تقول سنوك في كتابها (مكة): ( ..إنه منذ وقت قصير أقيم حفل زار لإحدى الأميرات وهي ابنة الخديوي إسماعيل، وكانت سيدة عجوز مريضة، عالجها أطباء كثيرون، ولكن سيدات الحريم أقمن لها زار ظل قائمًا لمدة أسبوعين قبل وفاتها مباشرة، وقد حصلت على هذا التقرير من شاهد عيان تقول: في المساء حضرت ثلاث نساء وجواريهن، وأخلي الصالون من كل ما به من أثاث، وأجلست الأميرة المريضة في سريرها بالغرفة المجاورة متكئة على الوسائد، وأخذت الاستعدادات اليوم كله وأطلق البخور في كل غرفة من القصر، بينما منعوا الزوار من الخارج، وتجمع الخدم والجواري في الحريم ولم تحو الحجرة كرسيًا (كالمعتاد) بل موقدًا كبيرًا كان يحرق فيه البخور، وجلست الشيخات الثلاث في ملابسهن الحريرية الثقيلة ذات الألوان المختلفة، وقد اشترينها خصيصًا لهذه المناسبة بالذات، وعلى رؤوسهن طرابيش مغطاة بالذهب، فقد أخذن أكثر من مائة جنيه لهذه المناسبة. قمت النسوة الثلاث بالرقص بالتناوب نيابة عن المريضة، وأخذن يضربن طبولهن ويغنين بصوت غريب غير مفهوم، وبعد وقت قصير انحنت رئيستهن على النار وأخذت تتكلم بألفاظ غامضة في حين أن زميلتيها قربن سرير الأميرة من النار في وسط الحجرة ولمسن جسدها بخفة، وكذلك وجهها وذراعيها وظهرها، ثم أخذت الرئيسة تتكلم في صوت عميق مقلدة الرجال كزئير الأسد، وترجمت الكلمات العربية إلى التركية كي تفهمها الأميرة.
وكانت كما يلي: أنا زار، وقد تملكت الأميرة من 15 سنة، وأنا الآن أعلن نفسي، وسأترك الأميرة حتى تعود إليها صحتها. وانفردت سيدتان منهما معًا في الصالون المجاور تتحدثان سويًا لمدة وجيزة، ثم عادتا بعدها وصوتهم هادئ طبيعي كصوت النساء، مخالف لما كان عليه في البدء، ثم أعلن أن الروح قد خرجت وهنأن الأميرة ثم خلعن ملابسهن الحريرية وسقطن على الأبسطة في حالة عصبية تشنجية، بينما وقفت الحريم في خشوع، وقبل أن يغادرون القصر أخذت تتبرك بهن كل الجواري ضعيفات النية، فكانت النسوة تلمس جباههن وتدعو لهن بالخير والعافية.
لم يكن هناك ذبيحة أو كرسي في القصر، ولكن في المساء التالي خرجت من القصر إحدى صديقات الأميرة المقربات وجاريتها التي لم تخرج من الحريم منذ سنوات، ذهبتا ليحضرا الضحية في بيت الكودية أو إلى مكان آخر.
ولابد من أن نذكر أن الطبيب حينما حضر لعيادة المريضة في اليوم التالي وجدها أسوأ حالاً عن ذي قبل فسأل عن السبب ولكنه لم يتلق إجابة، وإحدى قريبات الأميرة المتعلمات بثقافة أوربية بكت كثيرًا أثناء هذه الاحتفالات، لأنها تألمت لحال الأميرة المسكينة التي لن يزيدها هذا البلاء إلا وبالاً، ولكنها ضعيفة الحيلة وسط جمع كبير).()
لذلك فدائمًا ما يبدأ الترويج للسحر والسحرة، من أعلى قمة السلم الاجتماعي، وليس من قاع المجتمع كما قد يعتقد، حيث أن الثراء والسلطة دائمًا ما يتورطان في حماية والتوطيد لمثل هذه الأنواع من الجرائم المارقة. فالدجال دائمًا ما يبحث عمن يدفع له وبسخاء، ويوفر له الحماية للاستطراد في غيه. بينما الفقراء والبسطاء يتأثرون بعلية القوم ويحاكونهم، لتنسج القصص حول البشر الأسطوريين، ومن هنا تبدأ رقعة انتشار الدجل في الاتساع، لتنشأ شخصية الرجل الأسطورة وتتطور في عقول مغلقة على مفاهيم باطلة. فالمهم لديهم النتائج التي ترضي أهواءهم، وبدون أن يهدروا أموالهم، فلا استعداد عندهم للمغامرة بشيء منها كحال الأثرياء.
ففي قصة سحرة فرعون وموسى، انتظر الناس الغلبة والنصر حتى يتبعوا الحق، فلم يعتبروا بكلمة الحق، قال تعالى: وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [الشعراء: 39، 40]، فلم يأخذوا بزمام العقل، بل بالنتائج المادية الملموسة. ورغم ذلك لم يؤمن مع موسى إلا القليل على خوف من فرعون وملئهم الذين كانوا يحمون السحرة، قال تعالى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ [يونس: 83]. وفي نفس الوقت كان السحرة في انتظار الأجر والمكافأة إن كانوا هم الغالبين، قال تعالى: وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الأعراف: 113، 114]. إذًا فالمال يجلب السحرة ويجذبهم، بينما السلطة تحميهم وتدعمهم.
كتب عبده مغربي: (.. في السابق كان اللواء زكي بدر، وقبل أن يصبح وزيرًا للداخلية قد ذهب في زيارة إلى الشيخ (قشر)، وحينما دخل سلم على الشيخة (جبريلة) وقبل يدها، قالت له: انت اسمك إيه؟ فقال: زكي بدر، فقالت له: انت حتبقى وزير الداخلية يا زكي. وحينما تولى زكي بدر وزارة الداخلية ذهب إلى ساحة الشيخ (قشر) في زيارة خاصة، ولأنه وزير للداخلية فقد ذهب إليهم في موكب وزاري لقرية صغيرة أكبر ما فيها كان يخاف من الشيخ الغفر، سبقت سيارة الوزير موتوسيكلات وسيارات الحراسة ودخلت ديوان الساحة المطلة على النيل، وقتها ذعرت القرية واعتقدوا أنها حملة من الشرطة جاءت لاعتقال عائلة الشيخ (قشر). الساحة بسيطة جدًا وشيخها الشيخ (قشر) لم يسبق له أن ارتدى حذاء في قدمه طوال حياته فهو يرتدي الجلباب ولا يخلعه عن جسده إلا حينما يبلى تمامًا، وتظل تشاهده بجلباب واحدة أسابيع طويلة!! ساحتهم على غير عادة معظم ساحات الصوفية، لا تقدم للزوار إلا طبق (المش)، وتجد الشيخة (جبريلة) حينما تقدمه لهم يتكاثر المحبون حوله، كما لو أنه طبق من الكفيار، فيكفي أن الشيخة قد أحضرته لهم بيديها!!
وحينما هل موكب الوزير زكي بدر خرج الشيخ (قشر من ضريح والده الشيخ (أبو بكر) على صوت صفارات الإنذار التي كانت تطلقها سيارات الموكب الوزاري، وحينما نظر الشيخ وشاهد زكي بدر، مد الوزير يده وانحنى يقبل يد الشيخ، فقال له بلهجة صعيدية: (يا خوي أنا قادر على أوكلك انت، لما جيب لي مولد معاك، من فين احنا نوكل الناس دي، شوية (المش) يدوب على قد اليتامى دول)، وأشار بيده إلى بعض المحبين الذين قدموا من القرى المجاورة. ضحك الوزير وأتباعه، وجاءت الشيخة (جبريلة) فتقدم الوزير نحوها وقبل يدها، فأشارت إلى أحد مريدي الساحة وقالت له: (روح اشحت لنا شوية (مش) من الجيران علشان نعمل الواجب مع الضيوف يا واد). وتناول الوزير وأتباعه (المش)، وكان الشيخ (قشر) قد أحضر لهم حبات الطماطم التي كان يقوم بتوزيعها سليمة على مرافقي الوزير، ولم تكفهم جميعًا..
وللشيخ (قشر) أحوال غريبة ومثيرة، وهو نبيه العقل، وإن كان يبدو عليه أنه درويش، في مرة أهداه أحد أتباعه سيارة حديثة، فكان يقودها حافي القدمين، فلم تغير السيارة شيئًا، وظل على صورته المعهودة، يرتدي ثيابًا بالية، وأحيانًا يضع فوق رأسه طاقية مصبوغة بالطين، إذا ما تصادف ووقف بسيارته على مدخل قريته تجد عددًا من السيارات تقف وينزل ركابها للسلام على الشيخ فيسلم عليهم، لكنه يتركهم أحيانًا ويجري خلف عربة كارو يلتقط منها بعض حبيبات الطماطم، يمسح بيده واحدة ويأكلها، ويضع الباقيات في جيبه، وما إن يدخل الساحة حتى يخرجها ويوزعها على ضيوف ساحته، الذين يحتفظون بها لحين قدوم طبق (المش) الشهير في هذه الساحة.. ).()
فهذا الرجل الأسطوري يفتقد إلى الالتزام بأبسط تعاليم الدين الإسلامي، من نظافة المأكل والملبس، ورغم قذارة يديه إلا أن الرجل انحنى على يده يقبلها. بل ويلتقط الطعام من على العربات، وغير ورع فلا يبالي أحصل على طعامه من حله أم من حرامه، والناس تأكل بنهم من يده الطعام المسروق، على أنه بركة من يد الرجل الأسطورة. والسؤال ما سر توجه ذكي بدر منذ البداية إلى هذا الرجل وزوجته؟ وربما نستشف الرد من بين كلمات الكاتب الصحفي عبده مغربي فنجده يقول: (ذاع صيت عائلة الشيخ قشر وكان ولا يزال يقصدها كبار القوم وعليتهم، وعرف عن ساحة الشيخ قشر أنها تمنح الدرجات والرتب في وزارة الداخلية. واستمر هذا المعتقد في ساحتهم فكان ولا يزال يقصدها قيادات في الشرطة، تذهب خصيصًا من أجل الحصول على بركة الساحة والدعاء لهم بالترقي في الرتب والدرجات حتى الآن).()
وأما زوجته المرأة الصعيدية (Lady جبريلة)، أو المرأة الخارقة فيصافحها الرجال الأجانب! بل وينحنون ليقبلوا يديها للحصول على البركة! بلا خجل وحياء المرأة الصعيدية المعهودين عنها، وبدون ورع النساء الصالحات، تمامًا وكأنك في أحد بلاد أوربا، لا في صعيد مصر. وهذه أول مرة أسمع عن التبرك بتقبيل أيادي النساء الأجنبيات! وبالرغم من هذه التناقضات التي لا يلتفت إليها، تتنبأ المرأة الأسطورية بنبوءة تتحقق. والعجيب في الأمر أنها علمت بترقيته، ولكن على ما يبدو أن الوحي الشيطاني نسي أن يبلغها باسمه، فسألته (انت اسمك إيه؟).
وهكذا تعمي الفوائق أبصار من عميت بصيرتهم، لتقبل الخرافات باعتبارها كرامات، فلا أحد يتساءل عن كيفية حصول مثل هذه المرأة على تلك النبوءة، وأن مصدرها مسترقي السمع من شياطين الجن، فينحني ليقبل يدها رجل من المفترض حصوله على أعلى الدرجات العلمية، ووصوله لأعلى المناصب والسلطة والنفوذ، فكيف حال أعوانه ومساعديه الذين التفوا حوله، يتعلمون منه ويتأسون به؟! بالتأكيد سيعظم في أنفسهم قدر هذا الرجل الأسطورة، وزوجته المرأة الأسطورية. وهكذا يتم نحت وتشكيل الرجل الأسطورة، لتحقيق مصالح خاصة، فتقبل مثل هذا الهراء يتم بتوجهات خاصة لخدمة أهدافهم. وهذا الرجل هو أحد أصحاب المناصب الرفيعة، والظاهرة أكبر من أن نخصها بفرد بعينه بل في كل منصب سوف تجد حفنة من هؤلاء المريدين، بل قل السحرة، فعلى مر التاريخ بداية من فرعون وهامان إلى دافنشي وستالين وهتلر ومحمد نجيب وصدام حسين وغيرهم الكثيرين، أسماء رنانة وكم غفير لا حصر لهم.
اللواء محمد نجيب والروحية: الدكتور علي راضي يقول: (ما كنت أتصور أن رجل حرب وسياسة هو اللواء أركان حرب محمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر يكون له جانب آخر غير معروف وهو إيمانه التام بالروحية والأحلام وانتقال الأفكار وكل العلوم الباطنية).()
ويضيف قائلاً: (كان يوم 5 إبريل 1978 تمثل مرور عشرين سنة على تأسيس جمعية الأهرام الروحية فأقيم حفل ومعرض لهذه المناسبة وكان مجلس الإدارة قد اتخذ قرارًا سابقًا باختيار اللواء محمد نجيب رئيسًا فخريًا للجمعية، في ذلك الاجتماع ألقى سيادته كلمة كلها تواضع جاء فيها: (لقد كنت مؤمنًا بالروحية منذ صغري، وحدثت لي حوادث أكدت لي اعتقادي فيها، وأتمنى أن يوفقنا الله لأداء واجبنا نحو الإنسان، فالروحية هي السبيل لمكارم الأخلاق وأداء الواجب مجردًا من حب النفس وحب الظهور).()
تابع الجزء السابع
المفضلات