وهكذا ندرك حقيقة دور الرجل الأسطورة، فبعد أن أتقن الشيطان صياغته وتشكيله، لم يعد مجرد رجل هوائي، بل جندي من جنود إبليس، مسخر من قبله، ومسير لتحقيق أهدافه ومآربه، حيث يتعرض لإجراء عملية غسيل مخ، فمثل هذه العمليات الإجرامية التي تقوم بها الأجهزة الشيوعية وغيرها من الأنظمة المشبوهة، هي نوع من السحر، يستحوذ فيه الشيطان عليه، فيسيره حسب أهداف معينة، بعد أن يتم استفراغ عقله من كل المعتقدات المتعارضة مع الحشو الجديدة، لينضم بعد ذلك في صفوف إبليس وجنوده، قال تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الحشر: 19]، فإذا كانت هذه العمليات تتم بين الإنس فالجن أولى بهذا منهم.
وعلى هذا فكل من أتى بشيء فوق العادة، سواء أكان مشعوذًا يستخدم خفة اليد بمهارة فائقة، أو ساحر سخرته الجن للتسلط على البشر وتعذيبهم، أو جاهل مضلَّل تتلاعب به الأبالسة والشياطين لنقل عدوى الضلال إلى من حوله، فبعد أن يختلط الحق بالباطل، يطلق الناس على كل هؤلاء أولياء الله الصالحين، فترى أثر هذا المعتقد الكامن في أنفسهم يرسم على وجوههم علامات البلاهة والعته، فينظرون إليه وكأن على رؤوسهم الطير، مما يبعث في النفس جراح الأسى والحزن، لوصول هشاشة معتقد المسلمين إلى هذا الحد من الهوس والتخريف، الذي تمكن من استغلاله النافخين في كير الضلالات المستعر، ليتكاثف [الدخان الأسود] ويتصاعد حتى يصير ركامًا يعمي الأبصار، وإن كان هذا هو حال عامة المسلمين، إلا أن خاصتهم من أهل العلم لهم حال آخر مع تلاعب الشياطين.
قال الشيخ عبد القادر الكيلاني رحمه الله: اشتد علي الحر في بعض الأسفار يومًا، حتى كدت أن أموت عطشًا، فظللتني سحابة سوداء، وهب على منها هواء بارد، حتى دار ريقي في فمي، وإذا بصوت يناديني منها؛ يا عبد القادر! أنا ربك. فقلت له: أنت الله الذي لا إله إلا هو؟ فعدل الشيخ عن الاسم المشترك كما يقال: رب الدار، ورب المال، إلى الاسم المختص بالواحد الأحد سبحانه. قال: فناداني ثانيا. فقال: يا عبد القادر! أنا ربك، وقد أحللت لك ما حرمت عليك. قال: فقلت له: كذبت؛ بل أنت الشيطان. قال: فتمزقت تلك السحابة، وسمعت من ورائي قائلاً: يا عبد القادر! نجوت مني بفقهك في دينك، لقد فتنت بهذه الحيلة قبلك سبعين رجلاً. وقيل للشيخ عبد القادر: كيف عرفت أنه الشيطان؟ قال: من حين قال: (أحللت لك) عرفته، لأن بعد رسول الله r لا تحليل ولا تحريم، فنفعه الله بالعلم النافع. قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية: ما عظمت عبد القادر إلا بكلامه في القدر، وحكايته مع الشيطان. ا.هـ()

لاحظ نسبة الجهل إلى العلم في هذه القصة كبيرة جدًا، عالم واحد فقط، في مقابل سبعين جاهل، نسبة مؤرقة وتبعث على الشجن، وهذا يشعرنا بمدى كثافة [الدخان الأسود]، والذي تغلغل في أنفس الناس، فالشيطان يتصل بشخص واحد في فائقة يحتال بها عليه ليضمه في صفوف جنوده، فالسبعين جاهلاً الذين أحل لهم الشيطان ما حرم الله، بصفتهم صاروا رسل الشيطان وسفراء إبليس، قد أضل بهم الشيطان كثير من الناس، وكله يتم بالفوائق على اعتبار أنها خوارق، فكيف الحال إذا ظهر الشيطان للناس جهارًا نهارًا، يبهرهم بفوائقه، ويزعم أنه رب العالمين، وسيحدث هذا يومًا ما، فأين أنت من المسيح الدجال صاحب أكبر فتنة؟ فعن ابن عمر قال: قال رسول الله r: (ينزل الدجال في هذه السبخة بمرقناة، فيكون أكثر من يخرج إليه النساء، حتى إن الرجل ليرجع إلى حميمه، وإلى أمه، وابنته، وأخته، وعمته فيوثقها رباطًا، مخافة أن تخرج إليه.. ).()

لا مانع أن يجري الله على يد بعض الصالحين شيء من الكرامات، ولكن ما يحدث أن ألسنة الغوغاء تلوك تلك الخوارق، فتضيف إليها بسقيم خيالها المليء بالأحلام والأماني، أو على العكس فقد تنتقص منها استخفافًا بشأنها، بما يخل بقدرها، وهو ما قد يخرجها عن إطارها المحدود ككرامة إلى خارقة توازى معجزات الأنبياء، وأحيانا يفيض الكيل ليصل الغلو في صاحب الكرامة إلى درجة تأليهه، وأحيانًا يحدث أن يجتمع هذا كله معًا، فيتحول الرجل الصالح بهذا إلى رجل أسطوري خارق Supper Man، فإن أصاب أحدهم نازلة من بلاء وعذاب شد الرحال، وضرب الأرض شرقًا وغربًا بحثًا عن ذاك الرجل الأسطورة ذائع الصيت، ليخلصه من معاناته، والحقيقة أنه يبحث عن خيال ووهم، لا وجود له إلا في عقول الناس ومخيلاتهم المريضة، لأن الرجل الصالح ليس من خصائصه تخليص الناس من جملة همومهم ومتاعبهم، ولكنه دور أهل الذكر، كل في تخصصه، فماذا تفيد دعوة الصالحين إذا تركنا التطبب، وركنا على أبواب الصالحين في انتظار دعواتهم المباركة؟ ولكن يجب علينا الأخذ بكل الأسباب المشروعة الدعاء والطب معًا.

لكن لما يئس الناس من إجابة الدعاء، تغافلوا عن أسباب عدم جدواه، فإن لم يهتدوا إلى الدواء الناجع، فعلى الأقل لا يصلحون من أنفسهم، بل يركنوا إلى الخرافة والأسطورة، والاستسلام للدجل والخداع، كمسكن نفسي، فالتواكل هو علامة اليأس من الدعاء، ودليل على سوء الظن بالله تبارك وتعالى، وهو من تزيين الشيطان، الذي استطاع استغلال أحلام الناس ومخاوفهم وأمانيهم، فأدخلهم في نوع من الوحي الشيطاني، بنسج الأساطير الخرافية التي لا يصدقها عقل عاقل، فالناس تبحث عن معجزة تخرجهم من أزماتهم، وهذا لن يحدث، لأنه ضد التوكل، لذلك فالبديل المتاح، والمضاد للمعجزة هو السحر، وهذه هي الفتنة التي يبغيها إبليس، طالما وجد في العقول مساحة معطوبة، تعطل العقل عن العمل بالحد الأدنى من كفاءته، بما يسمح له باستغلال الجهل والخواء العقائدي، ليبر بقسمه على إضلال ذرية آدم وإغوائهم قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82]، ولما علم هذا الملعون أن لا سبيل له على المخلصين العالمين العاملين استثناهم من قسمه.

إذا كان كل المسلمين هم أولياء لله لا أولياء للشيطان، فالمعالج باعتباره واحد منهم، لا يزيد عنهم في شيء سوى العلم المتخصص في عالم الجن، فإذا أتيح لكل مسلم الحصول على هذا العلم لصاروا جميعًا معالجين، إلا أن صلاح المعالج يضيف إليه الكثير من النجاحات، بالمقارنة بالمعالج الملتزم بمعدل ثابت من التدين، فالصلاح والتقوى يفتحان للمعالج كثير من المغاليق التي أبهمت وأشكلت عليه، قال تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ [البقرة: 282]، فالمعالج يتعامل مع عالم غيبي، والإحاطة الكاملة بظروف كل حالة أمر شبه مستحيل، لذلك فالمعالج يبذل جهد فائق في محاولة منه لتحصيل أكبر قدر ممكن من المعلومات المطلوب توافرها عن الحالة التي هو بصدد التعامل معها، وبتكرار المحاولات تترسب لديه خبرات وتجارب خاصة، تجعل من المواجهات المستقبلية أمرًا أكثر سهولة، إذًا فالمعالج مختلف تمامًا عن الرجل الأسطورة، فالدعاء والعمل الصالح هما السلاح الماضي في المعركة ضد الشياطين، وتوفيق المعالج لا يعنى تميزه وتفرده عن سائر الناس بصلاحيات وخواص فائقة، ولكن ما يميز المعالج عن غيره كم الخبرة العملية التي حصل عليها.

ففي الوقت الذي يقف فيه الناس مشدوهين أمام بعض حالات المس، إلا أنها بالنسبة للمعالج المتمرس تعد أمرًا لا يستحق مثل هذه الدهشة، وذاك الانبهار، فلكل حالة أسلوب مختلف في التعامل معها، إذًا فالجهل بخصائص عالم الجن يفرض نظرة خرافية إلى المعالج باعتباره رجل خارق، وهذه النظرة الخرافية تنبه إليها المرتزقة، فتلقفوها ليبتكروا شتى أنواع الشراك الخداعية، وتفننوا في صناعة الدجل لدرجة الحزق والاحتراف، ولا مانع لديهم من تطعيم الدجل ببعض فنون السحر والتنجيم، ليكتسب الدجل سيطرة ونفوذًا في أنفس الناس، فأمام حالة الانبهار، وفي غياب العلم المتخصص تعجز العقول عن استيعاب الفوائق، لتصاب بحالة من الاستسلام والتنبلة، فالعبرة أولاً وأخيرًا بالنتائج المبهرة والملموسة، بغض النظر عن كونها معقولة أم غير معقولة، فالأمر الطبيعي أن العقل سيقف حيالها عاجزًا عن تفسيرها، حيث يتعطل دوره عند هذا الحد، حتمًا؛ لأنه سيواجه واقع اللامعقول.

وذكر سماك بن حرب عن الحجاج فقال: (ولما فرغ منه وسكنه أعجبه إعجابا شديدا فبينما هم ذات يوم في مجلسه إذ أتاه بعض خدمه فأخبره أن جارية من جواريه، وقد كان مائلا إليها، قد أصابها لمم فغمه ذلك، ووجه إلى الكوفة في إشخاص (عبد الله بن هلال) الذي يقال له: صديق إبليس، فلما قدم عليه أخبره بذلك، فقال: أنا أحل السحر عنها، فقال له: افعل. فلما زال ما كان بها قال الحجاج: ويحكم إني أخاف أن يكون هذا القصر مختصرا. فقال له: أنا أصنع فيه شيئًا فلا ترى ما تكرهه. فلما كان بعد ثلاثة أيام جاء عبد الله بن هلال يخطر بين الصفين، وفي يده قلة مختومة، فقال: أيها الأمير تأمر بالقصر أن يمسح، ثم تدفن هذه القلة في وسطه فلا ترى فيه ما تكرهه أبدا، فقال الحجاج له: يا ابن هلال وما علامة ذلك؟ قال: أن يأمر الأمير برجل من أصحابه بعد آخر من أشداء أصحابه، حتى يأتي على عشرة منهم، فليجهدوا أن يستقلوا بها من الأرض فإنهم لا يقدرون، فأمر الحجاج محضره بذلك، فكان كما قال ابن هلال، وكان بين يدي الحجاج مخصرة فوضعها في عروة القلة، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم، إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، ثم شال القلة فارتفعت على المخصرة فوضعها، ثم فكر منكسا رأسه ساعة، ثم التفت إلى عبد الله بن هلال فقال له: خذ قلتك والحق بأهلك، قال: ولم؟ قال: إن هذا القصر سيخرب بعدي، وينزله غيري ويحتفر محتفر فيجد هذه القلة، فيقول: لعن الله الحجاج، إنما كان يبدأ أمره بالسحر، قال: فأخذها ولحق بأهله.. ).()

هكذا ترك الناس قوانينهم الطبيعية ولجئوا إلى قوانين الجن وطب الخوارق، وممارسة السحر، فقبلوا الدجل، والذي دخل كل بيت بلا عائق ولا حاجز من ثقافة أو مكانة اجتماعية مرموقة، بل إن الذي يفسح المجال دائمًا لمثل هذا الإثم هم علية القوم وأصحاب السلطة والنفوذ، وليس كما قد نعتقد من أول وهلة، أنهم الجهلاء والفقراء والمعوزون الذين لا يجدون ثمن الدواء إلا بشق الأنفس. ففرعون وهامان كانا من علية القوم، ثراءًا وسلطة وجاهًا، ورغم ذلك تبنوا مولاة الشيطان، وتبنا ممارسة السحر، وفتحوا الباب السحرة، وقد وصل الأمر إلى حد الإكراه والكفر بالله تعالى وزعم الربوبية والألوهية، قال تعالى: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 73].


تابع الجزء السادس