بسم الله الرحمن الرحيم
التدمير الأول (المسجد الأقصى):

بعد وفاة سيدنا سليمان(عليه السلام) ، وقع نزاع بين أبنائه على وراثة ملكه ، وكان نتيجة هذا الصراع ، انقسام المملكة إلى مملكتين ، الأولى في الجنوب وتسمى (يهوذا) وعاصمتها (أورشليم) واستمرت من (931 ق.م – 586 ق.م). والأخرى في الشمال وتسمى (إسرائيل) وعاصمتها (نابلس) أو (شكيم) واستمرت من (931 ق.م – 724 ق.م).

في إطار الصراع الإقليمي بين الدول المتحاربة في المنطقة ، تمكن ملك الآشوريين (سرجون الثاني) من الزحف إلى مملكة (إسرائيل) عام (722) ق.م ، وتدميرها تدميراً كاملاً ، وإبادة شعبها قتلاً وتشريداً.

أما مملكة (يهوذا) ، فقد زحف إليها الملك الكلداني نبوخذ نصر من بلاد آشور (العراق)، وحاصرها وأعمل فيها خراباً وتدميراً، حيث نهبها ودمر المعبد سنة (587) ق.م ، وسبى أكثر السكان إلى بابل، فيما فرَّ الآخرون إلى مصر وغيرها من الأقطار . وقد عرفت هذه المدة تاريخياً بـ (عصر السبي البابلي) . وفي السبي البابلي، مكث اليهود سبعين سنة ، حيث تعلموا الآرامية ، ومنها تطورت العبرية، وبالعبرية المقتبسة من الآرامية ، وضع الكهنة اليهود في الأسر البابلي توراتهم، وهي بلا شك ليست لغة سيدنا موسى(عليه السلام) المصرية التي نزلت بها التوراة الأصلية.

ويشير بعض المؤرخين إلى أن هذا الغزو لديار بني إسرائيل وتشريدهم ، وهدم معبدهم جزاءً وفاقاً لتخليهم عن هدي الرسالات وحقائق الدين ، وتحولهم من دور الإصلاح المنوط بأتباع الرسل إلى دور الإفساد الذي أرسلت الرسل لتطهير الأرض منه ، وجرت سنة الله التي لا تتبدل على أمة بني إسرائيل، إذ عوقبوا على الإفساد الذي أظهروه بواحاً ، فيشير البعض إلى أن المعبد الذي بناه سليمان(عليه السلام) لعبادة الله تعالى ، حوله بنو إسرائيل بعد وفاته إلى مكاناً للهو والدعارة والممارسات الآثمة.

العودة من السبي وإعادة بناء المسجد:

بعد سقوط مملكتي إسرائيل ويهوذا ، احتل ملك الفرس (قورش الإخميني) بلاد بابل، ومن ثم أصبح له السلطان على أرض (يهوذا). فأطلق الفرس على شعب يهوذا اسم (اليهود) وعلى ديانتهم (اليهودية) ، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت كلمة (اليهود) تعني من اعتنق اليهودية ولو لم يكن من بني إسرائيل .

سمح قورش لليهود بالعودة إلى فلسطين عام (538) ق.م ، فقاموا بإعادة تعمير المدينة المقدسة، وأعادوا بناء المسجد مرة أخرى على نفقة بيت الملك في عهد دارا (داريوس) سنة (515) ق.م .

التدمير الثاني (المسجد الأقصى):

في سنة (332) ق.م ، تمكن الاسكندر المقدوني من السيطرة على فلسطين، ليبتدأ عهد الإغريق في المنطقة (332 ق.م – 64 ق.م) ، فتأرجح وضع اليهود بين مد وجزر، حتى كان عهد الملك السلوقي أنطيوخس الرابع (175 ق.م – 164 ق.م)، فدمر الهيكل ، ونهب كل ما فيه ، وأجبر اليهود على اعتناق الوثنية الإغريقية حتى اندلعت ثورة اليهود المكابيين .
وما حدث لليهود يعتبر ليس إجبارا فطالما كانوا ينتقلون للديانات الاخري طمعا وتذلفا لأصحابها فالدين عند اليهود طالما كان وسيلة لتحقيق أكبر ربح وليس عقيدة ثابتة عندهم

إعادة بناء المسجد للمرة الثانية:

نتيجة لاستمرار الصراع بين اليهود المكابيين وأعدائهم ، استغل الرومان الفرصة فقاموا باحتلال فلسطين سنة (63) ق.م ، واستولوا على القدس بقيادة القائد الروماني (يامبيوس)، وتم تنصيب (هيرودس) الروماني ملكاً على فلسطين . حاول هيرودس تهدئة الأوضاع واسترضاء اليهود ، فأعاد بناء المعبد (الهيكل) على نسق هيكل سليمان ، وذلك بين العامين (20- 18) ق.م ، وظل المعبد على هذا الحال حتى جاء نبي الله زكريا وابنه يحيى وعيسى بن مريم ابن خالة يحيى عليهم الصلاة والسلام .

المعبد في عهد يحيى وزكريا عليهما السلام

ورد في القرآن ما يدل على أن المعبد كان قائما في عهود هؤلاء الأنبياء ، حيث كانت مريم عليها السلام قد وهبتها أمها لخدمة بيت المقدس ، قال تعالى: (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم. فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا، قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء. فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين).

فالنذر كان لخدمة المعبد المقدس ، ولكن جاء المولود أنثى هي مريم عليها السلام ، وكفلها زكريا(عليه السلام) الذي كان رئيس الهيكل حينئذ ، وفي محراب الهيكل دعا زكريا (عليه السلام) ربه بأن يرزقه الذرية الطيبة ، فجاءته البشرى بيحيى(عليه السلام) وهو قائم يصلي في المحراب.

ثم إن زكريا(عليه السلام) قد نشره اليهود بالمنشار فقتلوه ، كما قتلوا ولده يحيى(عليه السلام) عندما وشوا به إلى ملك ظالم في عصره .

وقتل هذين النبيين عليهما السلام اعتبر من الإفسادات الكبرى لليهود ، وما دام هؤلاء القتلة ما انفكوا يقتلون الأنبياء والصالحين الذين كان المعبد مصلاهم ومكان تقربهم إلى الله ، فأيهما أحق به، هم - أي اليهود- ، أم المسلمون أتباع خاتم المرسلين ووارث مساجد ومعابد إخوانه الأنبياء عليهم السلام؟!!!

المسجد في عهد عيسى عليه السلام:

جاء عيسى(عليه السلام) وأحوال بني إسرائيل في غاية الفساد والإفساد ، فعقائدهم قد طمست ، وأخلاقهم قد رذلت ، وسيطرت عليهم المادية الجشعة ، حتى إنهم اتخذوا من المعبد سوقاً للصيارفة والمرابين، وملهى لسباق الحمام . فأخبرهم (عليه السلام) بأن العقوبة قادمة إليهم بسبب هذا الإفساد . وفي هذا فقد أورد (إنجيل متى: 23) موقف عيسى(عليه السلام) حيث قال [ يا أورشليم.. يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحها ولم تريدوا، هو ذا بينكم يترك لكم خراباً ].

ومما يدل على أن المسجد الأقصى كان قائما في عهد عيسى(عليه السلام) ، ما ثبت في السنة الصحيحة من حديث الحارث الأشعري(رضي الله عنه) ، أن الرسول(صلى الله عليه وسلم) قال: "إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ، ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها ، وإنه كاد أن يبطئ بها ، فقال عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم. فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب ، فجمع الناس في بيت المقدس ، فامتلأ المسجد وقعدوا على الشرف ، فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن.. أولهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً.. إلى نهاية الحديث".

وواجه عيسى(عليه السلام) إفساد كهنة الهيكل من اليهود ، محذراً إياهم من مغبة جشعهم وظلمهم ، حيث ورد في (إنجيل لوقا: 19/45-47): [ولما دخل الهيكل ابتدأ يخرج الذين كانوا يبيعون ويشترون فيه قائلاً لهم: مكتوب أن بيتي بيت الصلاة ، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص]. ولما استيأس عيسى(عليه السلام) من استجابتهم لنصائحه ، أخبرهم بأن هذه النعمة سوف تسلب منهم لأنهم لم يؤدوا شكرها.. سوف يهدم المعبد.. حيث ورد في (إنجيل متى /24/1،2): [ ثم خرج يسوع، ومضى من الهيكل، فتقدم تلاميذه لكي يروه أبنية الهيكل، فقال لهم يسوع: ماذا تنظرون؟ الحق أقول لكم ، إنه لا يترك ها هنا حجر على حجر لا ينقض ].

ثم كانت مؤامرة اليهود على سيدنا عيسى(عليه السلام)، وتحريضهم على قتله ، إلى أن رفعه الله تعالى إليه.

المسجد والتدمير الآخر:

صدقت نبوءة سيدنا عيسى(عليه السلام) في هدم المعبد ، وذلك عندما أقدم أحد ملوك الرومان وهو الإمبراطور (طيطس) عام (70 م) ، على إحراق المدينة المقدسة ، وتدمير المعبد الذي أقامه هيرودس، ولم يبق فيه حجر على حجر، ولكنه أبقى الحطام مكانه ، ليأتي بعده طاغية آخر هو (أدريانوس) فأزال معالم المدينة وحطام الهيكل، وأقام مكانه معبداً وثنياً سماه (جوبيتار) على اسم (رب الآلهة) عند الرومان، وكان ذلك سنة (135 م).

تدمير الهيكل الروماني:

بقي الهيكل الروماني على الهيئة الوثنية، إلى أن تمكنت المسيحية من أرض فلسطين ، فدمره المسيحيون في عهد الإمبراطور (قسطنطين).

انتهاء زمن الهيمنة اليهودية والنصرانية على أرض المسجد الأقصى:

ظل مكان الهيكل خالياً من بناء مقام فيه بقية عهد الرومان النصارى حتى حدث الإسراء بالنبي محمد(صلى الله عليه وسلم) في عهد الحاكم الروماني هرقل (610-641م) ، وحتى الفتح الإسلامي للقدس في عهد الخليفة عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) سنة 636م ، ولم يكن لليهود آنذاك وجود ، بل إن (صفرونيوس) بطريك النصارى اشترط في عقد تسليم المدينة المقدسة أن لا يدخلها أحد من اليهود.

يتبــــــــــــــع