة أمـــة الله في المنتدى منتدى الأسرة والمجتمع
مشاركات: 5
آخر مشاركة: 30-12-2008, 04:23 PM
-
بواسطة فاضح النصارى في المنتدى منتدى قصص المسلمين الجدد
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 20-08-2008, 06:52 AM
-
بواسطة دفاع في المنتدى منتديات محبي الشيخ وسام عبد الله
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 16-04-2008, 03:16 AM
-
بواسطة ismael-y في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 27-01-2007, 04:05 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات