(2-3) هل تلاعبت البشرية بالعهد القديم؟
ولمَّا فرَغَ موسى مِنْ تدوينِ كلامِ هذِهِ الشَّريعةِ كُلِّها في سِفرٍ، قالَ لِلاَويِّينَ، حامِلي تابوتِ عَهدِ الرّبِّ: خذوا سِفرَ الشَّريعةِ هذا وضَعوهُ إلى جانِبِ تابوتِ عَهدِ الرّبِّ إلهِكُم، فيكونَ هُناكَ علَيكُم شاهدًا. فأنا أعلَمُ تمَرُّدَكُم وعِنادَكُم لأنِّي، وأنا معكُم في الحياةِ، تمَرَّدتُم على الرّبِّ، فكيفَ بَعدَ موتي؟ إجمَعوا إليَ شُيوخ أسباطِكُم وقادَتَكُم حتى أتلوَ على مَسامِعِهِم هذا الكلامَ، وأُشهِدَ علَيهِمِ السَّماءَ والأرضَ. فأنا أعلَمُ أنَّكُم بعدَ موتي ستَفسِدونَ وتحيدونَ عَنِ الطَّريقِ التي أوصَيتُكُم بِها، فيَنزِلُ بِكُمُ الشَّرُّ في آخرِ الأيّامِ إذا فعَلتُم ما هوَ شَرًّ في نظَرِ الرّبِّ حتى تُكدِّروهُ بأعمالِ أيديكُم.
الكتاب المقدس – التثنية 31: 24-29
كيفَ تقولونَ: نحنُ حُكماءُ وشريعةُ الرّبِّ معَنا؟ أما تَرَونَ أنَّ قلمَ الكتبةِ الكاذِبَ حَوَّلَها إلى الكَذِبِ.
الكتاب المقدس – إرميا 8: 8
فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
القرآن الكريم - المائدة
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
القرآن الكريم - المائدة
لقرون عديدة، كان العهد القديم كتاب التاريخ الوحيد المتوفر للمسيحيين و اليهود. إن أراد أحدٌ أن يعرف ما حدث في الماضي، فعليه دراسة العهد القديم و معرفة الجواب. نظريات جديدة حول التاريخ ظهرت و اندثرت من خلال تطابقها مع تعاليم العهد القديم. ثم بدأت ملاحظة التناقضات.
عندما بدأت البشرية بدراسة العهد القديم بالتفصيل من خلال مقارنة النصوص المختلفة التي تتحدث عن نفس الموضوع بهدف الحصول على أكبر قدر ممكن من التفاصيل، بدأ الناس بملاحظة روايات متعارضة لأمور كثيرة بالإضافة إلى مشاكل أخرى. على سبيل المثال، في القرن الحادي عشر، لوحظ أن قائمة الملوك الآدوميين في سفر التكوين /36/ تذكر أسماء ملوك عاشوا بعد موت موسى بوقت طويل. ثم بدأ الناس بملاحظة تصريحات مثل "إلى يومنا هذا" بأن حقيقة ما تشير إلى أن الكاتب كان ينظر عبر التاريخ إلى تلك الأمور و رأى أنها استمرت إلى يومه.
بعدها لوحظ في الأعداد الابتدائية للعهد القديم كما في المخطوطات اليدوية، يقول سفر التثنية: ((هَذَا هُو الكَلامُ الذِي كَلَّمَ بِهِ مُوسَى جَمِيعَ إسْرَائِيلَ في عَبر الأُرْدُن..)) لاحظوا أن الكلمات "عَبر الأُرْدُن" تشير إلى أناس كانوا بالنسبة للكاتب على الضفة المقابلة لنهر الأردن. إلا أن الكاتب المزعوم – موسى نفسه – من غير المفترض أن يكون في إسرائيل خلال حياته.
ولوحظ أيضاً أن موسى يتحدث بالتفصيل في [التثنية 34: 5-10] عن كيفية موته و مكان دفنه. كما يقول موسى عن نفسه أن أكثر الناس تواضعاً (1) على وجه الأرض في [العدد 12: 3] (هل سيقول أكثر الناس تواضعاً على وجه الأرض أنه كذلك؟). في العدد [التثنية 34: 10] نقرأ: ((ولم يَقُمْ مِنْ بَعدُ نبيًّ في إِسرائيلَ كموسى)) و هذا يشير أيضاً أن الكاتب كان ينظر إلى موسى عبر التاريخ بعد وقت طويل من موت موسى. و في هذا العصر فتحت أبواب الطوفان لظهور المزيد من التناقضات التي لا تحصى.
==============================
(1) أبدلت كلاً من الترجمة العربية المشتركة و ترجمة فاندايك كلمة "متواضع" بكلمة "حليم" و أبقتها الترجمة الكاثوليكية
==============================
كان يُزعم في البداية أن موسى كتب أسفار Pentateuch ("أسفار موسى" الخمسة) و أي شخص يعارض هذه الحقيقة يُعاقب بشدة أو أكثر من ذلك. من ناحية أخرى، فمنذ أن أصبحت هذه الأمور معروفة تماماً، أصبح من الضروري إيجاد تفسيرات لذلك. فمثلاً، أول تفسير قُدّم فيما يخص الأعداد التي تشير إلى موت موسى هو أن موسى (عليه السلام) قد كتب أسفاره، إلا أن أنبياء لاحقين له – بالإضافة إلى نسّاخ "موحىً لهم" (الذين يمكن اعتبارهم أيضاً أنبياء) – قد أضافوا فيما بعد القليل من السطور هنا و هناك. بهذه الطريقة بقي النص "وحي" الله 100%. إلا أن هذا التفسير لم يصمد أمام الفحص لأن الطابع الأدبي للأعداد واحد على طول النص. على سبيل المثال، الأعداد التي تصف موت و دفن موسى تبدي الخصائص الأدبية ذاتها للأعداد التي قبلها و بعدها.
بعد ذلك، أصبح التوجه في شرح كافة التناقضات من خلال التجريد و التفاسير المفصلة، أو من خلال تقديم روايات تفصيلية إضافية لم تظهر في النص المقدس. في هذه الأثناء تم اكتشاف أمر جديد مذهل. لقد لوحظ أن القصص الواردة في أسفار موسى الخمسة قد جُمعت من مصادر ثنائية "doublet". ثنائية المصادر معناه أن قصة ما قد رويت مرتين. يمكن ملاحظة هذه الثنائية حتى في الترجمات الإنكليزية للكتاب المقدس. هذه المصادر المزدوجة قد دُمجت بتآمر لتصبح رواية واحدة.
فمثلاً، هناك ثنائية في رواية خلق العالم، العهد بين الله و إبراهيم، تسمية إسحاق، إدعاء إبراهيم أن زوجته سارة هي أخته، قصة رحلة يعقوب إلى بلاد الرافدين، وحي يعقوب في بيت إيل، .. إلخ. في كثير من الأحيان تتناقض هذه المصادر الثنائية حقيقةً فيما بينها. فنهض المدافعون مرة أخرى بتفسير بين أيديهم. فقالوا أن المصادر الثنائية إنما هي تفسيرية وليست متناقضة. فزعموا أنها وجدت لتعلمنا درساً من خلال تناقضها "الظاهري". إلا أن هذا القول لم يحفظ ماء الوجه لفترة طويلة. السبب أنه بعد فترة قصيرة اكتُشف أنه عند فصل المصادر الثنائية في روايتين منفصلتين، فإن كل رواية تكاد تحافظ على اسم الإله المستخدم فيها. أحدها يشير دوماً إلى الله بإسم يهوة/جهوفا (Yahweh/Jehovah). سُمّي هذا المصدر بـ"J". أما الآخر فكان يشير إليه بإسم إلوهيم (Elohiym) – أي الله. فسمي هذا المصدر بـ"E". لقد كان هناك ميزات أدبية أخرى متنوعة وجدت بعد ذلك أنها تميز أحدهم عن الآخر. فأصبح من الواضح أن أحداً ما قد أخذ روايتين منفصلتين عن كهانة موسى (عليه السلام)، فقطعهما ثم أعاد حياكتهما معاً بتآمر تام حتى لا يكشف تصرفه إلى بعد قرون عديدة لاحقة.
عندما تم هذا الاكتشاف، أصبح العهد القديم مرة أخرى موضع الفحص من قبل العلماء و اكتشف أن الأسفار الخمسة Pentateuch لم تكن مكونة من مصدرين رئيسيين فحسب، بل أربع. لقد اكتُشف أن بعض القصص لم تكن من مصادر ثنائية فحسب، بل ثلاثية. تم التعرف على ميزات أدبية إضافية لهذه المصادر. فسمي المصدر الثالث بـ "P" (كهنوتي priestly)، و الرابع سمّي بـ "D" (نسبة إلى التثنية Deuteronomy). استُنتج في النهاية أن الأربعة الأولى من "أسفار موسى" هو نتيجة دمج ثلاث روايات منفصلة و المسماة J-E-P و وجد أن سفر التثنية هو رواية منفصلة و التي سميت D. أما الشخص أو الأشخاص الذين قاموا بجمع هذه المصادر و حاكها مع بعضها فسمّوا "المنقحين The Redactors".
--يتبع--
المفضلات