هذا إسلامنا
د. محمد عمارة

في بلادنا أناس إذا ذكرت كلمات «العقل.. والعقلانية» يتحسسون مسدساتهم! فلقد خلطوا بين «العقل» وبين «الهوي» فحرموا أنفسهم من نعمة العقل التي أنعم الله بها علي الإنسان! وفي بلادنا أناس أفردوا العقل بالمعرفة، حتي أخرجوه من «النسبية» إلي «الإطلاق» صائحين: «إنه لا سلطان علي العقل إلا العقل وحده»!

ولهؤلاء الغلاة جميعا نقدم كلمات الإمام محمد عبده «1266 ـ 1323هـ 1849 ـ 1905م»، التي رفع فيها العقل مقاما عليا.. مع الإعلان عن أن لهذا العقل حدودا لا يتعداها ـ ككل ملكات الإنسان ـ وأنه لذلك لا يحقق وحده سعادة الإنسان..

وفي هذه الكلمات النفيسة يقول الأستاذ الإمام: «إن العقل هو جوهر إنسانية الإنسان.. وهو أفضل القوي الإنسانية علي الحقيقة.. ولقد أجمع المسلمون علي أن الدين إن جاء بشيء قد يعلو علي الفهم، فلا يمكن أن يأتي بما يستحيل عند العقل.. وأول أساس وضع عليه الإسلام: هو النظر العقلي. والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح، فقد أقامك منه علي سبيل الحجة.. وقاضاك إلي العقل، ومن قاضاك إلي حاكم فقد أذعن إلي سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه؟!

ولقد دعا القرآن الناس إلي النظر فيه بعقولهم.. فهو معجزة، عرضت علي العقل، وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أنحائها، ونشر ما انطوي في أثنائها.. والإسلام لا يعتمد علي شيء سوي الدليل العقلي، والفكر الإنساني الذي يجري علي نظامه الفطري، فلا يدهشك بخارق للعادة، ولا يغشي بصرك بأطوار غير معتادة، ولا يخرس لسانك بقارعة سماوية، ولا يقطع حركة فكرك بصيحة إلهية».

وبعد هذا التمجيد للعقل.. ومقامه في الإسلام.. ينبه محمد عبده إلي حدود العقل.. فيقول «إن العقل البشري وحده ليس في استطاعته أن يبلغ بصاحبه ما فيه سعادته في هذه الحياة، اللهم إلا في قليل ممن لم يعرفهم الزمن، فإن كان لهم من الشأن العظيم ما به عرفهم أشار إليهم الدهر بأصابع الأجيال! وقد يكون من الأعمال ما لا يمكن درك حسنه، ومن المنهيات ما لا يعرف وجه قبحه، وهذا النوع لا حسن له إلا الأمر ولا قبح إلا النهي.

وإذا قدرنا العقل البشري قدره، وجدنا غاية ما ينتهي إليه كماله إنما هو الوصول إلي معرفة عوارض الكائنات التي تقع تحت الإدراك الإنساني.. أما الوصول إلي كنه حقيقة فمما لا تبلغه قوته.. ومن أحوال الحياة الآخرة ما لا يمكن لعقل بشري أن يصل إليه وحده.. لهذا كان العقل محتاجا إلي معين يستعين به في وسائل السعادة في الدنيا والآخرة».

هكذا حسم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده هذه القضية الخلافية ـ وهي قديمة جديدة ـ حسمها بالوسطية، التي تعلي مقام العقل.. والتي تنبه ـ في ذات الوقت ـ علي حدود هذا العقل. وبهذه الصياغة التي أفاض في الحديث عنها محمد عبده ـ في مواضع كثيرة من آثاره الفكرية ـ قدم المذهب الإسلامي في «العقلانية المؤمنة»، التي لا تؤله العقل، وتفرده بالمعرفة.. كما أنها لا تهمل هذه النعمة.. نعمة العقل، التي هي العنوان علي حقيقة الموقف الإسلامي من مقام العقل: «إنه جوهر إنسانية الإنسان.. لكنه لا يدرك كنه حقائق الأشياء»، لأن العلم النسبي لا يبلغ مبلغ العلم الإلهي الكلي والمطلق والمحيط!