

-
رد د. يوسف زيدان على الانبا بيشوي مطران دمياط حول رواية عزازيل التي تدمر المسيحية !
رد د. يوسف زيدان على الانبا بيشوي مطران دمياط حول رواية عزازيل التي تدمر المسيحية !
===============
د. يوسف زيدان يكتب: بهتان البهتان فيما يتوهمه المطران (١)- زمن المحبة
٢٩/ ٧/ ٢٠٠٩
أن تكون د. يوسف زيدان بما تمثله من قيمة وقدر كعالم كبير وباحث استثنائى فى الدراسات التاريخية وتحقيق المخطوطات، فأنت مطمع حقيقى لأى جريدة تسعى للتميز وتجتهد فى تقديم كل ما تستطيع لقرائها بتعدد ثقافاتهم واهتماماتهم وعقائدهم وميولهم الثقافية والسياسية، وأن تكون صاحب «عزازيل»، الرواية الأهم عربياً هذا العام، بكل ما تمثله من قيمة أدبية وجدل كبير لا ينقطع حول تفسيراتها وقراءاتها المتباينة، فقد زاد لدينا اليقين والقناعة بأن وجوده معنا ومعكم سيمثل إضافة مهمة للجريدة وقارئها.
و«المصرى اليوم» حين ترحب بانضمام د. يوسف زيدان لكتابها الكبار تسعى لإضافة مزيد من التنوع على باقة كتابها الذين يمثلون وجهات نظر مختلفة وقناعات متباينة وانتماءات متنوعة دعماً لـ«ليبرالية» حقيقية تسعى لبنائها ودعمها فى مساحات الرأى، وترسيخاً لقيم الحوار الجاد الذى يمثل أهم القيم التى تغيب كثيرا فى مجتمعاتنا ولا تبدو حاضرة إلا نادرًا.
اختار د. يوسف زيدان أن يبدأ مع «المصرى اليوم» بسلسلة مقالات يرد فيها على كل ما أثير من جدل على روايته «عزازيل» بعد شهور طويلة من الصمت، ولأن «المصرى اليوم» أفردت قبل أيام للأنبا بيشوى، سكرتير المجمع المقدس، حوارًا عبر فيه عن وجهة نظره فى «الرواية» إلى جانب تغطيات صحفية كثيرة لمواقفه من الرواية وصاحبها، كان طبيعياً أن تمنح زيدان فرصة الرد الهادئ دون أن تكون طرفاً فى هذا الجدل، وإنما ساحة لحوار جاد هادئ بين قيمتين كبيرتين يسمح فى النهاية للقارئ - وهو غايتنا الأولى والأخيرة - أن يفهم ويستمتع ويتعلم قيمة الحوار وجدواه.
رئيس التحرير
لم أكن أتوقع من صديقى الأنبا بيشوى- مطران دمياط وكفر الشيخ وبرارى بلقاس، رئيس دير الست دميانة للراهبات القبطيات، سكرتير المجمع المقدس لكنيسة الأقباط الأرثوذكس، مسؤول المحاكمات الكنسية- أن يبالغ فى ثورته غير المبررة، وحملته الشعواء ضد روايتى الأخيرة عزازيل، التى بلغ غضبه منها مداه فوصفها بأنها: «أبشع كتاب عرفته المسيحية!»
ومع أن المطران عبَّر عن رأيه السلبى فى الرواية بين المحيطين به، ثم أصدر ما يسمى البيان الرسمى الصادر عن الموقع الرسمى للأنبا بيشوى «الأنبا خطأ، وصوابه الأمبا» ثم وزع بيانه الرسمى هذا الحافل بالتوهمات، على جميع الجرائد والمجلات ونشرتْه، ثم توعَّد بإصدار كتاب ضد الرواية وأصدره، ثم تفرغ للإدلاء بالأحاديث الصحفية ليهاجم الرواية بكل ما فيه من قوة، ثم راح مؤخراً يكتب المقالات الصحفية الملتهبة ضدى.. بل بلغ به الأمر أن صار يطلق النداءات لعلماء المسلمين، ولأهل القبلة التى ينكرها حتماً، كى ينتبهوا للمؤامرة «الجهنمية» التى يتوهمها، بسبب قراءته الخاطئة لروايتى.
ولعام كامل تحاشيت الاشتباك مع المطران، ظناً منى أنه بعد حين سيهدأ ويهدِّئ من ثورته غير المفهومة، فيوقف الحملة الشعواء الشنعاء. غير أننى رأيت أن الأيام تزيد من غضبه اشتعالاً وتأججاً، والتزامى بعدم الرد عليه توقيراً له يزيده حنقاً. فوجدت من الواجب أن أناقشه بهدوء فى هذه المقالات، وسوف أخصص هذه المقالة «الأولى» للكلام عن بداية الحكاية، لأن النهايات لا تصح إلا بتصحيح البدايات، ولأننا لن ننتهى إلى رؤية واضحة ما لم ننظر فى الكيفية التى بدأت بها الحكاية. وهو ما سوف يعيدنى عبر السطور التالية إلى زمن جمعتنى فيه المحبة مع نيافة المطران الأمبا «هذه الكلمة قبطيةُ الأصل تحرفت فصارت الأنبا، ومعناها الأب أو المعلم».
فى صيف عام ٢٠٠٧ كنتُ كعادتى منهمكاً فى شؤون خاصة وأخرى عامة، أتشاغل بها عن الوقوع فى دوامات البكاء على الأطلال ونعى الواقع المعاصر، أملاً فى تحقيق أمر نافع يبقى من بعدنا للأجيال القادمة. وكان من شؤونى الخاصة الشاغلة الانتهاء من مراجعة البروفات الأخيرة لرواية عزازيل، التى سعيت من خلالها إلى إحياء لون مطمور من الأدب العربى القديم، الذى رأيت آثاره وشواهده فى «حىّ بن يقظان» و«سلامان وأبسال» و«رسالة العشق» لابن سينا، ورسالة «الغربة الغربية» للسهروردى، و«طواسين» الحلاج و«منطق الطير» لفريد الدين العطار.
ومن الناحية العامة، كانت تشغلنى شؤون وأعمال مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية، وهى شؤون وأعمال يعرف كُلُّ مَنْ يعرفنى أنها غامرةٌ هادرةٌ لا يتوقف شغلها الشاغل طيلة النهار.
وفى يوم من تلك الأيام المزدحمة كالعادة، أخبرونى بأن نيافة الأمبا بيشوى يزور متحف المخطوطات، ويطلب مقابلتى على غير موعد. لم أكن آنذاك أعرفه شخصياً، لكننى توقيراً لرتبة المطرانية، كان لابد من إزاحة شواغلى كلها جانباً، واستقباله بمكتبى لبضع دقائق أو لنصف الساعة، هكذا ظننتُ، لكن اللقاء امتد بنا ثلاث ساعات ممتعة.
وقد دخل المطران مكتبى يحوطه فريقٌ من صحفيى الجريدة التى يُصدرها نيافته «نداء الوطن» وعلى رأسهم رئيس تحريرها، فالتقط الصحفيون ما لا حصر له من صور لنا، ثم جلس المطران وهو يقول إنه يعرف أننى مشغولٌ بالتراث المسيحى، قلت له: يشغلنى الآن نسطور ومشكلته اللاهوتية..
وهكذا انهمكنا فى نقاشٍ ممتع، عرف المطران خلاله وجهة نظرى فى نسطور والنسطورية، وعرفتُ منه ما كنتُ أعرفه من موقف الأقباط التقليدى من تلك المشكلات التاريخية التى وقعت قبل ألف وخمسمائة عام، وأدَّت إلى حرب شعواء بين الكنائس المختلفة، فصارت كل كنيسة منها تتهم الأخريات بالكفر والهرطقة والضلال المبين.
وفى ذاك اللقاء، أخبرت المطران بأننى أحرص على إشراك آباء الكنائس المشتغلين بالعلم والمعرفة فى المؤتمرات الدولية التى نعقدها بالمكتبة كل عام، لبحث قضايا التراث والمخطوطات، ودعوته للمؤتمر فأعرب عن موافقته المبدئية على المشاركة، وافترقنا وقد ربطت بيننا المحبة برباط وثيق. أو هكذا ظننتُ.
بعد أسابيع دعانى المطران إلى إلقاء محاضرة على الراهبات فى دير الست دميانة ببرارى بلقاس، فاندهشتُ! لم أكن أتصور أن أمراً مثل ذلك ممكن الحدوث، اتصلت ببعض أصدقائى من آباء الرهبان القاطنين بالأديرة، فقالوا إنهم لم يسمعوا بمثل ذلك من قبل.
شخصٌ مسلمٌ يعطى للراهبات محاضرة، هذا عجيب، لكنه يعكس تقديراً كبيراً لك، هكذا قالوا، فوافقتُ واخترتُ من الموضوعات ما رأيتُ أنه الأنسب للراهبات، وهو «التصوف الإسلامى» على اعتبار أننى أبحث دوماً عن نقاط الالتقاء والتقارب بين الجماعات الإنسانية، انتصاراً للإنسانية التى تجمعنا.
ومعروف أن التصوف، كاتجاه روحى فى الإسلام، يقترب من الرهبنة التى تُعد أكثر الاتجاهات روحانية فى الديانة المسيحية. وقد قصدت فى المحاضرة، الإشارة بوضوح إلى توقير صوفية المسلمين للرهبنة والديرية، سواءٌ فى عبارات الصوفية الأوائل، أو أشعار أبى الحسن الشُّشْترى، أو كلام محيى الدين بن عربى عن الأولياء الذين يستقون من المشرب العيسوى.
كان اللقاء والمحاضرة، واليوم كله بديع، وقد قَدَّمنى المطران للراهبات فى ابتداء المحاضرة بشكل جميل، ووصفنى لهم بأننى «معجزة ربانية» لأنه على حدِّ قوله: «لم يقابل من قبل شخصاً مثلى، له هذه القدرة على استدعاء النصوص الكاملة من التراثين الإسلامى والمسيحى».. وقال كلاماً كثيراً طيباً.
وفى ذاك اليوم المفعم بالمحبة طلب منى المطران فحص المخطوطات المحفوظة بالدير، ففحصتها وصحَّحت لهم كثيراً من المعلومات «المتوهمة» بشأنها. وقد أرسل لى المطران بعد ذلك ألبوم الصور التى تم التقاطها لنا، موقَّعة منه، وقد نشر هو بعضها الأسابيع الماضية فى عديد من الصحف، ثم مرت الأيام متسارعة الخطى، حتى جاء وقت انعقاد المؤتمر «مايو ٢٠٠٨» فحضر المطران وشارك بكلمةٍ فى اليوم الأخير منه.
ومن المهم هنا أن نشير إلى أن هذا المؤتمر السنوى يشارك فيه كبار الباحثين فى العالم، ونخبة ممتازة من الشخصيات الدينية المسيحية من جميع الكنائس: السريان الأرثوذكس «كنيسة أنطاكية» الأقباط الأرثوذكس «الكنيسة المرقسية» الروم الأرثوذكس، الإنجيليين المصريين «البروتستانت» وكنائس الكاثوليك.. وكان كلام صديقى المطران فى المؤتمر غامضاً بعض الشىء، فأردتُ أن أفسح له المجال لمزيد من الإيضاح كى يستفيد الحاضرون من كلامه، فناقشته فى بعض النقاط وتركت له المجال للإفصاح، فقال كلاماً غريباً منه قوله إن الأقباط هم «الموحدون» وإن نسطور والكنيسة النسطورية مشركون بالله!
وقد صخبت بعض الصحف عليه فى حينها، فتولَّى الرد عليها وصحَّح للناس ما سمعوه منه. وهذه كلها من الأمور التى تنشأ مع الحوار الحقيقى بين أصحاب الرؤى المختلفة، سعياً للتفاهم والتعايش بين البشر على اختلاف الدين والمذاهب والمعتقدات.
وامتدت جسور الحوار مع صديقى المطران، مثلما كانت ولاتزال ممتدة مع غيره من المطارنة والأساقفة والكهنة والرهبان، سواء من الكنيسة المرقسية التى ينتمى إليها، أو من الكنائس الأخرى المخالفة لها والمختلفة معها. تماماً، مثلما تمتد جسور الحوار بينى وبين الإسلاميين التقليديين وغير التقليديين ومع اليساريين والعلمانيين ومع العلماء والمتعلمين والجهال والمتعالمين. لأننى أؤمن بأنه ليس من حق أحد مصادرة فكر أحد! وليس من الصواب أن يعتقد شخصٌ أن الجميع مخطئون وهو وحده على صواب.
عموماً، فلنرجع بالكلام إلى ما كان مع نيافة المطران لم يحدث قطّ أننى كتبتُ فى حياتى مقالة عن شخص من المعاصرين، بل ولا صفحة واحدة! مع أن مجموع صفحاتى المنشورة كتباً ودراسات ومقالات، يزيد على خمسة وعشرين ألف صفحة.
اللهم إلا فى تلك المقالة الوحيدة من نوعها، المنشورة بجريدة الوفد ضمن سلسلة مقالاتى التى كانت تُنشر هناك ضمن باب أسبوعى عنوانه «كلمات»، وجاء نشر المقالة يوم الثلاثاء ٢٥/٩/٢٠٠٧، بعنوان «بيشوى» ولسوف أُورد فيما يلى نصها، على النحو الذى نُشرت به فى حينه. ليرى الناظر فيما يلى عمق تلك المحبة التى جمعت بينى وبين المطران الذى سأرد على ردوده، وأصحِّح له ما يعتقده من توهمات، فى الأسابيع المقبلة.
«بيشوى»
هذه الكلمة غير عربية، وإنما «قبطية» الأصل، أى مصرية. إذ إن «مصر» كانت تُعرف قديماً باسم جبت «قبط» وهو الاسم الذى اشتقت منه أسماؤها الغربية التى أشهرها «إيجبت Egypt» الإنجليزية، ويقترب منها اسمها فى سائر اللغات الأوروبية.. وفى اللغة القبطية، أو المصرية القديمة، تعنى كلمة «بيشوى»: العالى أو السامى، وهى فى الأصل صفة أو لقب، ما لبث أن اختاره كثيرٌ من الرهبان المصريين «الأقباط» اسماً كنسياً لهم، بحسب ما جرت عليه تقاليد الرهبنة من تغيير اسم الشخص عند انتظامه فى سلك الرهبنة والديرية.
وأشهر من يحمل هذا الاسم الكنسى اليوم، هو الأنبا بيشوى أسقف دمياط وكفر الشيخ، رئيس دير القديسة دميانة للراهبات، وكيل المجمع المقدس للكنيسة المصرية «المرقسية» المعروفة بكنيسة الأقباط. وهذا الأسبوع، يحتفلون بمرور خمسٍ وثلاثين سنة على «رسامة» الأنبا بيشوى، أى اختياره أسقفاً. وهى رتبة كنسية عالية توافق اسمه، اختير لها لما عُرف عنه من سيرة قويمة منذ كان راهباً فى دير السريان بمنطقة وادى النطرون.
ولأننى أقضى هذا الأسبوع فى مدينة فرايبورج الألمانية، للمشاركة فى المؤتمر الدولى الكبير للاستشراق، حيث أُلقى بحثى أمام «ألف» متخصِّص فى الدراسات الاستشراقية. فقد حال ذلك دون مشاركتى بالاحتفال المقام فى ذكرى رسامة الأسقف بيشوى، الذى تجمعنى به محبةٌ عميقة وتقديرٌ كبير.
عرفتُ الأنبا بيشوى من قبل أن ألتقى به بسنوات، وكانت صورته عندى مستقاة مما يُقال عنه من أنه أحد أبرز رجال الكنيسة المصرية المعاصرين، وأكثرهم تُقى وتمسكاً بالتقاليد الموروثة لكنيسة الإسكندرية، الكنيسة المصرية، الكنيسة المرقسية «كلها تسميات لمسمى واحد» وهى تقاليد تم إرساؤها منذ القرن الثانى الميلادى عبر جهود هائلة وتضحيات لا محدودة من آباء الكنيسة المبكرين، الذين ارتقوا إلى مرتبة القدِّيسين والشهداء، من زمن الاضطهاد الرومانى للمسيحية.
ومعروفٌ عن كبار رجال الكنيسة القبطية المعاصرين أنهم لا يحبون «مراجعة» التاريخ الكَنسِى أو الاقتراب من وقائعه القديمة! وقد تأكد ذلك عندى فى أول لقاء جمعنى مع قداسة الأنبا بيشوى، حيث انهمكنا ثلاث ساعات كاملة فى مناقشة الخلاف القديم بين الكنيسة المرقسية التى ينتمى إليها ويُعد أحد أقطابها الكبار والكنيسة الأشورية «الكلدانية» التى تسير على خطى نسطور أسقف القسطنطينية المعزول عن رتبته سنة ٤٣١ ميلادية، بعد خلافه اللاهوتى مع أسقف الإسكندرية آنذاك: كيرلس «عمود الدين».
غير أننى كنت أُلقى محاضرة للراهبات فى دير القديسة دميانة منذ قرابة شهرين، تلبيةً لدعوة الأنبا بيشوى وبحضوره، فتطرق الكلامُ بنا إلى «العنف» المرتبط بتاريخ الديانات، مع أن المحاضرة كان موضوعها: «الرهبنة والتصوف!»
فذكرت فى أثناء كلامى للراهبات «الأخوات، الأمهات» أن العنف لا يرتبط بجوهر الديانة، بقدر ما يرتبط بالظروف التاريخية لأهلها وبالتوجيه المغرض للنصوص الدينية، إلا أن المسيحية، «ديانة المحبة»، عرفت وقائع مريعة، منها ما فعله الإسكندرانيون سنة ٣٦١ ميلادية من قتل أسقف المدينة المفروض عليهم من روما «جورجيوس الكبادوكى» وتمزيقه فى الشارع إلى قطع من اللحم والعظم..
وارتجفت بواطن الراهبات، وعلَّق الأسقف الجليل «الأنبا بيشوى» على ذلك بقوله: «إن كان ذلك قد حدث، فهو خطأ!» وكانت تلك بالنسبة لى، هى المرة الأولى التى أجد عند أسقف مرموق القدرة على النظر إلى تاريخ كنيسته باعتباره تاريخاً إنسانياً يحتمل الصواب والخطأ، وليس تاريخاً مقدساً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولولا الروح اليسوعية «العيسوى» المرفرفة فى قلب الأنبا بيشوى، ما كان بإمكانه أن يعيد النظر فى واقعة مثل تلك، ويرى أنها «إن حدثت فهى خطأ» من دون الدفاع التلقائى، والردود الجاهزة، والتأويلات المفرطة التى تقوم عند الكثيرين منا، ومنهم، ومن غيرنا! على قاعدة: «ليس فى الإمكان أبدع مما كان».. فتأمَّل.
===========
د. يوسف زيدان يكتب: بهتان البهتان فيما يتوهمه المطران .. «٢» البيان من دون تبيان
٥/ ٨/ ٢٠٠٩
بدأت الهجمة المريعة التى يشنها مطران دمياط، الأمبا بيشوى، على رواية عزازيل وصاحبها، بعد إصدار الرواية بشهور، وصدور الطبعة الثانية منها، خلال أسابيع من ظهور طبعتها الأولى. وقد مرت هجمة المطران بمنحنيات كثيرة فى الأشهر الماضية التى ظل خلالها (يجرِّب) عدداً من الاتهامات وكثيراً من حيثيات الإدانة، سعياً للنيل من مؤلف الرواية وأملاً فى بلوغ مناه الذى ما أظنه سيناله أبداً، لا فى هذه الحياة ولا فى الآخرة؛ لأن الرواية ببساطة شديدة، ليس فيها ما يتوهمه المطران من عداء للمسيحية.
وقد بدأت هذه الحملة المنظمة ببيان رسمى، نشره الموقع الرسمى للمطران على شبكة الإنترنت، تحت عنوان: بيان حول رواية عزازيل للدكتور يوسف زيدان. وبالطبع فوجئ مؤلف الرواية بالبيان، لأنه كان يظن أن رابطاً من المحبة والصداقة يجمعه مع المطران.. ثم فوجئ بأن المطران يرسل له البيان على الفاكس.. ثم فوجئ فى اليوم التالى بأن البيان - الذى جاء كما سنرى من غير تبيان- منشور فيما لا حصر له من جرائد ومواقع إلكترونية..
غير أن تلك المفاجآت لم تروِّع مؤلف الرواية، لأنه عرف منذ اللحظة الأولى أن سهم المطران طاش، وأنه لن يبلغ يوماً مرماه ولن يصل إلى مبتغاه. حتى (عنوان) البيان ذاته، خانه التوفيق ودقة التعبير، لأنه بحسب ما يقول المطران: حول رواية عزازيل! هو إذن ليس (عن) الرواية، وليس (فى) الرواية، وليس (بصدد) الرواية أو بشأنها. وإنما هو بيان (حولها) أى أنه فى حقيقة الأمر، يدور ويلف (حول) الرواية، ولا يقترب منها. فلا حول ولا قوة إلا بالله!
يبدأ البيان بقول المطران: "لم نكن نتوقع من صديقنا سابقاً، الدكتور يوسف زيدان رئيس قسم المخطوطات بمكتبة الإسكندرية أن يهاجم القديس كيرلس" .. هذا كلامه، وهو دال بوضوح على أننا لم نعد أصدقاء، وهو ما نبَّهنى بطريقة غير مباشرة، إلى حقيقة أننا لم نكن يوماً أصدقاء.
والبيان يتكلم فيه المطران بصيغة الجمع (لم نكن نتوقع.. صديقنا سابقاً.. وسوف نرد.. إلخ) فهل تراه يقصد أن يتكلم عن مفرد بصيغة الجمع، لتعظيم نفسه؟ لا أظن، فقد دعاه السيد المسيح إلى التواضع، مثلما يدعونا الإسلام إلى التواضع أيضاً. أو لعله يشير بذلك إلى أن مؤلف الرواية سوف يقف فى (المعركة القادمة) وحده، بينما المطران يستند إلى مؤسسة كاملة يتحدث باسمها، وبذلك يقع الرعب فى قلب مؤلف الرواية. لكن المطران لا يعرف أن المؤلف يستند إلى خلفية صوفية تجعله لا يفزع من التهاويل، ولا يرتجف من رجفة المرجفين، لأن أهل الأرض جميعاً لو اجتمعوا، فلن يؤذوه بشىء ولن ينفعوه بشىء، إلا بما كتبه الله عليه.
والمطران يلمِّح فى بيانه إلى عمل المؤلف فى المكتبة، ويشير إلى أنه لم يكن حسبما يريد البعض! وكأنها محاولة للاستعداء عليه بالتلويح إلى وظيفته، ظناً من المطران أنه سوف ينال من المؤلف من هذا الطريق، وهو ما سيظهر جلياً بعد سطور قليلة من بيانه، وفى كثير من (حواراته) الصحفية المنشورة (حول) عزازيل، حيث يتجلى نزوع المطران إلى تهييج مكتبة الإسكندرية على مؤلف عزازيل، ثم نراه يستعدى الحكومة المصرية ملوحاً إليها بخطر عظيم، هو أن رواية عزازيل سوف تُحدث فتنة بين المسلمين والمسيحيين!
ولو (حسبما يقول المطران) على المدى البعيد! ثم يستعدى لجنة التحكيم فى جائزة البوكر، ويدعوها لمراعاة شعور الأقباط! ثم نراه يستعدى النقاد والكتاب، مثلما فعل الشهر الماضى مع الأستاذ بهاء جاهين الذى كتب مقالة بديعة عن الرواية فى الأهرام، فأرسل له المطران رداً فيه تهويلا وتخويفا وإفزاعا، فتراجع بهاء جاهين عن مقاله واعتذر عنه! ثم يستعدى المطران فى (حواراته) علماء الإسلام ويهيجهم ضد مؤلف الرواية، لأنها حسبما يزعم المطران تريد أن تهدم كل الأديان!
وأخيراً، يستعدى المطران دار النشر (الشروق) التى أصدرت الرواية! ففى حواره المنشور فى جريدة "المصرى اليوم" ١٨/٧/٢٠٠٩ يرد على السؤال: هل حزنتم لحصول الدكتور زيدان على جائزة البوكر العربية عن الرواية ذاتها؟ بقوله: بالتأكيد، ولكننا حزنَّا أكثر على مَنْ رشحه لهذه الجائزة، لأنهم أثبتوا عدم غيرتهم على الكنيسة المصرية الوطنية.
لكن هذه محاولات المطران كلها لم تفلح، ولم يجد خلال الشهور الماضية معيناً له فى الحرب الوهمية التى يتخيل أنه بطلها، وذلك ببساطة وإيجاز، لأن مكتبة الإسكندرية منارة لكل الاتجاهات الفكرية، ولن تقمع أحد مؤسسيها لإرضاء المطران. والحكومة المصرية تعرف أن الفتن الطائفية لا تأتى من الروايات، وإنما من ظالمى القلوب ومظلمى العقول. ناهيك عن أن (عزازيل) أضافت للرصيد الأدبى لهذا البلد جائزة دولية جديدة، فى زمن يقول فيه الذين لا يعرفون، إن مكانة مصر الثقافية تتراجع.
ولجنة تحكيم البوكر لم يكن يهمها إلا المستوى الأدبى للأعمال المرشحة، وبالتالى لم تلتفت إلى كلام المطران ومنحت الجائزة لعزازيل بإجماع لجنة التحكيم. والنقاد والكتاب لم يلتفتوا إلى ما فعله المطران مع بهاء جاهين، ومازالت أقلامهم تفيض بالكتابات النقدية عن الرواية، حتى بلغ مجموع ما كُتب عن (عزازيل) حتى الآن، قرابة ألفى صفحة. والعلماء المسلمون يعرفون أن المطران ليس غيوراً على الإسلام، بل هو لا يعترف به أصلاً، ولذلك لم يصدقوا تنبيهاته إلى (خطر) الرواية على الإسلام وعلى كل الديانات.
والناشر لن ترعبه تخويفات المطران، لأن الرواية ليس فيها ما يعادى المسيحية فى واقع الأمر، بينما حققت فى مدة صدورها القصيرة نسبياً، أعلى توزيع فى تاريخ الأدب العربى، فصدر منها فى أربعة عشر شهراً أربع عشرة طبعة (الطبعة خمسة آلاف نسخة) وتم تحميل ما يقرب من مائة ألف نسخة إلكترونية منها عبر الإنترنت ناهيك عن إضافة (عزازيل) لرصيد الناشر، جائزة دولية هى البوكر العربية.
وعلى هذا النحو، خاب مسعى المطران فى إيجاد شريك له فى الحرب الوهمية التى يشنها ضد الرواية، ولم يستطع تكوين (فريق الأعداء) الذى كان يحلم بأنهم سوف يحققون له مراده نيابة عنه. وعلى كل حال، فإننى أميل لمسامحة المطران، وأرجو أن يأتى يوم، يسامح فيه المطران نفسه على المضى قدماً فى هذا الطريق الذى لا أرضاه له، نظراً لمكانته الروحية المتميزة التى كانت تقتضى، أن ينأى بنفسه عن سلوك مثل تلك الطرق غير الخليقة بأمثاله.
ثم يقول البيان، وياللعجب، إن المؤلف "يهاجم القديس كيرلس عمود الدين، بطريرك الإسكندرية الرابع والعشرين، بمثل هذا العنف، فى روايته العجيبة عزازيل، التى حاول أن يأخذ فيها منحى دان براون فى روايته شفرة دافنشى" .. هذا كلامه، وهو دال على أنه يربط بين روايتين لا أظن أنه قرأهما قطُّ، أو هو على الأقل لم يقرأهما قراءة صحيحة. صحيح أن الروايتين تمسان التاريخ المسيحى، وتتماسان معه.
لكن رواية دان براون فى النهاية عملٌ بوليسى مشوق، وعزازيل عمل فلسفى مُشقٍ! الأولى مغامرات والأخرى قلقٌ وحيرة، الأولى فيلم سينمائى ينتهى بفوز البطل بالبطلة، والأخرى حنين وجودى للحقيقة، ومسار لا ينتهى إلا بالانتصار للإنسانية ضد العنف المتوسل بسلطة الدين. شفرة دافنشى تنطلق من فكرة لم تثبت تاريخياً عن زواج عيسى عليه السلام بمريم المجدلية وإنجابه ذرية منها، بينما عزازيل تستند إلى وقائع تاريخية فعلية وحقائق لا يمكن إنكارها، وليس فيها خطأ تاريخى واحد.. مهما حاول المطران التشكيك فى ذلك.
ثـم يقول المطران فى بيانه: "وسوف نرد بمشيئة الرب على كل ما نـوى بـه د. يـوسف زيدان تدمير العقيدة المسيحية الأصيلة".. وهذا بالطبع من عجيب الكلام. فمن أين أتى المطران بأن أحداً يريد تدمير العقيدة المسيحية الأصيلة؟ ناهيك عن عدم توفيقه فى صياغة العبارة (مانوى به تدمير!) ومن أين أتى المطران بأن رواية ما، من شأنها تدمير عقيدة؟ وما الذى يقصده المطران بالعقيدة المسيحية الأصيلة.
هل هى عقيدة أهل خلقيدونية وكنيسة الروم الأرثوذكس، أم عقيدة اليعاقبة الذين ينتمى المطران إليهم، أم عقيدة النساطرة الذين قدموا خلال قرون طوال خدمات جليلة للإنسانية بسبب اشتغالهم بالعلوم، وبسبب ترجمتهم للنصوص العلمية من اليونانية والسريانية إلى اللغة العربية، أيام الحركة النشطة فى الزمن العباسى حين قام النساطرة وعلى رأسهم أشهر مترجم فى تاريخ العلم الإنسانى (حنين بن إسحاق العبادى النسطورى) بنقل ما لا حصر له من كتب علمية إلى اللغة العربية.
أم تراه يقصد عقيدة الفاتيكان وهؤلاء الكاثوليك، الذين يرى المطران أنهم كفار؟ أم يقصد عقيدة الإنجيليين الذين قال المطران عنهم إن عليهم هجر كنيستهم والمعمودية من جديد فى كنيسته هو، وإلا صاروا جميعا أولاد زنى، لأن زواجهم الحالى غير شرعى من وجهة النظر المسيحية. وهكذا صار ما يقرب من سبعمائة ألف مسيحى مصرى، عند المطران، أولاد حرام.. حرام عليك يا نيافة المطران! وإذا كانت هذه هى نظرتك لزواج مسيحيين، هم أخوة لك فى الدين، لأنهم اختلفوا معك فى العقيدة. فكيف ترى قياساً على ذلك، زواج المسلمين المختلفين معك فى الدين والعقيدة معاً؟
أما لماذا ربط المطران بين عزازيل وشفرة دافنشى، فذلك لأنه سبق له أن كتب كتاباً بالإنجليزية للرد على دان براون، وينوى أن يرد بكتاب آخر على رواية عزازيل.. إذن، هو متخصِّص فى الرد على الروايات التى تشتهر! ومع ذلك، فإنه لم يدرس النقد الأدبى، وهو لا يقرأ أى رواية بشكل كامل، كما سوف يصرح لاحقاً ومبرراً ذلك بأن هناك عشرات الصفحات لا يستطيع أن يقرأها، لأنها تشتمل على مشاهد عشق لا يقدر على قراءتها، ولا يجوز له ذلك. ولكنه من ناحية أخرى، يرى من الواجب عليه أن يرد على الروايات التى تروج، بكتب ليس فيها صفحة (نقد) واحدة.
ثم يقول المطران فى بيانه (الرسمى) ما نصه: "ونتعجب من تدخله (يقصد مؤلف رواية عزازيل) السافر، بهذه الصورة، فى أمور داخلية تخص العقيدة المسيحية.. إلخ." فكيف يظن المطران أن ما عرضت له الرواية، هو شأنٌ داخلى؟ هل تاريخ مصر فى القرن الخامس الميلادى شأنٌ داخلى؟ وهل مقتل هيباتيا التى أظلم من بعدها تاريخ العلم الإنسانى لخمسة قرون كاملة، شأنٌ داخلى؟ وهل صراع الكنائس الذى زلزل العالم وأشقى الناس فى أنحاء الأرض، وأدى إلى مقتل عشرين ألف قبطى فى ميدان محطة الرمل بالإسكندرية (بوكاليا) على يد الحاكم المسيحى المسمى المقوقس، هو شأنٌ داخلى؟ وهل البحث عن الحقيقة شأن داخلى؟ وهل الشأن الداخلى، هو حقاً شأنٌ داخلى؟
ثم يقع البيانُ الرسمى للمطران فى خطأ فادح حين يظن أن الرواية، حسبما يقول: «تتخذ من أحد المخطوطات السريانية سنداً .. ولدينا من المخطوطات أيضاً ما يُسقط الدعاوى الواردة فى هذه الرواية». هذا كلامه الأعجب، ولو سأل أو استفسر أو استشار، لعرف أنه لا توجد مخطوطات كى يرد عليها بمخطوطات.
ثم يزيد البيان من طين الخطأ بلةً، حين يقول ما نصه: "من المعروف أن هيبا أسقف الرها فى المشرق الأنطاكى، لم يكن راهباً من صعيد مصر كما تصوره الرواية".. هذا كلامه الدال على أنه لم يقرأ الرواية أصلاً، وإلا لعرف أن البطل اختار لنفسه اسم (هيبا) فى لحظة درامية، لأنه النصف الأول من شهيدة العلم والمعرفة (هيباتيا) ولا توجد أى صلة بينه وبين أسقف الرها الذى جاء بعد أحداث الرواية بنصف قرن، واسمه: إيباس، هيباس، إيبا .. والبعض يكتبه هيبا! وهو لا توجد أى علاقة يا نيافة المطران، بينه وبين بطل الرواية.. فلا تتسرع بالحكم فتقع فى الخطأ، وتتوهَّم أن هناك أخطاء، وتتوهم أنك سوف "تُسقط الدعاوى الواردة فى رواية عزازيل" لأن الرواية لا يوجد فيها أى دعاوى.
وينتهى البيان بقول المطران: «ولدينا ما يثبت براءة البابا كيرلس أيضاً فى مسألة الفيلسوفة الوثنية هيباتيا. وإن غداً لناظره قريب».. هذا كلامه المتوعد النارى الذى مضت الشهور طوالاً ولم يقدم المطران شيئاً، حتى فى كتابه الذى سوف نرد عليه فى المقال القادم. ونوضح أن الكتاب المزعوم، فى حقيقة أمره، ليس كتابه! لكن العجيب،
بل الأعجب، هو صيغة التهديد هذه التى استعملها بقوله (وإن غداً لناظره قريب) فهل صار المطران يستعمل القاموس الإسلامى، أم أنه لا يعرف أصلاً أن هذه العبارة من التعبيرات الإسلامية؟.. لا بأس.. سوف نتقبل كل ذلك من المطران، بنفس سمحة راضية، تغفر له كل ما يقصده ومالا يقصده من أخطاء وتوهمات. ولننظر الأسبوع القادم، فى فحوى ومضمون ذلك الكتاب الطريف الذى نشره المطران تحت عنوان: عزازيل الرد على البهتان فى رواية يوسف زيدان!.
=============
د. يوسف زيدان يكتب: بهتان البهتان فيما يتوهمه المطران .. «٣» بؤس العنوان
١٢/ ٨/ ٢٠٠٩
بعدما نشر الأمبا بيشوى «مطران دمياط وعدة أماكن أخرى» بيانه المسمى "الرسمى" ضد رواية عزازيل. وهو البيان الذى جاء حافلاً بالتوهمات وسوء الفهم، ومليئاً بالأخطاء التى اجتهدت فى مقالتى السابقة أن أصحِّحها له، وأرجو أن أكون قد أفلحت. المهم، أن المطران بعد البيان الذى صدر عنه من دون تبيان، راح يتوعدنى ويكرر وعيده فى الصحف المصرية والعربية، منذراً بأنه بصدد تأليف كتاب للرد على عزازيل ومؤلفها!
لأن عزازيل حسبما يظن المطران، هى "أبشع كتاب عرفته المسيحية" ومؤلفها حسبما يتوهَّم المطران ويُوهم الناس "ينشر الأضاليل ليس عن جهل ولكن عن معرفة، وذلك لتشبثه بالرغبة فى الطعن فى العقيدة المسيحية".. هذا كلامه الذى يجب أن نصحِّحه له، قبل الكلام عن كتابه الذى صدر مؤخراً، بعد قرابة عشرة شهور من التهديد الدائم والوعيد المستمر، وهو الكتاب الذى- كما سنرى بعد قليل- تجلى بؤسه مع عنوانه.
وبدايةً، ولتصحيح أوهام المطران عن الرواية، نسأله أولاً: كيف تكون عزازيل هى الكتاب الأبشع فى تاريخ المسيحية! كيف يا نيافة الأمبا؟ ألا تعرف أن تاريخ المسيحية حافلٌ بما لا حصر له من كتب ضخمة، ومؤلفات كبار، كانت تهاجم هذه الديانة منذ ابتدأ ظهورها، خاصة فى زمنها الأول الذى لم تكن قد اتخذت فيه شكلها الحالى.. وهى على كل حال، كتب مشهورة يمكن لأى شخص معرفة قائمتها الطويلة بسؤال أحد المتخصصين، أو حتى بالبحث فى شبكة الإنترنت. وعلى هذه الكتب، يا نيافة الأمبا، ردودٌ كثيرةٌ كتبها الآباء الأوائل للكنيسة، والآباء المتأخرون أيضاً.
ولذلك، كثيراً ما نجد فى التراث المسيحى واعترافات الآباء «أى كتب العقيدة» مؤلفات عنوانها: الرد على الوثنيين.. الرد على الهراطقة.. الرد على الفلاسفة.. إلخ، وقد اندهش دارسو التراث المسيحى من قولك يا نيافة المطران، إن عزازيل هى الأبشع! اندهشوا لأنهم يعرفون تاريخ الجدل الكنسى، ومتأكدون من امتلائه بنصوص الهجوم على الديانة، وذلك لأنهم يدرسون فيعلمون.. ولكن لا يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
وأما ما يتوهمه المطران من عدائى للمسيحية، فسوف أورد له فيما يلى بعضاً من الوقائع التى لا سبيل أمامه لإنكارها، وهى تدل بوضوح على أننى بعيد تماماً عن تلك الدواهى التى يتوهمها المطران، ويكررها كل يوم فى الصحف. علماً بأننى لم أكن أُحب أن أذكر ذلك، لولا حرصى على تصحيح أوهام المطران المؤرِّقة له.
حين هجَمت الفتن الطائفية على المجتمع المصرى وهدَّدت وحدته، كنت واحداً من المجموعة الصغيرة التى شكلت «اللجنة المصرية للوحدة الوطنية» وهى اللجنة التى تكونت فى بداية التسعينيات فى الإسكندرية، كجهة غير حكومية تسعى لإرساء سبل التعايش بين المسلمين والمسيحين. وكان معى آنذاك مجموعة مختارة من مثقفى الإسكندرية، منهم: محمد رفيق خليل، أبوالعز الحريرى، كميل صديق، هشام صادق، أسامة أنور عكاشة، وليم فلتاؤس.. وغيرهم.
وكان بعض اجتماعات هذه اللجنة «الوطنية» يتم فى منـزلى، وكانت نفقات أنشطتها تغطى من تبرعات أعضائها. وقد لعبت هذه اللجنة دوراً ملموساً فى طرد شبح الفتنة، عبر فعاليات كثيرة على أرض الواقع، ولم نكن نعلن عنها فى وسائل الإعلام، إيماناً منا بأننا نقوم بواجبنا تجاه هذا البلد ولا يجوز لنا أن نطنطن بما نفعل. وقد قلَّدت القاهرة الإسكندرية، وتكونت بها بعد قرابة عامين «لجنة وحدة وطنية» للأهداف ذاتها التى كانت لجنة الإسكندرية ترنو إليها، وظلت اللجنتان تعملان معاً، لعدة سنوات.
وأنت تعرف يا نيافة الأمبا «جيداً» أننى منذ عدة سنوات، أحرص على جمع التراث المسيحى المخطوط، وأزوِّد به مكتبة الإسكندرية التى اجتمعت فيها اليوم أكبر مجموعة من المخطوطات المسيحية. وهذا جهد، لو تعلم، جهيد. وأنت تعرف «جيداً» أننى فتشتُ طويلاً عن أقدم إنجيل عربى، حتى وجدته منسياً فى دير سانت كاترين، وهو بالمناسبة «دير غير قبطى!» فنشرته إلكترونياً عن مكتبة الإسكندرية، ليتاح للناس، بسعر التكلفة.
وفى المكتبة استضفت البابا شنودة مرتين، مثلما استضفت غيره من رموز الكنائس الأخرى. وأنت تعرف «جيداً» أننى شاركت البابا شنودة فى ندوة حاشدة تحدثتُ فيها يومها عن "الإسهام المسيحى فى التراث العربى"، وتحدث البابا عن "تاريخ الكنيسة القبطية فى مصر"، وكان عدد الحاضرين للندوة يقترب من ألفى شخص.
وأنت تعرف «جيداً» أن عدداً من المسيحيين، أقباطاً وغير أقباط، يعملون معى منذ سنين طوال، ولم يحدث يوماً أنهم شعروا بأننى أفرِّق بين مسلم ومسيحى، بل الأكثر من ذلك، حرصت على إلحاق عدد منهم بالكلية الإكليريكية، ليدرسوا التراث المسيحى دراسة نظامية، وطلبت منك أيامها أن تساعدنى فى إلحاقهم بهذه الكلية..
وأنت تعرف «جيداً» أننى لأعوام طوال، ربطتنى المحبة بالآباء القاطنين فى الأديرة، ولاتزال هناك صداقات عميقة تجمعنى بهم. وقد قدمت لهم كثيراً من الخدمات والاستشارات المجانية، من أجل الحفاظ على التراث المخطوط المحفوظ فى تلك الأديرة.. وأنت تعرف «جيداً» أننى سعيت جهدى لإنقاذ المخطوطات المسيحية المحفوظة بالمتحف القبطى بالقاهرة التابع لهيئة الآثار، واجتهدت للقيام بعملية ترميم كامل لها فى مكتبة الإسكندرية، دون أى تكلفة مالية على المتحف.
مع أن الترميم باهظ التكلفة، حسبما تعلم أو لا تعلم. وقد وافق د. زاهى حواس على ذلك، وهناك مكاتبات رسمية فى هذا الصدد. ثم اجتهدتُ حتى دبَّرتُ الميزانية اللازمة لإتمام هذه الخطوة، دون أن أكلِّف المتحف القبطى أو مكتبة الإسكندرية أى متطلبات مالية. لكنك تعلم كيف قامت العراقيل المصطنعة، لتحول دون إتمام هذه الخطوة. ويعلم كثيرون من المتصلين بالأمر، أننى صبرت طويلاً على سخافات القائمين على هذه المخطوطات بالمتحف القبطى، حتى يأست من إصلاح الحال بعد طول محاولة. وها هى المخطوطات المسماة «القبطية» تأكلها العتة والأَرَضة، وتعصف بها ظروف الحفظ السيئة، حتى اليوم.
وكان الواجب عليك، فيما أرى، أن تساعدنى لإتمام هذه الخطوة النافعة للمخطوطات القبطية والمسيحية «المصرية» المحفوظة حالياً بشكل ردىء فى المتحف القبطى، الذى أنت واحدٌ من أعضاء مجلس إدارته، بدلاً من ذلك الضجيج والصخب الذى لا داعى له، ظناً منك بأنك فى «مواجهة» مع رواية عزازيل، وهى الرواية التى اعترفت فى كتابك بأنك لم تقرأها كاملة! ويا ليتك أيها المطران المبجل، استطعت مواجهة الرواية. بل بالعكس، أسهمت فى رواجها وانتشارها، وأظهرت بكتابك الذى أصدرته مؤخراً، أنك أبعد ما يكون عن التصدى «الوهمى» للرواية.. ولماذا تقول للناس علانيةً، وبثقة كاملة منك، إننى أكره المسيحية وأسعى لتدميرها ولدى أغراض ضدها؟!
أم تراك تفرح بصورك التى صارت كل يوم تنشر فى الصحف المصرية، وكأنك صرت فجأة نجماً وشهاباً لامعاً، لأنك «المتصدى» لعزازيل. يا نيافة المطران، لابد أن تعلم أن هؤلاء الذين يفسحون لك المساحات فى الصحف، من خلف ستار، هم أدباء غاظهم نجاح الرواية فاستخدموك لمهاجمتها، ليبقوا هم فى الظل والأمان، وتبلِّغهم أنت مرادهم. وعلى كل حال، فإننى تقديراً لك، لن أنشغل هنا بالرد على كلامك «الصحفى» وسوف أقوم فيما يلى بتصحيح أوهامك وتصويب أخطائك، فى كتابك العجيب الذى أصدرته مؤخراً. وسأختم هذه المقالة، بالكلام عن صفحة الغلاف فقط، وسوف أناقشك بهدوء فى محتويات الكتاب، فى مقالتى القادمة.
من المضحكات المبكيات، أن الكتاب الذى «يرد» به الأمبا بيشوى، هو ثالث كتاب «قبطى» يصدر للرد على عزازيل. كان أول هذه الكتب، روايةٌ بائسة كتبها مخبول يسمى نفسه باسم مستعار هو الأب يوتا، ويسمى روايته باسم أكثر بؤساً من صاحبها، هو: تيس عزازيل فى مكة! وقد أراد، وهو المسكين، أن يهدم الدين الحنيف كله بهذه الرواية الهزلية، التى لا يمكن أن توصف إلا بالعبط. وقد رفضها الأقباط، من قبل أن يتقزَّز منها المسلمون. ثم جاء الكتاب الثانى للقمص عبدالمسيح بسيط، بعنوان «عزازيل هل هى جهل بالتاريخ أم تزوير للتاريخ» ثم عدَّل القمص العنوان، بأن حذف منه «هل هى».. ولما قرأت الكتاب، وجدته نصاً كوميدياً لا يستوجب إلا الضحك. وقد رد عليه بعض الأقباط، قبل أن يهمله الجميع، ويصير بعد ثلاثة أشهر من صدوره، وكأنه لم يصدر.
ومن بعد هذين الكتابين، أتانا كتاب المطران الأمبا بيشوى يختال ضاحكاً، فوجدتُ فيه العجب العجاب ابتداءً من صفحة الغلاف. إذ قلَّد الكتاب فى شكل الغلاف، الرواية التى يرد عليها، بأن وضع مخطوطة فى المكان الذى فيه على غلاف الرواية مخطوطة! ولكننا سنعرف بعد قليل، أن البون شاسع بين المخطوطتين. ولكن أولاً، دعونا ننظر فى العنوان البائس الذى اختاره الأمبا، وهو: "عزازيل الرد على البهتان فى رواية يوسف زيدان!" وكأن المطران يسعى لاقتحام اللغة التراثية التى انتمى إليها، رداً على ما يعتقده من أننى اقتحمت العالم اللاهوتى الذى ينتمى إليه. وهذا وَهْمٌ مركَّب، قاد المطران إلى استخدام هذا العنوان المسجوع، الركيك، الذى لم ينتبه فيه إلى أن «البهتان» لا يصح الرد عليه.
وكان الأصوب إذا أراد هذا المعنى، أن يقول: كشف البهتان.. إظهار البهتان.. بيان البهتان .. إلخ، لأن الرد على البهتان بهتان «أى كذب كبير» وكان يجب على المطران أن يستعمل عنوان الرواية، فى صلب عنوان كتابه الذى يرد عليها، فيقول مثلاً: بيان البهتان فى رواية عزازيل ليوسف زيدان .. هتك أسرار البهتان، المتوارية فى عزازيل يوسف زيدان .. فضح خفايا البهتان المخبوءة فى عزازيل زيدان. تلك هى اللغة التى أردت يا نيافة الأمبا استعمالها، وسعيت إلى استخدام سجعها، دون أن تعرف أسرارها وقواعدها ودلالات ألفاظها. ولكن، ما علينا من ذلك كله، وما مرادى فى النهاية، إلا لفت الأنظار إلى سعى المحتار فى ليل الأسرار.
والأطرف مما سبق، أن المطران يضع اسمه على غلاف الكتاب، بجوار العنوان غير الموفَّق، كالتالى: لنيافة الحبر الجليل الأمبا بيشوى. وهى المرة الأولى فى تاريخ الكتابة العربية، التى يمدح فيها المؤلف نفسه على غِلاف كتابه. ولو تابعه كاتب آخر، أو أديب، لجاءت أغلفة الكتب والروايات، وهى تسبق اسم مؤلفها بصفات مثل: للمبدع العبقرى.. للفيلسوف الألمعى.. للكاتب الأروعِ.. للمفكر الأفظعِ..
وهكذا! لكننا سوف نرى فى المقالة القادمة، أن هذا الكتاب ليس من مؤلفات «نيافة الحبر الجليل الأمبا بيشوى» إنما هو من تأليف مجموعة من الشباب المبتدئين الذين يختلف أسلوبهم فى الكتاب، ما بين فصل وآخر. فبعضهم يكتب بشكل متسرع كئيب، وبعضهم يكتب بأسلوب شخصى يظن فى نفسه أنه خفيف الظل، وبعضهم يكتب بأسلوب تقريرى ساذج، وبعضهم يكتب من دون أن يعرف قواعد الكتابة.. وسوف أورد فيما بعد، بعضاً من الأمثلة الدالة على كل أسلوب من تلك الأساليب المذكورة.
وعلى غلاف «عزازيل» فى طبعاتها الثلاث عشرة، صورة بردية أصلها محفوظ اليوم بمتحف فيينا الذى يحتوى على أكبر عدد من البرديات المصرية فى العالم، إذ يضم أكثر من خمسين ألف بردية. وقد اخترتها بالذات، لأنها تصور البطرك القبطى ثيؤفيلوس، وهو يدعو سنة ٣٩١ ميلادية، لهدم السيرابيون «معقل الأدب والفن والعلوم فى الإسكندرية القديمة» على رؤوس الشعراء والأدباء والفلاسفة الذين كانوا يعتصمون فيه، ليمنعوه من هدمه. وقد انهدم السرابيون على رؤوس المعتصمين فيه، فى واحدة من أفظع الحوادث فى تاريخ الإنسانية، وأفجعها لأهل الزمان القديم، ولكل الأزمنة التالية..
وبدلاً من أن يفكر المطران فى الاعتذار عن هذا الإجرام «الكنسى» فى حق الإنسانية جمعاء. نجده فى الكتاب المنسوب إليه، يرد على هذه «البردية» التى تَوَّهم أنها مجرد مخطوطة، بأن يضع مكانها مخطوطة أخرى هى فى واقع الأمر «رَق» مكتوب فيه أسماء الأساقفة الذين حضروا الاجتماع الكنسى المسكونى «العالمى» فى بلدة نيقية سنة ٣٢٥ ميلادية! ما الصلة بين هذه وتلك؟ أم أن المطران يظن أن كلها مخطوطات.. وكل المخطوطات مثل كل المخطوطات.. وكل شىء مثل كل شىء.. وكتابه مثل روايتى! فسبحان الله الذى مجده فى السماء، وعلى الأرض السلام، وللناس المسرة.
معلومات الموضوع
الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
المواضيع المتشابهه
-
بواسطة Ahmed_Negm في المنتدى من ثمارهم تعرفونهم
مشاركات: 3
آخر مشاركة: 18-11-2018, 02:03 PM
-
بواسطة Ahmed_Negm في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 1
آخر مشاركة: 18-04-2009, 10:05 PM
-
بواسطة Ahmed_Negm في المنتدى من ثمارهم تعرفونهم
مشاركات: 7
آخر مشاركة: 28-02-2009, 07:25 PM
-
بواسطة وا إسلاماه في المنتدى منتدى الكتب
مشاركات: 7
آخر مشاركة: 28-01-2009, 11:26 AM
-
بواسطة مجاهد في الله في المنتدى منتدى نصرانيات
مشاركات: 5
آخر مشاركة: 13-08-2008, 04:56 AM
الكلمات الدلالية لهذا الموضوع
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى

المفضلات