بين السدين:
واصل ذو القرنين رحلته من مطلع الشمس حتى (بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ)، فوجهته كانت محددة مسبقا، ولقد كان ذو القرنين على علم بوجود السدين، قبل انطلاقه إليهما، وعلى علم كذلك بما كان بينهما من مدخل "يأجوج ومأجوج"، فقوله (حَتَّى إِذَا بَلَغَ)، يفيد أن هدفه كان بلوغ (بَيْنَ السَّدَّيْنِ)، فقوله (حَتَّى) حرف جر لانتهاء وغاية، و(إِذَا) ظرفا للمستقبل متضمنة معنى الشرط، لأنه جاء بعدها فعل ماضي (بَلَغَ)، ولو جاء اسم بعد (إِذَا) لكانت وظيفتها المفاجأة، كأن يقول (حتى إذا السدين)، هذا مما يدل على أن ذي القرنين كان على علم مسبق بوجود السدين، وكأن ذهابه إلى ما بين السدين كان أشبه برحلة تفقدية لما بينهما. بل كان على علم مسبق بجميع المناطق التي بلغها، لتكرار نفس الصيغة، لقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ)، و(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ)، و(حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ).
كذلك تكرر دخول (حَتَّى إِذَا) ثلاث مرات في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام، قال تعالى: (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا) [الكهف: 71]، قال تعالى: (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ) [الكهف: 74]، قال تعالى: (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ) [الكهف: 77]. وفي نهاية المطاف أقر الخضر عليه السلام أن كل ما فعله ما كان عن أمره (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) [الكهف: 82]، مما يشير أنه كان نبيا أوحي إليه مسبقا أمرا بخرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار. وهذا التوافق في الصياغة اللغوية، مما يشير إلى أن "ذي القرنين" أوحى الله إليه مسبقا خبر الأقوام الذين انطلق إليهم، فلم يكن لقاءه بهم غير مقصود منه، مما يثبت أنه كان نبيا كما كان الخضر وسليمان عليهما السلام أنبياء.
لذلك قال له القوم (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ) على سبيل الشكوى منهم والتضرر من إفسادهم، لا على سبيل إخباره بما يجهل من أمرهما. وهذا يلزم منه أن "ذي القرنين" كان على علم مسبق بإفساد "يأجوج ومأجوج" في الأرض، وأنه انطلق صوبهم لردعهم، ووضع حد حاسم لإفسادهم في الأرض، فقام ببناء السد الثالث.
الثلاثة سدود:
ذكر في آيات سورة الكهف ثلاثة سدود تحديدا، سدين حيث بلغ "ذو القرنين"، وسد ثالث قام ببنائه حيث بلغ بين السدين. فيؤكد التوافق اللفظي إلى أن السدين المذكورين أولا هما من نفس جنس السد الثالث الذي بناه "ذو القرنين"، أي أن هذه السدود الثلاث من بناء مخلوق وليس أي منهم جبل مخلوق، حيث ذهب البعض إلى أن السدين هما جبلين، وهذا بناءا على إحدى القراءتين، إحداهما بضم السين والأخرى بالفتح، فغضوا الطرف عن معنى القراءة الأخرى، وتركوا الجمع بين كلا المعنيين، فلا أرى علة لحمل معنى السدين على أنهما جبلين، والسد الثالث على أنه حاجز، بل الثلاثة سدود هم حاجز من جنس واحد.
في لسان العرب: (السَّدُّ، السُّدُّ: الجبل والحاجز. وقرئ قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ)، بالفتح والضم. وروي عن أبي عبيدة أنه قال: بين السُّدين، مضموم، إذا جعلوه مخلوقا من فعل الله، وإن كان من فعل الآدميين، فهو سَد، بالفتح، ونحو ذلك قال الأخفش).
وبالجمع بين القراءتين، بالضم والفتح، فالثلاثة سدود من جنس واحد، ولا يصح الفصل بين معانيهم المختلفة، فمن الخطأ التمييز بين السدين والسد الثالث، فإن قيل أنهما جبلين من خلق الله تعالى، فهذا يتعارض مع الثابت من أن السد الثالث حاجز من بناء البشر، فليس هناك نص يجزم بأن السدين هما جبلين من خلق الله تعالى حتى نجزم بذلك. وإن أخذنا بالقراءة بفتح السين فالثلاثة سدود هي حواجز من بناء البشر، وهذا لا يكفي وحده لضبط المعنى بالكامل، ولكن بإضافة المعنى بالضم يكتمل وصف السدود بأنهم كالجبال.
إنما الصحيح أن كل سد من السدود الثلاثة من تشييد البشر، فبالتوفيق بين معنيي كلمة سد: (جبل، وحاجز)، وفقا للقراءتين، يتضح أن الثلاثة سدود هي حواجز من صنع البشر أشبه بالجبال التي من خلق الله تعالى. إذا فالسدين الذين بلغهما "ذو القرنين" كانا بناءين من صنع البشر في ضخامة الجبل حجما، ثم قام ببناء سد ثالث بينهما، ولعلمه المسبق بوجود السدين فالراجح أنه هو من قام بتشييدهما.
السد الثالث:
وعلى هذا فالسد الثالث مشابها للسدين السابقين عليه، في الشكل وضخامة الجبل حجما، وموافقا لهما في الوظيفة، وهي الحجز بين مسكن "يأجوج ومأجوج" وأهل الأرض. وحسب الأصول الهندسية المتبعة في التصميم المعماري، فإن اختزال الجبل هندسيا يتلخص في أن له قاعدة ذات أربعة أضلاع متقابلة، يتناقص مقطعه تدريجيا لينتهي بقمة مدببة في أعلاه، وهذه المواصفات الهندسية تنطبق على الشكل الهرمي. فإذا بحثنا في أرجاء العالم كله، لن نجد إلا أهرامات الجيزة الثلاثة في مصر.الوحيدة التي تحمل صفات السدود الثلاثة التي بناها "ذو القرنين" سليمان بن داود عليهما السلام.

صورة تخيلية تبين عندما بلغ ذو القرنين بين السدين لم يكن هناك السد الثالث بين الهرمين
من المفترض أن يكون تصميم السد الثالث متفوقا على تصميم السدين الأولين، بحيث يتفادى العيوب والثغرات الهندسية التي سبق وظهرت، فالتطور المعماري موضع اعتبار في الحرف والفنون. فالهرم الأوسط منهم سنجده يتفرد بتفاصيل معمارية تجعله مختلف عن الهرمين الآخرين، فجوانبه الأربعة مستوية تماما، بينما الهرمين الآخرين، سنجد أن كل جانب مضغوط من الوسط في خط طولي ممتد من القاعدة حتى القمة، أي أن لكل هرم منهما ثمانية أضلع.




رسوم توضيحية تبين انقسام جوانب الهرمين الأكبر والأصغر إلى ثمانية أضلع
وبناءا على أن السد الثالث وظيفته منع خروج "يأجوج ومأجوج". فهذا ينطبق على السدين الآخرين، مما يلزم منه أيضا أن تحت كل منهما بوابة لخروجهم ودخولهم، ولا يمتنع وجود بوابات كثيرة منتشرة في أماكن مختلفة من أنحاء العالم، وأن هناك سدود كثيرة ذات شكل هرمي بحسب عدد تلك الأبواب. وبالفعل يوجد في أنحاء متفرقة من العالم سدود (هرمية الشكل) كثيرة جدا يصعب حصرها، لكن لا نستطيع أن نؤكد أن جميع تلك الأهرامات قام "ذو القرنين" بتشييدها، إنما يكفينا الاهتمام بما ذكره القرآن الكريم فقط.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، مصر وحدها بها أكثر من تسعين هرما، موزعين في أمكان متفرقة منها، وهناك أهرامات أقل حجما في النوبة والسودان، وأكبر الأهرامات النوبية في مروي ونوري والكوري بالسودان. ويوجد أهرامات في الصين، والهند، وفرنسا في العصر الروماني بني هرم فاليكون Falicon، كما كان هناك أهرامات بنيت في هذه الفترة. وفي اليونان هرم هيلينيكون باسانياس Hellinikon Pausanias. وهناك أكثر من بكثير.
فهناك الأهرامات الأمريكية مثل هرم الشمس في تيوتهواكان Teotihuacan بالمكسيك له قاعدة أكبر من أي هرم في مصر. بنى عدد من الشعوب القديمة في أمريكا الوسطى والجنوبية الأهرامات كذلك. فقد شيدوا الأهرامات المدرجة ذات النهايات المسطحة. واستخدموا أعلى الهرم المسطح كمصاطب يبنون عليها معابدهم. بنى الموتشيكا في بيرو Peru أهرامات كبيرة من الطوب. يحتوي معبد الشمس بالقرب من تروجيلو Trujillo الحالية على الساحل الشمالي لبيرو على هرم مُدرج من الطوب بني فوق قاعدة مدرجة. والمايا Mayan القدماء في أمريكا الوسطى بنوا مقابر ركامية على هيئة أهرامات شيدوا فوقها المعابد.
كذلك بنى التولتيك Toltec في أواسط المكسيك الأهرامات الكبيرة المدرجة. يوجد أحد هذه الأهرامات في شلولا Cholula ويعتبر أحد أكبر المنشآت في العالم. بنت مجموعة تنتمي إلى التولتيك أهرامات الشمس والقمر الكبيرة التي مازالت واقفة في تيويتواكان Teotihuacan بالقرب من مكسيكو سيتي. لقد دمّر الأسبان معظم أهرامات إمبراطورية الآزتك Aztecs المتأخرة في المكسيك. وبنيت هذه الأهرامات بمدرجات أو مصاطب شأنها شأن الأهرامات الأمريكية الأخرى وضعت في أعلاها المعابد. وكان أكبرها اثنين بنيا في تينوشتيتلان Tenochitlan (مكسيكو سيتي الحالية).

يتبـــــــــع