مصطفى إنشاصي
---
2ـ اليهودية ديانة وثنية

بداية أود تصحيح الفكرة الشائعة عند المؤرخين وعلماء الآثار من مسلمين وغير مسلمين، القائلة أن اليهود أخذوا عقيدة التوحيد وفكرة "الإله الواحد" عن (الكنعانيين). فقد بات من المعروف عند المؤرخين وعلماء الآثار عن اليبوسيين أنهم أول الشعوب التي عرفت التوحيد وعبادة الإله الواحد، وكانوا يصفونه باسم "الله العلي"، وقد أشارت التوراة إلى زهد ملك اليبوسيين (ملكي صادق) وتعبده وأنه بارك إبراهيم عليه السلام قائلاً: "لتكن عليك يا إبرام بركة الله العلي، مالك السموات والأرض. وتبارك الله العلي الذي دفع أعدائك إلى يديك" التكوين 14/20-21. لذلك قال رجاء جارودي ـ مثل غيره من المؤرخين ـ في إشارته إلى مدى تأثير (الحضارة الكنعانية) في اليهود: "فحين التقى الكنعانيون والعبرانيون في المرحلة الأولى كان هناك رفض متبادل بين المؤمنين بالإله (يهوه) والمؤمنين بالإله (إيل) ثم ضعف اهتمام العبرانيين بإلههم مع استمرار توطنهم في كنعان، وقوي إحساسهم بإله المواطنين الأصليين حتى أنهم تبنوا اسمه (إيل) وجمعوه على (إيلوهيم)"[1]. أود القول من البداية: بأن هذه الفكرة فكرة خاطئة، وإلا ما كان اعتبر أنصار تلك الفكرة (اليهودية دين سماوي)! وذلك لأن بني إسرائيل الذين دخلوا فلسطين كانوا يعرفون التوحيد وفكرة "الإله الواحد" عن طريق أنبيائهم، وأجدادهم من لدن إبراهيم عليه السلام مروراً بموسى إلى داود وسليمان عليهم جميعاً السلام.

ولكن الصواب القول: أن اليهود بعد إقامتهم في فلسطين لأن نفوسهم مريضة وجبلتهم شريرة، ولأنهم معاندون ومكابرون، وطبعهم الكفر والمعصية، فإنهم عبدوا آلهة (الكنعانيين) وذلك ما أكدته التوراة وكان كثيراً ما يغضب (يهوه) على شعبه لأنه كان يعبد آلهة (الكنعانيين). خاصة وهم قد عبدوا العجل الذي صنعه لهم السامري من ذهب وحلي نسائهم بعد أن نجاهم الله من فرعون وقومه مع نبي الله موسى، وهم تتنزل عليهم آيات ومعجزات الله ، قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} الأعراف148. وقد بقي ذلك ديدن اليهود مع جميع أنبيائهم كما تفصح عن ذلك التوراة.

الصواب القول: أن فكرة "الإله الواحد" أو التوحيد التي استعارها اليهود من (الكنعانيين) هي فكرة وثنية، تقوم على توحيد الآلهة في إله واحد. أو تغليب إله على بقية الآلهة. وهذه العقيدة خلاف عقيدة الوحدانية التي دعا لها جميع الأنبياء والرُسل، والتي كان عليها بنو إسرائيل قبل إقامتهم في فلسطين، وتأثرهم بـ(الحضارة الكنعانية). وقد يكون أصل فكرة التوحيد عند الكنعانيين التي تعود إلى ما كان عليه (ملكي صادق)، أن يكون ملكي صادق أحد أتباع أنبياء الله هود أو صالح عليهما السلام،. اللذين يؤكد المؤرخون هجرتهما بعد نزول العقاب الإلهي بقوميهما الكافرين، حاملين معهما عقيدة التوحيد إلى فلسطين وجوارها من بلاد الشام. حيث تشير المصادر التاريخية الإسلامية إلى أن سيدنا صالح ومن آمن معه خرجوا إلى الشام حيث نزلوا المنطقة من الحِجر إلى صرح أي نحو وادي القرى "وهي مدائن صالح الحالية" إلى رملة فلسطين على 18 "ثمانية عشر" ميلاً بين الحجاز والشام[2]. أو قد يعود إلى أن (ملكي صادق) قد أمن بدعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام وعبر له عن امتنانه بذلك بمباركته.

وعليه فإن اليهودية دين وعقيدة وثنية، تقوم على الخرافة والأسطورة، وليس دينا ـ رسالة ـ سماويا بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، كما يحاول اليهود وأنصارهم من العلماء الغربيين الترويج له، ويفرضوا علينا إجراء حوارات دينية مع اليهود تحت دعوى ما يزعمون أنه (حوار الأديان السماوية) ـ مع تحفظنا على هذا المصطلح لأننا لا نؤمن بأديان سماوية ولكننا نؤمن بدين سماوي واحد دعا له جميع الأنبياء والرسل عليهم السلام هو الإسلام، وأن ما سبق بعثة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانت رسالات أو شرائع سماوية وليست أديان سماوية ـ وذلك لأن ما يسمى بالديانة اليهودية اليوم قد تأكد بشكل قاطع ونهائي أنها ليست الرسالة السماوية التي نزلت على سيدنا موسى عليه السلام، ولكنها دين وثني قد تم تأسيسه في بابل، بعد أن دمر نبوخذ نصر دولة يهوذا عام 586 ق.م، وحرق هيكلهم المزعوم وسباهم إلى بابل، وهي خليط من المعتقدات والخرافات والأساطير البابلية، وغيرها من الديانات الوثنية التي كانت منتشرة في منطقة الهلال الخصيب ووادي النيل آنذاك. ويعتقدون أن "يهوه" هو إلههم الخاص من دون جميع المخلوقات، وأنهم هم وحدهم "شعبه المختار" من دون بقية شعوب الأرض، لأن بقية شعوب الأرض ليسوا بشر، ولكنهم "جوييم" حيوانات خلقت على هيئة الإنسان لتليق بخدمة "الشعب المقدس للرب يهوه". أي أنه إله قبلي، ودين عنصري.

يكفي أن نورد هذا النص من التوراة نفسها يجعل من موسى عليه السلام إله لفرعون، لنتأكد من أن الديانة اليهودية ديانة وثنية، يقول: "فَقَالَ \لرَّبُّ لِمُوسَى: (ٱنْظُرْ! أَنَا جَعَلْتُكَ إِلَهاً لِفِرْعَوْنَ. وَهَارُونُ أَخُوكَ يَكُونُ نَبِيَّكَ)". (سفر الخروج: 7/1). هل مثل هذا القول يصدر عن كتاب سماوي مُنزل من الله تعالى؟! إن كان موسى إله فماذا يكون "يهوه" على ذلك؟! ولكن ذلك ليس غريباً على ديانة وثنية وليست سماوية، تؤمن بتعدد الآلهة وثنائيتها وتكونها من ذكر وأنثى!.

وحقيقة عدم وحدانية الديانة اليهودية وأنها ديانة وثنية تؤمن بتعدد الآلهة، أكد عليها الكاتب اليهودي (رفائيل بتاي): "إن عامة الناس من اليهود وغيرهم مازالوا يتصورون أن الديانة العبرانية الرسمية كانت من مبدأ أمرها ديانة توحيدية بدأت بإبرام الموحد بيهوه، غير أن المتخصصين يعطون ظهور التوحيدية العبرانية تاريخاً لاحقاً لإبرام وزمانه ببضعة قرون إذ يرجعون بدايات التيار التوحيدي حتى إلى زمن أنبياء الأكابر، وبأمانة ا لعالم يتحفظ بتاي فيقول: إنه يجب أن نأخذ في الحسبان أن إرجاع بدايات التيار التوحيدي حتى إلى زمن النبيين الأكابر يجب أن يؤخذ بحذر ويحفظ نظراً إلى ما وجد طريقه إلى الديانة من عقائد باتت جزءً منها في الأزمنة التلمودية، وبالنظر إلى ما انطوت عليه من الإشارات القبالية من تعدد الشخوص في شخص الخالق". ويرى رينيه ديسو أن تعدد الآلهة لا سبيل لإنكاره في الديانة اليهودية: لأن التوحيد الإسرائيلي ليس أصلياً بل هو نهاية تطور طويل المدى ظهرت نتائجه بعد سبي بابل حيث فهم اليهود معنى التوحيد العام[3].

كما أن كثرة الإضافات والتعديلات التي كان يُحدثها كتبة التوراة مع تطور الزمن على النصوص السابقة في أٍسفارهم وإضافة أسفار جديدة بحسب مقتضيات المرحلة جعلت البروفيسور (إلس روفكن) يقول في كتابه "صياغة التاريخ اليهودي": "أن فكرة التوحيد وتطبيقها لدى اليهود، لم ترتكز على أسس دينية أو روحية بقدر ما ارتكزت على ضرورات سياسية واقتصادية، وذلك على إثر منافسة شديدة بين زعماء اليهود بعد النفي إلى بابل كتب النصر فيها للفريسيين، وهؤلاء كانوا باتفاق جميع المؤرخين، أصحاب الأثر الكبير في صياغة تاريخ وشريعة اليهود". ويكشف أنها عقيدة وثنية تؤمن بتعدد الآلهة، قائلاً: "ظهرت فكرة التوحيد لدى اليهود ورسخت بناء على مقتضيات معينة تاريخها محدد بدقة، وهو تاريخ الكتبة والفريسيين في بابل، أي حوالي العام 400 قبل الميلاد، وهي الفترة التي (ألفوا) فيها الأسفار الخمسة الأولى من التوراة. ومن هؤلاء المشككين من يعتمد على برهان لغوي ظريف، إذ أن أول كلمة كتبت من قبل الفريسيين هي (في البدء خلق الله السموات والأرض)، (تكوين 1:1)، وفي النص العبري (في البدء خلقت الآلهة السماوات والأرض)، وفيما يلي ذلك، وبناء على استنتاج البروفيسور رفكن، اعتمد الكتبة صفة المفرد عوضاً عن الجمع لوصف الإله"[4].

تلك هي الحقيقة التي يتفق عليها العلماء أكثر من غيرها، إذ يرون أن "إله اليهود (يهوه) هو تطور طبيعي وبطيء من مرحلة تعدد الآلهة التي مر بها اليهود، شأنهم شأن القبائل البدائية الأخرى، تلك الآلهة التي كان "يهوه" مجرد واحد منها، إلى مرحلة الإله الواحد، وقد يكون نتيجة هذا التطور تلك الحرب الشعواء التي يشنها (يهوه)، من خلال التوراة، على غيره من الآلهة والتي بقيت آثارها عالقة في أذهان اليهود المتعددي الآلهة بالفطرة". كما أن "يهوه" خلال تطوره البطيء كما يقول (هومير سميث:) قد اتخذ "في فوضى تعدد الأديان، الكثير من خصائص آلهة إسرائيل المتعددة، والصفة المشتركة لأكثر آلهة القبائل القديمة هي الحجر والنار، وتشترك هاتان الصفتان معاً لتشكلا جبلاً بركانياً، وهو رمز القوة الهائلة: "هو ذا اسم الرب (يهوه) يأتي من بعيد غضبه مضطرم والحريق شديد وشفتاه ممتلئتان سخطاً ولسانه كنار آكلة وروحه كسيل طاغ يبلغ إلى العنق فيغربل الأمم من البوار .." (إشعيا 30: 27 ـ 28)[5].

ويؤكد الأستاذ (أندرسون) أن عقيدة التوحيد اليهودية التي أخذوها عن (الكنعانيين) كانت عقيدة وثنية، فيقول: "إن الوحدانية التي كانوا (الكنعانيون) يدركونها في ذلك الوقت لم تكن وحدانية تفكير ولكنها وحدانية تغليب لرب من الأرباب على سائر الأرباب)[6].

ذلك لأن "يهوه" لم يكن سوى أحد آلهة (الكنعانيين) الذي صاغه كتبة توراتهم على الصورة التي تلائم جبلتهم الشريرة.

3ـ يهوه إله اليهــود (كنـعانـي)

قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} الأعراف148.

يقول (شفيق مقار): لو عدنا إلى قراءة التوراة لرأينا في سفر الخروج الإصحاح الرابع عشر أنهم نزلوا أمام بعل صفون وبعل صفون هذا حسبما تشير إليه التوراة يقع على شاطئ البحر وقد رأي بنو إسرائيل هذا الإله وبعد أن نجوا من فرعون عادت لهم ذكرياتهم فطلبوا من هارون أن يعمل لهم إله كما للقوم الذين مروا بهم آلهة. ولهذا شكل بعل صفون وهو إله (كنعاني) أول خطوة على عبادة بني إسرائيل، ولما أراد الكهنة أن يبتلع يهوه كافة الآلهة السابقة كان ولا شك بعل صفون هو أحد الآلهة التي سطا عليها كتبة يهوه[7].

وبما أنه ثبت كما يقول الأستاذ (كوجنبرت) بأن: دين العبرانيين (بمعنى اليهود) لا يمكن أن يكون تطور ونما محلياً بل كانت عناصره الجوهرية قد استقيت من آراء متراكمة ومن معتقدات كانت شائعة بين الأقوام (الساميين) في الشرق. وأن هذه الوثائق تبرهن بما لا يتطرق إليه الشك على انعزال الديانة اليهودية عن غيرها في الزمن القديم لم يكن سوى خرافة بحتة[8]. ولما كان الإله إيل إله عبده العرب منذ بداية معرفتهم وقد شملت عبادته من اليمن حتى الأناضول ومن أقصى العراقين حتى قلب أوروبا، فذلك يعني أن اليهود عمدوا إلى أحد آلهة الكنعانيين فعبدوه، وأعطوه الصفات الشريرة التي تتناسب وطبائعهم وميولهم النفسية، وكذلك غذوه باتجاهاتهم السياسية منذ البداية.

ولم يقف الأمر عند ذلك ولكنهم أدخلوا عليه بعض التغييرات ليتناسب وطبيعتهم الشريرة، والجهل والتخلف الحضاري عن أقرانهم من الشعوب التي عاصروها، كما يقول (ول ديورانت): "يبدو أن اليهود (الفاتحين) لفلسطين عمدوا إلى أحد آلهة كنعان فصاغوه في الصورة التي كانوا هم عليها وجعلوا منه إلهاً صارماً ذا نزعة حربية صعب المراس". ويضيف عن حشر اتجاهاتهم السياسية واتخاذ الدين وسيلة وأداة للسياسة قائلاً: "وصور كاتبو أسفار موسى الخمسة، وهم الذين كانوا يتخذون الدين أداة للسياسة إله الرعب هذا إله للحرب فأصبح (يهوه) في أيديهم القوية إلهاً للجيوش يدعو للفتح و(الاستعمار) يحارب من أجل شعبه بنفس القوة التي كان يحارب بها آلهة الإلياذة"[9].

كما يصف الدكتور (أنيس فريحة) "يهوه" الإله اليهودي: "إن (يهوه) كما تصوره الكاتب اليهودي مجرد إنسان قدير عظيم ينزل إلى الفردوس ليتحدث إلى آدم ويأمر قابيل وهابيل أن يقدما قرابين فيقبل لواحد منهما ويرفض قرابين الآخر)[10].

ولأن "يهوه" لم يظهر في تاريخ بني إسرائيل عند غالب المؤرخين إلا بعد السبي البابلي، الذي كتبت فيه التوراة وحَشد فيها كتبتها قصص وأساطير الأمم الأخرى، وخاصة في عصري عزرا ونحميا، فإن بعض المؤرخين قال أنه أحد الآلهة الفارسية. يقول (حسن حدة): "وفي هذا الوقت ـ السبي البابلي ـ لم يكن لليهود أي وثيقة تاريخية أو غير تاريخية فكتبت التوراة عشوائياً وكيفياً وحسب تجليات الفكر الكهنوتي اليهودي. وقد كان الكهنة الذين بدءوا يكتبون ينتمون إلى اتجاهات عديدة منها الاتجاه الإيلي وفيه بقايا من ذكريات موسى. والاتجاه اليهودي وفيه التأثير بالديانة الفارسية، فيهوه ليس إلا الإله الفارسي المؤنث ياهي ولم يكن موسى يعرف يهوه ولا سمع به"[11].

ومعلوم أن التقليد اليهوي ينسب إلى مملكة يهوذا في الجنوب، والتقليد الإيلوهيمي ينسب إلى مملكة إسرائيل في الشمال، وقد كان لكل منهما كتابه وكيانه السياسي وهيكله. وتمثل المجموعة الثانية غالبية بني إسرائيل، خاصة وأنه في التوراة أن الإله إيل هو الإله الأول الذي عرفه أنبياء وللآباء الكبار لبني إسرائيل، (إبراهيم وإسحاق ويعقوب وأبنائه). أما المجموعة الأولى فهي فئة قليلة كانت مقربة من الحكم الفارسي، وهي التي استطاعت الحصول على الوعد بأرض فلسطين ليعيدوا بناء كيانهم السياسي الذي دمره البابليون، وقد جعلت يهوه الإله المفضل والمسيطر وله السيادة الفعلية على بني إسرائيل، وإن كانت في الوقت نفسه احتفظت بالإله السابق إيل.


4ـ يهوه له زوجة وأبناء

كما أنه قد شاع عند كثير من المؤرخين للديانة اليهودية ونشأتها رأي يقول: أن "يهوه" لم يكن له زوجه أو ولد كآلهة (الكنعانيين). وأنه كثيراً ما كان يغضب على شعبه لأنه كان يعبد آلهة (الكنعانيين) ويشعل لها ناراً، ويبني لها معابد. وأن "يهوه" بقي عند أتباعه إله لا يُحدد ولا يُوصف، وأن طبيعته لا يحدها قيد ولا شرط، وبناءاً على ذلك لم يضعوا له تمثال، ولم يتخيلوه على أي صورة كـ(الكنعانيين) وغيرهم….إلخ. وكنت أنا نفسي أعتقد أن اليهود اتخذوا لـ"يهوه" زوجة في عهد متأخر، وخاصة في مرحلة الانفتاح الحضاري الإسلامي على جميع ديانات وثقافات وحضارات الشعوب التي كانت ضمن سيادة الدول الإسلامية، وخاصة في الأندلس،وكنت أعتقد أن سبب ذلك؛ هو عادة اليهود عندما يخافون من الانفتاح والحرية والمساواة والتعايش السلمي مع جميع أتباع الديانات والثقافات الأخرى، لأنهم يرون في ذلك ذوبانهم واندماجهم في تلك الشعوب والثقافات وفقدانهم لخاصية التفرد كـ(شعب الله المختار)، وصفة النقاء والتفوق العرقي المزعوم، فإنهم يستغلون ذلك الخوف في فرض مزيد من العزلة والقيود الفكرية والاجتماعية على أنفسهم تجاه الآخرين، ويبدؤوا في البحث عن أفكار جديدة لتطوير دينهم الخاص بهم من بين جميع شعوب الأرض وخاصة مفهوم الخلاص المسيحاني، لمواجهة العلم والاستنارة والتحرر الفكري، وذلك ما حدث في فكر "القبالاه" اليهودية التي اختارت لألههم زوجة وأبناء، كما يكشف عن ذلك البروفيسور اليهودي (إسرائيل شاحاك). الذي يؤكد على ما ذهب إليه العلماء السابقين من أن الديانة اليهودية ليست ديانة توحيدية كما يتوهم البعض ـ على حد تعبيره ـ ولكنها ديانة وثنية! فقد كتب[12]:

"أن الديانة اليهودية هي، وكانت دائماً، ديانة توحيد كما يُعرف في الوقت الراهن كثير من العلماء التوراتيين، وكما تُبين أي قراءة متأنية للعهد القديم بسهولة، فإن هذا الرأي اللا تاريخي خاطئ تماماً. هناك في كثير من، إن لم نقل في كل أسفار العهد القديم حضور وسلطة لأرباب آخرين معترف بهم صراحة، لكن يهوه أقوى الأرباب، غيور جداً من منافسيه ويحظر على شعبه عبادتهم. ولا يظهر إلا في نهاية التوراة فقط، لدى بعض الأنبياء المتأخرين، إنكار لوجود جميع الأرباب ما عدا يهوه".

ويواصل حديثه بالقول: أن ما يعنينا هنا ليس اليهودية التوراتية (أي ما ورد في التوراة) بل اليهودية الكلاسيكية، إن الثانية خلال بضع مئات من سنواتها الأخيرة، كانت بمعظمها بعيدة كل البعد عن التوحيد الخالص. وهذا ينطبق أيضاً على الحقائق المهيمنة في الأرثوذكسية اليهودية في الوقت الراهن، وهي استمرار مباشر لليهودية الكلاسيكية، لقد جاء انحطاط التوحيد من خلال انتشار الصوفية اليهودية (القبالاه) التي ظهرت في القرنين الثاني والثالث عشر. وبحسب اعتقاد القبالاه فإنه {لا يُحكم الكون من جانب إله واحد بل من جانب أرباب عدة ذوي شخصيات وتأثيرات مختلفة تنبثق من علة أولى بعيدة مبهمة. وإذا أقصينا كثير من التفاصيل جانباً، نستطيع تلخيص تلك المنظومة على النحو التالي: هناك أولاً إله يدعى (الحكمة) أو (الأب) ثم إلهة تدعى (المعرفة) أو (الأم) وقد انبثقا أو وِلِدا من العلة الأولى. انبثق عن زواج الاثنين زوج من الآلهة الأصغر: (الابن) يدعى أيضاً بأسماء كثيرة أخرى مثل (الوجه الأصغر) أو (المبارك المقدس)، والابنة تدعي أيضاً (السيدة) أو ("ماترونيت" وهي كلمة مشتقة من اللاتينية) و(شخينة) أو (الملكة) ..إلخ، ثمة ضرورة لتوحيد (الابن) و(الابنة) إلا إن مكائد الشيطان تحول دون ذلك، وهو يمثل في هذه المنظومة شخصية هامة جداً ومستقلة.

وقد تولت العلة الأولى كي تتيح لهما التوحد، لكنهما أصبحا أكثر بُعداً من السابق بسبب السقوط (أو الهبوط) وتمكن الشيطان، فعلاً، من الاقتراب كثيراً من (الابنة) المقدسة وحتى من اغتصابها (سواء بالرمز أو الواقع. تختلف الآراء) وقد خُلق الشعب اليهودي لسد القطيعة التي أحدثها آدم وحواء، وفي جبل سيناء تحقق هذا الأمر لفترة معينة: و(الابن)، الذي تجسد في موسى، توحد بالابنة (شخينة). ولكن. لسوء الحظ، تسببت خطيئة العجل الذهبي بالانفصال مرة أخرى، لكن توبة الشعب اليهودي رتقت الشَق نوعاً ما.

بنفس القدر، يقترن كل حدث في التاريخ التوراتي اليهودي باتحاد أو انفصال الزوجين السماويين. كان الاجتياح اليهودي لفلسطين (الكنعانية) ويناء الهيكل الأول والثاني ممكناً بسبب اتحادهما فقط .. وكل ما نزل باليهود من بلاءات كان بسبب انفصالهما. وواجب اليهود الأتقياء من خلال صلواتهم وأعمالهم الدينية إعادة الاتحاد السماوي الكامل، في شكل اتحاد جنسي بين الإلهين الذكر والأنثى}.

ومن ضمن تلك الأعمال الدينية التي يقوم بها الأتقياء اليهود لإعادة الاتحاد السماوي الكامل للإلهين، وله علاقة وثيقة بالصراع العربي ـ الصهيوني وقضايا الحل النهائي، وتشكل جزءً من منظومة المعتقدات الصريحة لعديد من الساسة المتدينين، ولها تأثير غير مباشر على الزعماء الصهاينة في كل الأحزاب الصهيونية، بما فيها اليسار الصهيوني: أن الحرب ضد العرب، وطرد الفلسطينيين، أو حتى إقامة الكثير من المغتصبات اليهودية في الضفة الغربية، والإسراع في إعادة بناء ما يسمونه (الهيكل الثالث)، وغيرها من أعمال عدوانية وإرهابية، تحقق بسرعة إعادة الاتحاد الجنسي بين الإلهين الذكر والأنثى؟!.

إلا أنه تبين لي أن اليهود اتخذوا لـ"يهوه" زوجة وأبناء منذ اللحظة الأولى التي كتب فيها (حزقيال) سفره في السبي البابلي، يقول الباحث (شفيق مقار): "ومثلما تزوج بعل بناته تزوج يهوه ابنته وحبيبته ومعشوقته إسرائيل ليكون الإله الملك العاشق بعل ثور يعقوب، وفي سفر أشعيا نص قاطع بذلك حتى بعد المعالجة التحريرية المكشوفة فالنص بعد أن يؤكد لإسرائيل أن أرضها ستصبح بعل يخبرها أنه كما يتزوج الشاب عذراء سيتزوجك يهوه، وكفرح العريس بعروسه يفرح بك بعلك حول بعلك إلى إله ناقص ذلك التمويه المكشوف". ويرى الباحث أن إسرائيل ليست إلا ابنة يهوه وزوجته وحبيبته وبوصفها زوجته فهي أم الشعب وبكونها أم الشعب التي اندفق في رحمها مني القضيب المقدس فأنجبت النسل المقدس ابن يهوه البكر شعبه الأخص الذي اجتهد عزرا في درء التنجس عنه. ويدلل مقار متابعاً النصوص التوراتية التي تدل على هذه الزيجة المقدسة في التوراة مورداً إياها نصاً نصاً. ومن هنا أتت النسبة إلى شعب إسرائيل أنهم أبناء يهوه لأن أمهم هي زوجته[13]. وتفسير ذلك عند مقار: أن أخذهم صفة زواج يهوه من ابنته لم يكن إلا سطواً على إيل الإله (الكنعاني).


--------------------------------------------------------------------------------

[1] روجي جارودي، فلسطين أرض الرسالات الإلهية، ترجمة وتعليق وتقديم الدكتور عبد الصبور شاهين، مكتبة دار التراث، ص92.

[2] سعد زغلول عبد الحميد "دكتور" في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت. (بلا تاريخ)، ص 112-120.

[3] عبد المجيد ههمّو: هل اليهودية ديانة سماوية، سلسلة مصادر التوراة (7)، دار غار حراء، دمشق، ص 945.

[4] بنيامين فريدمان، التوراة تاريخها وغاياتها، مرجع سابق، ص 79 ، 80.

[5] المرجع السابق، ص80 ، 81.

[6] عبد الحميد زايد، الشرق الخالد مقدمة في تاريخ وحضارة الشرق الأدنى من أقدم العصور حتى عام 323 ق. م، دار النهضة العربية، القاهرة، ص405.

[7] عبد المجيد ههمّو: الكنعانيون والتوراة المحرفة، سلسلة مصادر التوراة (3)، دار غار حراء، دمشق، ص 255.

[8] المرجع السابق، ص46.

[9] ول ديورانت، قصة الحضارة-الشرق الأدنى، المجلد الأول-الجزء الثاني، مرجع سابق، ص34.

[10] أنور الجندي، مرجع سابق، ص38.

[11] عبد المجيد ههمّو: هل اليهودية ديانة سماوية، مرجع سابق، ص 901.

[12] إسرائيل شاحاك، الديانة اليهودية وموقفها من غير اليهود، ترجمة:حسن خضر، القاهرة، سيناء للنشر، الطبعة الأولى، 1994، ص50ـ52.

[13] عبد المجيد ههمّو: الكنعانيون والتوراة المحرفة، مرجع سابق، ص 351 ـ 252.