هل هناك تكرار بين الآيتين 48 و 123

الرد

سورة البقرة 48
وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ

قوله تعالى : { وَاتَّقُواْ يَوْماً } يذكرهم بهذا اليوم . وهو اليوم الذي لا ينفع الإنسان إلا عمله . ويطلب الحق سبحانه وتعالى منهم ان يجعلوا بينهم وبين صفات الجلال لله تعالى في ذلك اليوم وقاية .

إن هناك آية أخرى تقول :

البقرة 123
وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ

وهذه الآية وردت مرتين ، وصدر الآيتين متفق . ولكن الآية الأولى تقول :

{ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }... البقرة 48

والآية الثانية :

{ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } ... البقرة 123

هل هذا تكرار؟ نقول : لا

فالمسألة تحتاج لعقول واعية للفهم . فالآيتان متفقتان في مطلعهما : في قوله تعالى :
{ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً }

ولكن الآية الأولى قدم الشفاعة وقال : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ }

وفي الآية الثانية أخر الشفاعة وقال : { وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ }

ففي الآية الأولى الشفاعة مقدمة ..... والعدل متأخر

وفي الآية الثانية العدل متقدم .... والشفاعة متأخرة

والمقصود بقوله تعالى : { وَاتَّقُواْ يَوْماً } هو يوم القيامة الذي قال عنه سبحانه وتعالى :
{ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } الأنفطار 19

وقوله تعالى : (لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ) كم نفساً هنا ؟ إنهما اثنان . نفس عن نفس .

هناك نفس أولى ونفس ثانية .

فما هي النفس الأولى ؟
النفس الأولى هي الجازية .

وما هي النفس الثانية ؟
النفس الثانية هي المجزي عنها

ومادام هناك نفسان فقوله تعالى : (وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) هل من النفس الأولى أم الثانية ؟

اذا نظرت إلى المعنى فالمعنى انه سيأتي انسان صالح في يوم القيامة ويقول يارب أنا سأجزي عن فلان أو أغني عن فلان أو أقضي حق فلان . النفس الأولى أي النفس الجازية تحاول ان تتحمل عن النفس المجزي عنها .

ولكي نقرب المعنى ولله المثل الأعلى نفترض ان حاكما غضب على احد من الناس وقرر ان ينتقم منه ابشع انتقام . يأتي صديق لهذا الحاكم ويحاول ان يجزي عن المغضوب عليه . فبما لهذا الرجل منزلة عند الحاكم يحاول ان يشفع للطرف الثالث . وفي هذه الحالة اما ان يقبل شفاعته أو لا يقبل . فاذا لم يقبل شفاعته فانه سيقول للحاكم انا سأسدد ما عليه ... أي سيدفع عنه فدية ، ولا يتم ذلك إلا إذا فسدت الشفاعة .

فغذا كانت المسألة في يوم القيمامة ومع الله سبحانه وتعالى .. يأتي انسان صالح ليشفع عند الله تبارك وتعالى لانسان أسرف على نفسه .. فلابد ان يكون هذا الانسان المشفع من الصالحين حتى تقبل شفاعته عند الحق جل جلاله . واقرأ قوله سبحانه : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } البقرة 255

وقوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ .... الأنبياء 28 } .

والإنسان الصالح يحاول ان يشفع لم أسرف على نفسه فلا تقبل شفاعته ولا يؤخذ منه عدل ولا يسمح لها بأي مساومة أخرى . إذن لا يتكلم عن العدل في الجزاء إلا اذا فشلت الشفاعة .

هنا الضمير يعود إلى النفس الجازية . أي التي تتقدم للشفاعة عند الله . فيقول الحق سبحانه وتعالى :
{ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } فلا يقبل منها أي مساومة أخرى . ويقول سبحانه : وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ... وهذا ترتيب طبيعي للأحداث .

ــ في الآية الثانية : يتحدث الله تبارك وتعالى عن النفس المجزي عنها قبل ان تستشفع بغيرها وتطلب منه أن يشفع لها . لابد ان تكون قد ضاقت حيلها وعزت عليها الأسباب . فيضطر ان يذهب لغيره . وفي هذا اعتراف بعجزه . فيقول يارب ماذا أفعل حتى اكفر عن ذنوبي فلا يقبل منه . فيذهب إلى من تقبل منهم الشفاعة فلا تقبل شفاعتهم .

واذا أردنا ان نضرب لذلك مثلاً من القرآن فاقرأ قول الحق تبارك وتعالى :
{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ... السجدة 12 }

هؤلاء هم الذين يطلبون العدل من الله . بأن يعيدهم إلى الدنيا ليكفروا عن سيئاتهم . ويعملوا عملاً صالحاً ينجيهم من العذاب . ذلك ان الحسنات يذهبن السيئات .

فماذا كان رد الحق سبحانه وتعالى عليهم . قال جل جلاله :
{ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ... السجدة 14 }

فهم عرضوا ان يكفروا عن سيئاتهم . بان طلبوا العودة إلى الدنيا ليعملوا صالحاً . فلم يقبل الله سبحانه وتعالى منهم هذا العرض . اقرأ قوله تبارك وتعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ... الأعراف 53 }

لقد طلب هؤلاء الشفاعة أولاً ولم تقبل . فدخلوا في حد آخر وهو العدل فلم يؤخذ مصداقاً لقوله تعالى : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ .. (1)} .

والآية الثانية : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ... (2)} .. أي ان الضمير هنا عائد على النفس المجزي عنها . فهي تقدم العدل أولاً : (( ارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا )) فلا يقبل منها ، فتبحث عن شفعاء فلا تجد ولا تنفعها شفاعة .