لم يكد الشيخ أن يفرغ من صلاته حتى وافاه شاب جاد الملامح ممن تعلقت قلوبهم بالمساجد ,وأسر في اذنه كلمات , فما أتمهن حتى أومأ الأستاذ الشيخ برأسه مبتسما وقال : سنفعل ان شاء الله ..

ونهض الأستاذ الشيخ , واعتلى منبره , يحدث مستمعيه , بوقاره المعهود بلغة قرآنية فصيحة سلسة , لا لبس فيها , ولا اعوجاج , وقال :


سألني البعض عن (الحكمة ) في تحريم الاسلام لأكل لحم الخنزير والجواب عندي من صحيح النقل ودليل العقل , وفهمي لمدلول ما في العقيدة عن الذكر والفكر والهمة والأدب , أن البحث عن ( حكمة مادية ) في العبادات مضيعة للوقت ومدخل في مسارب الشكوك , فطالما أن المسلم يؤمن بالله ربا , وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا خاتما , وبالقرآن الكريم دستور حياة وفلسفة عيش وأسلوب حكم ودولة , فليس له تجاه الأوامر والنواهي الا الطاعة التي لا ( تفلسف ) فيها , تماما , كما يعطيك الصيدلي الخبير بعلم العقاقير وصفاتها وخصائصها , دواءا مركبا من جواهر مختلفة الوزن والمقدار والنسبة , فيصبح من التنطع والسفه أن نتدخل فيما لا نفهم , بمناقشتك له عن تلك التركيبة , ويقضي ( الأدب ) والثقة في عمله وخبرته , بألا ننقاشه وتضيع الوقت في البحث عن الحكمة من نسب أوزان تلك التركيبة الدوائية .. وهكذا الأوامر والنواهي في العبادة , كتحريم لحم الخنزير , من فعل خالق متعال , جائتنا على لسان نبي صادق أمين .. فما علينا الا الطاعة والامتثال حتى ينصرف المجتمع إلى البناء والسمو والتقدم والازدهار , في ظل تلك الطاعة والولاء للعقيدة بحكم انها ( كل لا يتجزأ ) .. فإذا قيل لنا أن تحريم الخنزير , لحمل لحمه للدودة الشريطية فهل معنى ذلك أن ننسخ أوامر الله ونحل أكله في هذا العصر , لان العلم والطب قد تغلبا على وجود الدودة وبويضاتها في لحم الخنزير فلا عدوى بها ؟

وإذا قيل أن تحريم الخنزير نابع من أنه الحيوان الوحيد الحقير الذي يرى ( السوء ) في أهل بيته , دون أن يشعر بالخزي أو يثور للعرض أو يقاتل حتى الموت في سبيل الشرف والكرامة , فهل اذا ربينا جيلا من الخنازير الغيورة على العرض , نسمح لمتفلسف أن ينادي بطهارة الخنازير وحل أكلها لانتهاء ما نظن أنه ( علة ) تحريمها ؟ واذا قيل أن تحريم اكل الخنزير راجع إلى كثرة شحمه ودهنه , فهل اذا انتجت مزارع النجاسة خنازير رشيقة القوام كالغزلان , نأكلها وننفي حرمتها ؟؟


يا أبنائي أن الموقف اليوم لم يعد التساؤل عن حكمة التحريم بل أنه , بفضل طول معاشرة ومؤانسة الذين (يربون الخنازير ) ويتجرون فيها وينتفعون بها في السر والعلن وبسبب ارتباط مصالحنا الدنيوية معهم , قد وصل إلى مناقشة عجيبة .. شديدة العجب .. النقاش اليوم يدور حول هل نأكل الخنزير مشويا أو مقليا بالسمن أو الزيت أو مسلوقا , هل نأكله بالشوكة والسكين أم بأصابع أيدينا , هل نأكله في ( سندوتشات ) أم مع الأرز والثريد والهريس والعصيدة : فهل نضع عليه بصلا وتوابل هادئة أم حريفة .. إلى هذا الحد وصل بنا الأمر اليوم فأنتبهوا يا أولي الالباب واستيقظوا رحمكم الله .