زكريا ويحيى عليهما السلام

قال الله تبارك وتعالى : (بسم الله الرحمن الرحيم )


كهيعص {1} ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا {2} إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً {3} قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً {4} وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً {5} يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً {6} يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً {7} قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً {8} قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً {9} قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً {10} فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً {11}‏ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً {12} وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً {13} وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً {14} وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً (مريم15-1 )
وقال تعالى: (

وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ {37}‏ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء {38} فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ {39} قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ {40} قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ( آل عمران)

وقال تعالى (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ {89} فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (الأنبياء)

وقال سبحانه(وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ {85} (الأنعام )
قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر فى كتابه التاريخ لمشهور الحافل: زكريا بن برخيا ويقال زكريا بن دان,يقال زكريا بن لدن بن مسلم بن صدوق بن حشبان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة ابن برخيا بن بلعاطة بن ناحور بن شلوم بن بهفاشاطبن إينامن بن رحبعام بن سليمان بن داود, أبو يحيى. وقيل أنه كان بدمشق حين قُتل ابنه يحيى والله أعلم. ويقال فيه زكريا بالمد والقصر. ويقال زكري أيضاً والمقصود أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقص على الناس خبر زكريا عليه السلام وما كان من أمره حين وهبه الله ولداً على الكبر وكانت امرأته مع ذلك عاقراً فى حال شبيبتها وقد أسنت أيضاً حتى لاييأس أحد من فضل الله ورحمته ولا يقنط من فضله تعالى: (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا {2} إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً {3} قال قتادة عند تفسيرها : إن الله يعلم القلب النقي ويسمع الصوت الخفي. وقال بعض السلف قام من الليل فنادى ربه مناداة أسرها عمن كان حاضراً عنده مخافته فقال: يارب يارب يارب. فقال الله : لبيك لبيك لبيك. (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مني ) أي ضعف وخار من الكبر (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) استعارة من اشتعال النار فى الحطب أي غلب على سواد الشعر شيبة كما قال ابن دريد فى مقصورته:
أما ترى رأسي حاكى لونُه طُرَة صُبحٍ تحت أذيال الدُجَا
واشتعل المبيضُ في مُسوده مثلَ اشتعال النار في جَمْر الغضَا
وآضَ عود اللهو يبساً ذاوياً من بعد ما قد كان مَجاج الثَرىَ

يذكر أن الضعف استحوذ عليه باطناً وظاهراً. وهكذا قال زكريا عليه السلام : (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مني وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) (مريم:4 )
وقوله : (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً ) أي ماعودتني فيما أسألك إلا الإجابة,وكان كلما دخل عليها محرابها وجد عندها فاكهة في غير أوانها ولا فى آوانها وهذه من كرامات الأولياء. فعلم أن الرازق للشئ فى غير أوانه قادر على أن يرزقه ولداً وإن كان قد طعن فى سنه
(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء {38} ( آل عمران )
وقوله: (وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً ) قيل المراد بالموالي الصعبة,وكأنه خاف من تصرفهم بعده فى بني إسرائيل بما لايوافق شرع الله وطاعته فسأل وجود ولد من صلبه يكون براً تقياً مرضياً ولهذا قال (فهب لي من لدنك)(مريم5) أي من عندك بحولك وقوتك(ولياً يرثني) أي في النبوة والحكم فى بني إسرائيل(ويرث من آل يقوب واجعله رب رضيًا)(مريم6 )يعني كما كان أبواه وأسلافه من ذرية يعقوب أنبياء فاجعله مثلهم فى الكرامة التي أكرمتهم بها من النبوة والوحي,وليس المراد هاهنا ورائه المال لما قاله رسول الله فى الحديث المتفق عليه بين العلماء المروي فى الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها من طرق عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صللى الله عليه وسلم قال: (لانورث ماتركنا فهو صدقة)فهذا نص على أن رسول الله صلى الله عليه وسلملايورث,ولهذا منع الصديق أن يصرف ماكان يختص به فى حياته إلى أحد من وراثة الذين لولا هذا النص لصرف إليهم وهم ابنته فاطمة وأزواجه التسع وعمه العباس رضي الله عنههم واحتج عليهم الصديق فى منعه إياهم بهذا الحديث,وقد وافقه على روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وأبو هريرة وآخرون رضي الله عنهم.
الثاني : أن الترمذي رواه بلفظ يعم سائر الأنبياء:( نحن معاشر الأنبياء لانورث) وصححه الثالث:أن الدنيا كانت أحقر عند الأنبياء من أن يكنزوا لها أو يلتفتوا إليها أو يهمهم أمرها حتى يسألوا الأولاد ليحوزوها بعدهم,فإن من لايصل إلى قريب من منازلهم فى الزهادة لايهتم بهذا المقدار أن يسأل ولداً يكون وارثاً له فيها.الرابع: أن زكريا عليه السلام كان نجاراً يعمل بيده ويأكل من كسبها,كما كان داود عليه السلام يأكل من كسب يده , والغالب ولاسيما من مثل حال الأنبياء أنه لايجهد نفسه فى العمل إجهاداً يستفضل منه ملاً يكون دخيرة له يخلفه من بعده.وهذا واضح لكل من تأمله وتدبره وتفهمه إن شاء الله. قال الإمام أحمد حدثنا يزيد,يعني ابن هارون,أنبأنا حماد بن سلمة,عن ثابت,عن أبي رافع,عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(كان زكريا نجاراً) وهكذا رواه مسلم وابن ماجة من غير وجه, عن حماد بن سلمة به. وقوله: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً {7} (مريم). وهذا مفسر بقوله(فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ {39} (آل عمران). فلما بشر بالولد وتحقق البشارة شرع يستعلم على وجهه التعجب وجود الولد والحالة هذه له (
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً {8} (مريم) أي كيف يوجد ولد من شيخ كبير,قيل كان عمره إذ ذاك سبعاً وسبعين سنة,والأشبه والله أعلم أنه كان أسن من ذلك( وكانت امرأتي عاقراً) يعني وقد كانت امرأتي فى حال شبيبتها عاقراً لاتلد.
كما قال الخليل: (أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون)وقالت سارة:( ‏ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ {72} قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ {73} (هود)
وهكذا أُجيب زكريا عليه السلام قال له الملك الذي يوحى إليه بأمر ربه:
(كذلك قال ربك هو علي هين)أي هذا سهل يسير عليه (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً) أي قدرته أوجدتك بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً أفلا يوجد منك ولداً وإن كنت شيخاً؟!
وقال تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ {90}‏(الأنبياء) ومعنى إصلاح زوجته أنها كانت لاتحيض فحاضت وَصَلُحتْ من العقم التي كانت تتصف به.
(قال رب اجعل لي آية)(مريم) أي علامة على وقت تعلق مني المرأة بهذا الولد المبشر به, (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليالٍ سوياً) يقول علامة ذلك أن يعتريك سكت لاتنطق معه ثلاثة أيام إلا رمزاُ وأنت فى ذلك سوي الخلق صحيح المزاج معتدل البنية. وأمر بكثرة الذكر فى هذه الحال بالقلب واستحضار ذلك بفؤاده بالعشي والإبكار,فلما بشر بهذه البشارة خرج مسروراً بها على قومه من محرابه (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً) والوحي هاهنا هو الأمر الخفي إما بكتابة,كما قاله مجاهد وعكرمة ووهب والسدي وقتادة,اعتقل لسانه من غير مرض وقال ابن زيد: كان يقرأ ويسبح ولكن لايستطيع كلام أحد. وقوله تعالى: (يايحى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً) يخبر تعالى عن وجود الولد وفق البشارة الإلهية لأبيه زكريا عليه السلام وأن الله علمه الكتاب والحكمة وهو صغير فى حال صباه:قال عبد الله بن المبارك: قال معمر:قال الصبيان ليحيى بن زكريا:اذهب بنا نلعب فقال:مللعب خُلقنا.قال:وذلك قوله: (وآتيناه الحكم صبياً).وأما قوله: (وحناناً من لدنا ) فروى ابن جرير عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: لاأدري ماالحنان.وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك: (وحناناً من لدنا )أي رحمة من عندنا رحمنا بها زكريا فوهبنا له هذا الولد. وعن عكرمة: (وحناناً) أي محبة عليه ويحتمل أن يكون ذلك صفة لتحنن يحيى على الناس ولاسيما على أبويه,وهو محبتهما والشفقة عليهما وبره بهما. وأما الزكاة فهو طهارة الخلق وسلامته من النقائص والرذائل والتقوى فى طاعة الله بامتثال أوامره وتلرك زواجره. ثم ذكر بره بوالديه وطاعته لهما أمراً ونهياً وترك عقوقهما قولاً وفعلاً فقال: (وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً).ثم قال: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً)(مريم:15 )هذه الأوقات الثلاثة أشد ماتكون على الإنسان,فإنه ينتقل فى كل منهما من عالم إلى عالم آخر فيفقد الأول بعد ما كان ألفه وعرفه ويصير إلى الآخر ولايدري مابين يديه,ولهذا يستهل صارخاً إذا خرج من بين الأحشاء وفارق لينها وضمها وينتقل إلى هذه الدار ليكابد همومها وغمها!. وكذلك إذا فارق هذه الدار وانتقل إلى عالم البرزخ بينها وبين دار القرار,وصار بعد الدور والقصور إلى عرضة الأموات سكان القبور,وانتظر هناك النفخة فى الصور ليوم البعث والنشور,فمن مسرور ومن محبور ومن محزون ومثبور,ومابين جبير وجسير وفريق فى الجنة وفريق فى السعير ! ولقد أحسن بعض الشعراء حيث يقول:



ولدتك أمك باكياً مستصرخاً ( والناس حولك يضحكون سروراً)
فاحرص لنفسك أن تكون إذا بكوا ( فى يوم موتك ضاحكاً مسروراً)



يتبع بإذن الله