هارون الرشيد وسفيان الثوري

ذكر الإمام ابن بلبان والغزالي وغيرهما :

أن الرشيد لما ولي الخلافة زاره العلماء بأسرهم إلا سفيان الثوري ، فإنه لم يأته ، وكان بينه وبينه صحبة ، فشق عليه ذلك ، فكتب إليه الرشيد كتاباً يقول فيه :

(( بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هارون أمير المؤمنين ، إلى أخيه في الله سفيان بن سعيد الثوري : أما بعد يا أخي :
فقد علمت أن الله آخى بين المؤمنين ، وقد آخيتك في الله مؤاخاة لم أصرم فيها حبلك ، ولم أقطع منها ودك ، وإني منطو لك على أفضل المحبة وأتم الإرادة ، ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله تعالى ، لأتيتك ولو حبواً ، لما أجد لك في قلبي من المحبة ، وإنه لم يبقى أحدٌ من إخواني وإخوانك إلا زارني وهنأني بما صرت إليه ، وقد فتحت بيوت الأموال ، وأعطيتهم المواهب السنية ، ما فرحت به نفسي وقرت به عيني ، وقد استبطأتك ، وقد كتبت كتاباً مني إليك أُعلمك بالشوق الشديد إليك ، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل زيارة المؤمن ومواصلته ، فإذا ورد عليك كتابي فالعجل العجل )) .

ثم أعطى الكتاب لعباد الطالقاني ، وأمره بإيصاله إليه، وأن يحصي عليه بسمعه وقلبه دقيق أمره وجليله ليخبره قال عباد : فانطلقت إلى الكوفة فوجدت سفيان في مسجده ، فلما رآني على بعد قام ، وقال أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق إلا بخير . قال : فنزلت عن فرسي بباب المسجد ، فقام يصلي ولم يكن وقت صلاة ، فدخلت وسلمت ، فما رفع أحدٌ من جلسائه رأسه . إلى أن قال : فبقيت واقفاً ، وما منهم أحد يعرض علي الجلوس ، وقد علتني من هيبتهم الرعدة ، فرميت بالكتاب إليه فلما رأى الكتاب ، ارتعد وتباعد منه كأنه حية عرضت له في محرابه ، فركع وسجد ، وسلم ، وأدخل يده في كمه وأخذه وقلبه بيده ، قال عباد: فمد بعضهم يده وهو يرتعد كأنه حية تنهشه ، ثم قرأه ، فجعل سفيان يبتسم تبسم المتعجب ، فلما فرغ من قراءته ، قال : اقلبوه ، واكتبوا للظالم على ظهره . فقيل له :يا أبا عبد الله ، إنه خليفة ، فلو كتبت إليه في بياض نقي لكان أحسن . قال : اكتبوا للظالم في ظهر كتابه ، فإن اكتسبه من حلال فسوف يجزى به ، وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يصلي به ، ولا يبقى شيء مسه ظالم بيده عندنا فيفسد علينا ديننا . فقيل له : ما نكتب إليه : قال : اكتبوا له :

(( بســــــم الله الرحمن لرحيم .. من العبد الميت سفيان ، إلى العبد المغرور بالآمال هارون ، الذي سلب حلاوة الإيمان ولذة قراءة القرآن . أما بعد : فإني كتبت إليك أعلمك أني قد صرمت حبلك ، وقطعت ودك ، وإنك قد جعلتني شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت على بيت مال المسلمين ، فأنفقته في غير حقه ، وأنفذته بغير حكمه ، ولم ترض بما فعلته وأنت ناءٍ عني ، حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك ، فأما أنا فإني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين حضروا قراءة كتابك ، وستؤدى الشهادة غداً بين يدي الله الحكم العدل . يا هارون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم ، هل رضي بفعلك ، والعاملون عليها في أرض الله ، والمجاهدون في سبيل الله ، وابن السبيل ؟! أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم ، يعني العاملين ؟ أم رضي بفعلك الأيتام والأرامل ؟ أم رضي بذلك خلق من رعيتك ؟! فشد يا هارون مئزرك وأعد للمسألة جواباً ، وللبلاء جلباباً ، واعلم أنك ستقف بين يدي الحكم العدل ، فاتق الله في نفسك ، إذا سُلبت حلاوة العلم والزهد ، ولذة قراءة القرآن ومجالسة الأخيار ، ورضيت لنفسك أن تكون ظالماً وللظالمين إماماً . يا هارون قعدت على السرير ، ولبست الحرير ، وأسبلت ستوراً دون بابك ، وتشبهت بالحجبة برب العالمين ، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك ، وتركتهم يظلمون الناس ولا ينصفون ، ويشربون الخمر ويحدون الشارب ، ويزنون ويحدون الزاني ، ويسرقون ويقطعون السارق ، ويقتلون ويقتلون القاتل ، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن يحكموا بها على الناس ؟! فكيف يا هارون غداً ، إذا نادى المنادي من قبل الله : احشروا الظلمة وأعوانهم . فتقدمت بين يدي الله ويداك مغلولتان إلى عنقك ، لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك ، والظالمون حولك وأنت لهم إمام أو سائق إلى النار ؟! وكأني بك – يا هارون – وقد أخذت بضيق الخناق ، ووردت المساق ، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك ، وسيئات غيرك في ميزانك على سيئاتك بلاء على بلاء ، وظلمة فوق ظلمة ، فاتق الله يا هارون في رعيتك ، واحفظ محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته ، واعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك إلا وهو صائر إلى غيرك ، وكذلك الدنيا تفعل بأهلها واحداً بعد واحد ، فمنهم من تزود زاداً نفعه ، ومنهم من خسر دنياه وآخرته ، وإياك إياك أن تكتب إلي بعد هذا ، فإني لا أجيبك . والسلام )) . وألقى الكتاب منشوراً من غير طي ولا ختم ، فأخذته وأقبلت به إلى سوق الكوفة ، وقد وقعت الموعظة بقلبي فناديت : يا أهل الكوفة من يشتري رجلاً هرب إلى الله ؟ فأقبلوا إلي بالدراهم والدنانير ، فقلت : لا حاجة لي بالمال ، ولكن جبة صوف وعباءة قطوانية ، فأتيت بذلك ، فنزعت ما كان علي من الثياب ، التي كنت أجالس بها أمير المؤمنين ، وأقبلت أقود الفرس الذي كان معي ، إلى أن أتيت باب الرشيد حافياً راجلاً ، فهزأ بي من كان على الباب ثم استؤذن لي ، فلما رآني على تلك الحالة ، قام وقعد ، وجعل يلطم رأسه ووجهه ، ويدعو بالويل والخراب ، ويقول : انتفع الرسول وخاب المرسل ، ما لي وللدنيا ، والملك يزول عني سريعاً . فألقيت الكتاب إليه مثل ما دفع إلي ، فأقبل يقرؤه ودموعه تنحدر على وجهه ، وهو يشهق فقال بعض جلسائه : يا أمير المؤمنين ، قد اجترأ عليك سفيان ، فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد ، وضيقت عليه السجن ، فجعلته عبرةً لغيره .

فقال هارون : اتركوا سفيان وشأنه يا عبيد الدنيا ، المغرور من غررتموه والشقي والله – حقاً – من جالستموه ، وإن سفيان أمَّة وحده . ولم يزل كتاب سفيان عند الرشيد يقرؤه ويبكي ، حتى توفي - رحمه الله تعالى - .


أين لنا اليوم بسفيان ؟؟؟

أين لنا بهارون ؟؟