إزالة إشكال حول ترك الله عبده ينتحر مع أنه أرحم من الأم بولدها
يقول الشاب: (( أمي حتى و إن لم أبر بها لو علمت أني سانتحر بإرادتي وهي قادره على أن توقفني على فعل ذلك لفعلت خوفاً من أدخل النار رحمتني بي فكيف بالله الذي يعلم بأن عبده سينتحر و هو أرحم من الأم وقادر على إيقافه ))
أولا قياس رحمة الرب على رحمة الأم قياس مع الفارق فالرب رحمته مقرونة بالحكمة و العلم و العدل و الأم رحمتها غير مقرونة بالحكمة و العلم و العدل فقد تظلم الأم من أجل ابنها ،و علم الأم محدود و حكمتها محدودة .
ثانيا : رحمة الله تسع جميع الخلق من حيوان و نبات و إنسان و غير ذلك و لا تطغي رحمته لأحد من خلقه على غيره من خلقه أما رحمة الأم فمحدودة و رحمتها لولدها قد تكون سببا في القسوة على الآخرين .
ثالثا : رحمة الأم قد تكون سببا في هلاك ولدها ، و رحمة الرب ليست كذلك .
رابعا : رحمة الأم قد تجمع الضد أي تجمع القسوة أما رحمة الرب فليس كذلك .
خامسا : الله رحمته مقرونة بالملك ، و الله ملك لكل الأشياء و المالك يهب ما يشاء لمن شاء يهب الحياة لمن يشاء ، و هو عليم بمن يصلح لنعمة الحياة أما رحمة الأم فغير مقرونة بالملك ، و الله قضى بالموت على عباده في دار الدنيا فهي دار امتحان و ابتلاء و عقولنا قاصرة عن إدراك الحكم من تقدير الله سبب موت كل إنسان .
و لا يقال على الطبيب الذي يبتر قدم مريض بالسكر لإصابتها بغرغرينا قاسيا كما لا يقال على الرجل الذي يقتل شخصا يهدد حياة الناس قاسيا كما لا يقال على الرجل الذي يقتل محتلي بلاده قاسيا ، وبمعرفتنا الحكمة من هذه الأفعال نرى أن الرحمة فيها رغم أن الناظر يراها قسوة و لله المثل الأعلى الله قدر موت شخص بالغرق و آخر بالانتحار و آخر بالحرق فلا يصح أن ننسب له قسوة لمجرد عدم معرفتنا بالحكمة ووجه الرحمة ، وعدم العلم بالحكمة ووجه الرحمة لا يستلزم العلم بعدم الحكمة وعدم الرحمة .
سادسا : إن العقلاء متفقون أن الفاعل إذا فعل أفعالا ظهرت فيها رحمته و رأووا أن هذه الأفعال قد تكررت ثم جاءهم من أفعاله ما لا يعلمون وجه رحمته فيها كإرادة الانتحار لأحد من خلقه مثلا لم يسعهم غير التسليم لما عرفوا من رحمته و استقر في عقولهم منها ، وردوا منها ما جهلوه إلى محكم ما علموه .
سابعا : إن الله و اهب الكمال لمن يشاء من خلقه ، وكمال الله يمنع خلو إرادة الله الانتحار لعبده عن الرحمة في ذلك إذ القسوة نقص منزه الله عنه ، و كمال الله يأبى أن يطلع خلقه على جميع رحمته .
ثامنا : قد قامت الأدلة على أن الله رحيم في أفعاله و أحكامه فيجب القول بموجبها ، وعدم العلم بوجه رحمته في ترك عبده ينتحر لا يكون مسوغا لمخالفة تلك الأدلة القاطعة إذ عدم العلم بالشيء لا يستلزم العلم بعدمه .
تاسعا : نحن لم ندع رحمة يجب أو يمكن إطلاع الخلق علي تفاصيلها فإن رحمة الله أعظم و أجل من ذلك ، و ما المانع من اشتمال ترك الله عبده ينتحر على الرحمة حجة ينفرد الله بعلمها ،ولزوم الرحمة في أفعال الله لا يوجب مشاركة خلقه له في العلم بها .
عاشرا : لو سلمنا جدلا بعدم وجود رحمة في ترك الله عبده ينتحر فهذا لا يستلزم نفي الرحمة عن جميع أفعاله و أحكامه ،والعبرة بالغالب و النادر لا عبرة به .
الحادي عشر : الله سبحانه وتعالى يحب أن يشكر ، والشكر هو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءا و اعترافا ، وعلى قلبه تقديرا و محبة و على جوارحه انقيادا و طاعة .
وقد أمر الله عباده بالشكر قال تعالى : ﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾[1] .
و من الأسباب التي يكون الشكر بها أكمل أن فاوت الله بين عباده في الصفات و الخلقة و الخلق والدين و الرزق و الأجل و كيفية انقضاء الأجل .
و إذا رأي الحي موت إنسان بالانتحار و آخر من الجوع و آخر من الحرق و آخر بالمرض و غير ذلك عظم شكره لله ، و عرف قدر نعمة الله عليه بالحياة و الصحة فيزداد شكرا لله و تقربا له ، وهذا من رحمة الله به أما الميت فإن كان قد مات بحرق أو غرق فهو في زمرة الشهداء و قدر الله له أن يموت بهذه الصورة لرفعة درجة و الحط من سيئاته رحمة منه سبحانه و أما الكافر يموت بالانتحار أو الغرق أو غير ذلك جزاءا وفاقا و ليتعظ المؤمنون بأن غيرهم مات على الكفر فيخافون من الله و يكثرون الطاعات .
[1] - العنكبوت الآية 17
المفضلات