شوائــــب التفسيـــر
فـي القرن الرابع عشر الهجري
عبد الرحيم فارس أبو علبة


مقدمة


الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وأخرجنا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
الحمد لله الذي جعل القرآن طريقة عيش لنا، ومنهجاً لحياتنا، وسراجاً منيراً لعقولنا، وهادياً لقلوبنا، ومقياساً لما يرد إلينا من أفكار ومفاهيم، الحمد لله الذي تكفل بحفظ هذا الدين من التحريف والتبديل والتزييف، ومنع الباطل من دخول حصنه المنيع  ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(1 ).
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه بإحسان إلى يوم الدين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أرسل رسوله بالهدى ودين الحق لينسخ الشرائع السابقة كلها، وليظهره على الدين كله واقعاً وتطبيقاً ولو كره الكافرون والمنافقون جميعاً. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله جعل الأنظمة الوضعية أنظمة كفر يحاسب الداعي إليها بالخلود في النار. وجعل الولاء للمؤمنين، والبراءة من الكافرين عقيدة تلتزم بها الأمة فتعز وتعلو، وتتركها فتذل وتكبو. أما بعد:


فإن كثيراً من المسلمين ينظرون إلى كتب التفسير نظرة تقديس لأنها تبيان لمعاني كلام رب العالمين. ويغيب عن بالهم أن القائمين عليها بشر غير معصومين. وأن الشوائب قد تدخلها من باب واسع بدافع الجهل، وبدافع الهوى، وربما بدافع الحقد الدفين على الإسلام. وسأحاول في هذا البحث – إن شاء الله تعالى- جمع كثير من الشوائب التي اختلطت بالتفسير في القرن الرابع عشر الهجري، الموافق للقرن العشرين قدر الطاقة، مبيناً إن كان لهذه الشوائب جذور قديمة أو لا، وهذا يقتضي تحديد ضوابط واضحة للتفسير لمزايلة الدخيل عن الأصيل، وتصفية التفسير وتنقيته من الشوائب التي علقت به عبر العصور بعامة، وفي القرن العشرين بخاصة.
وللشوائب بصمات ومعالم واضحة الدلالة لا تخفى على البصير بالإسلام أهمها:


أولاً: إعلاء شأن العقل وتحكيمه في كل شيء، حتى في نصوص الشرع مما يمكّن له السيادة المطلقة. وهو ما عرف بالعقل الحر، ويمكن إدراك هذه البصمة من الدعوة للإيمان بالحسيّات واستبعاد المغيبات. وفي جعل العقل مصدراً من مصادر التشريع على قدم المساواة بنصوص الوحي. بل وبتأويل ما يتعارض معه.
ثانياً: مساواة القرآن بالتوراة والإنجيل وبالعقائد الوضعية. وطمس فكرة هيمنة القرآن على الأديان السماوية ونسخه لها. ويمكن إدراك هذا المَعْلَم من الاستشهاد بنصوص التوراة والإنجيل، واستبعاد السنة النبوية الشريفة، ومن الدعوة للتقريب بين الأديان.
ثالثاً: تغيير مفهوم الدين عند المسلمين ليتساوى مع النصرانية بفصله عن شؤون الحياة واقتصاره على العلاقة بين الخالق والمخلوق فقط. ويمكن إدراك هذا المَعْلَم في الشوائب المتعلقة بالتشريعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقوبات. وسواء زعم أنها حق للبشر في اختيار طريقة عيشهم في الحياة، أو زعم أن الله – تعالى- فوّض الأمر للإنسان في هذه الشؤون.
ولهذا فقد خلّفت الشوائب في التفسير عقبات في فهم الإسلام، وألقت بظلال مظلمة على مفاهيم الإسلام. ويمكن إجمال هذه العقبات بثلاثة أمور:
الأول: سيطرة الأفكار والمفاهيم والمقاييس الغربية على أذهان المسلمين حتى غدا الإسلام في قفص الاتهام ويحتاج إلى مَنْ يدافع عنه، ويبطل دعوى عجزه، فينبري العلماء للدفاع عنه فيقعوا في شَرَكٍ نُصِبَ لهم وهو مهادنة أفكار الكفر، ومحاولة التوفيق بينها وبين الإسلام. وهذا يستدعي تحريف الإسلام وتزييفه لنوال رضوان الكافر المستعمر.
الثاني: تحويل الأذهان المفتونة بالثقافة الغربية إلى عقليات إسلامية، لأن بعض الناشئة تقيس الإسلام بمقاييس غيره. وتقيّمه بقيم غيره. فكأن الأصل هو الإيمان بمذاهب خارج الإسلام، ثم ينظر إلى الإسلام من خلالها، فالإسلام يمدح إذا كان ديمقراطياً، أو إذا كان يدعو للحريات العامة، أو إذا كان يدعو للاشتراكية ونحو ذلك.
الثالث: صار بعض المسلمين يفهمون المبادئ الوافدة الدخيلة على أنها إسلام، وصاروا بحاجة إلى حجج وبراهين لإثبات عكس ذلك. فالعقبة الكأداء هي إقناع عقول من استسلموا للواقع بأفكار الإسلام الصافية النقيّة من الشوائب.
وهذا يقتضينا أن نبيّن كيف نزيل العقبات التي خلّفتها الشوائب.
إن نقطة الابتداء في العمل لإزالة هذه الشوائب تتجلى في تبني المسلمين أفراداً وجماعات لهذا الأمر، وأن يجعلوه معركة في الحياة عامة. ويكون القائد لهذه المعركة الفكرية من شرح الله صدورهم من العلماء من أساتذة الجامعات في كافة الدراسات الإسلامية لهذا الأمر. كلٌ ضمن اختصاصه بنشر الوعي على الشوائب. ويكلفون الطلاب عمل أبحاث تعرّي الشوائب وتكشفها على حقيقتها، وتبيّن عظمة أفكار الإسلام. وتبرز تميّزها عن جميع المعالجات البشرية في شؤون العقيدة والأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقوبات، وفي سائر شؤون الحياة. ثم ينتقل الوعي على الشوائب إلى بقية شرائح المجتمع حتى يحدث انقلاب فكري في الأمة فتعود إلى إسلامها صافياً نقياً من أي شائبة. ونكون بذلك قد رددنا الكرَّة على أصحاب الشوائب، وحاربناهم بسلاحهم نفسه. ويكون العلماء قد استردّوا هيبتهم وفضلهم في وراثة الأنبياء، قال عبد الله بن عمرو بن العاص(2 ): (سمعت رسول الله  يقول: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه
من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا
) (3 ).
وأما حكم الشوائب فيؤخذ من قول الرسول : (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ( 4). ولما كانت الشوائب دخيلة على ديننا، وهي إحداث في أمر ديننا، وهي تناقضه وتعارضه فهي مردودة، والحكم الشرعي فيها، فيه تفصيل: فمن يحملها معتقداً بها، وينشرها ابتغاء الفتنة وابتغاء تحريف الإسلام فإن صاحبها يخرج من الملة – والعياذ بالله -، ويزداد عذاباً يوم القيامة بقدر حقده وعداوته لدين الله.
وأما تعلمها للأخذ بها فهو حرام لأنه أخذ لما هو مردود من الإسلام. وأما تعلمها لردها وبيان خطرها، والتحذير منها فهو مندوب يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. وأما تعليمها فإن كان بقصد بيان زيفها وهدمها فهو من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه ثواب عظيم، يتضاعف ثوابه بقدر ما يهدي من الناس، وبقدر ما ينقذهم من الضلال. وأما تعليمها بقصد الترويج لها وبيان صحتها والدفاع عنها فهو كمن تولى كبره – والعياذ بالله -.
وأما السكوت عليها فإن كان قادراً على الإنكار والتغيير وصمت فيكون قد شارك الشيطان الأخرس في مهمته. وإن كان سكوته عن ضعف أمام جائر متجبر، وأنكر بقلبه، وأبلغ إنكاره لمن يستطيع، فنسأل الله له القوة والغفران، ولعله يكون قد أصاب أضعف الإيمان، ولا نزكي على الله أحداً. والموعد الله في كل غاية، وفوق كل ذي علم عليم.
............................................................ ............................................................ ..............................................
(1 ) سورة الحجر، آية 9.
( 2) أحد الصحابة المكثرين من الرواية، وأحد العبادلة الفقهاء، مات قبل المائة، روى له الستة. (تقريب التهذيب ترجمة 3499).
(3 ) رواه البخاري في كتاب العلم. باب كيف يقبض العلم، 1/36، طبعة الشعب. ورواه مسلم، العلم، 13، الترمذي 2652، سنن ابن ماجه 9، مسند أحمد 2/162، 190، الدارمي 1/77، فتح الباري، 1/194، 13/284.
( 4) رواه البخاري، 3/421، صحيح مسلم، الأقضية 17، سنن ابن ماجه 14، سنن أبي داود، السنة ب5، مسند أحمد، 6/240، 270، فتح الباري، 5/301، 13/53. وفي رواية: (من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد).
............................................................ ...... يتبع إن شاء الله ............................................................ ..................