د. أحمد الحسيني

أصبح اتهام الإسلام بأنه يضطهد الأقليات الدينية من التهم الشائعة على ألسنة النصارى واليهود، والتي تنتشر في وسائل الإعلام والثقافة الغربية، وتتناقلها الصحف والمواقع العلمانية، وخاصة المملوكة منها لنصارى المهجر.



والقوم في ذلك لا يتبعون منطقًا ولا تاريخًا موثقًا، ولا واقعًا عاشه ويعيشه النصارى في بلاد المسلمين، ولا يدرسون الإسلام دراسة متأنية، إنما يروجون المزاعم والأباطيل والشبهات من منطق العداء والغل والكراهية، لا أكثر ولا أقل.



ونحن في هذه السطور نسوق ردًا مبسطًا على من أراد أن يستمع للحق من هؤلاء، ونسوقه أيضًا لمن أراد أن يتحصن به من المسلمين ليرد على هؤلاء الذين أغلقوا قلوبهم وعقولهم وآذانهم في وجه الحق.



إننا نهديهم أولاً ما قاله أحد مستشرقيهم، فيقول غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب": (يستحيل علينا أن نقرأ دون أن ترتعد فرائصنا من قصص التعذيب والاضطهاد التي قام بها المسيحيون المنتصرون على المسلمين المنهزمين، فلقد عمدوهم عنوة، وسلموهم لدواوين التفتيش التي أحرقت منهم ما استطاعت من الجموع، واقترح القس بليدا قطع رءوس كل العرب دون أي استثناء ممن لم يعتنقوا المسيحية بعد، بما في ذلك النساء والأطفال، وهكذا تم قتل أو طرد ثلاثة ملايين عربي).


والراهب بيلدا هذا، قتل في قافلة واحدة للمهاجرين قرابة مائة ألف في كمائن نصبها مع أتباعه، وكان بيلدا قد طالب بقتل جميع العرب في أسبانيا بما فيهم المتنصرين، وحجته أنه من المستحيل التفريق بين الصادقين والكاذبين، فرأى أن يقتلوا جميعاً بحد السيف، ثم يحكم الرب بينهم في الحياة الأخرى، فيدخل النار من لم يكن صادقاً منهم.



ويقول المؤرخ جيبون عن مذبحة القدس التي رافقت دخول الصليبيين: (إن الصليبيين خدام الرب يوم استولوا على بيت المقدس في 15/7/1099م أرادوا أن يكرموا الرب بذبح سبعين ألف مسلم، ولم يرحموا الشيوخ ولا الأطفال ولا النساء …حطموا رءوس الصبيان على الجدران، وألقوا بالأطفال الرضع من سطوح المنازل، وشووا الرجال والنساء بالنار…).



وهكذا فاضطهاد، بل حرق، ومحو الأقليات الدينية (وخاصة المسلمين)، وتنصيرها، هو ما فعله النصارى، بل وما زالوا يفعلونه في بلاد العرب والمسلمين، في فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان والصومال وكوسوفا والبوسنة .. إلخ.

فهذا تاريخ وواقع مسجل، سجلوه هم بأنفسهم، أما الحديث عن اضطهاد إسلامي للأقليات فمحض كذب ووهم وافتراء.



والذين يكثرون من الحديث عن حقوق الأقليات في العالم العربي الآن يهدفون إلى زعزعة الاستقرار واختراق المنطقة العربية لتفكيكها إلى دويلات، وهم إنما ينفذون أجندة عربية صليبية، وبتمويل غربي صليبي، فالوطن العربي يربطه الإسلام كعقيدة والعروبة كقومية.



والاستعمار الغربي وأعوانه من دعاة اضطهاد الأقليات يهدفون إلى نشر ثقافات يريدون بها خلع ما يعرف بالأقليات من النسيج العربي لإلحاقها بسياسة الاستعمار الغربي الجديد.



لقد عاشت الكنائس النصرانية في الشرق الإسلامي قرونًا طويلة وهي تدرك أن الإسلام هو الذي أنقذها وأنقذ نصرانيتها من الإبادة الرومانية التي امتدت منذ ظهور المسيحية حتى الفتوحات الإسلامية، ففي تلك القرون الستة عاشت النصرانية الشرقية - تحت نير الاستعمار الروماني - ديانة سرية مضطهدة ومطاردة ومتهمة بالهرطقة، لدرجة أن اغتصب الرومان كنائسها وأديرتها بعد تدينهم بالنصرانية منذ الانشقاق الذي حدث في "مجمع خلقدونية" سنة 451م، وتكون "المذهب الملكاني" الروماني، المعادي للنصرانية الشرقية، فتواصل الاضطهاد الروماني للنصرانية الشرقية بعد اعتناق روما للنصرانية، كما كان الحال في عصر وثنية الرومان!



ولقد استمر هذا الاضطهاد، الذي هربت منه قيادات النصرانية الشرقية إلى الصحاري والجبال والمغارات والذي تؤرخ الكنائس الشرقية حتى الآن بمجازره ضد أنصارها، فتسميه «عصر الشهداء»!



عاشت النصرانية الشرقية هذا التاريخ، حتى جاء الفتح الإسلامي فحرر أوطانها من القهر السياسي والحضاري والثقافي والاقتصادي وحرر ضمير رعاياها من القهر الديني. وظلت هذه النصرانية الشرقية وكنائسها واعية بذكريات هذا التاريخ الدموي وعارفة ومعلنة عن فضل الإسلام وفتوحاته التحريرية في إنقاذها من الهلاك والانقراض.



الفتح الإسلامي إذًا، هو الذي أنقذ المسيحية الشرقية من الإبادة والزوال، حتى ليمكن أن نقول إنّ بقاء هذه المسيحية الشرقية حتى الآن إنما هو هبَةُ الإسلام وسماحة الإسلام.



إن العلمانيين يكذبون ويضللون ويدعون أن الدولة الإسلامية حين تقوم، يترتب على قيامها الجَور على حقوق الأقليات الدِّينية، ولهؤلاء نقول إن الذمة معناها: الضمان والعهد، أي أنهم في ضمان الله ورسوله وجماعة المسلمين وعهدهم، فلا يجوز دينا إخفار ذمتهم، أو نقض عهدهم المؤبد، الذي يصون حرماتهم، ويحفظ دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم. والأصل في ذلك هو القاعدة التي يتناقلها المسلمون خاصتهم وعامتهم: لهم ما لنا وعليهم ما علينا. وفقهاء الشريعة في جميع المذاهب، اعتبروا أهل الذمة من (أهل دار الإسلام) ومعنى (أهل الدار): أي أهل الوطن، بمعنى أنهم مواطنون مشتركون مع المسلمين في المواطنة.



والادعاء بأن الجزية كانت غاية للقتال كذب وبهتان، فقد كانت بدلاً من فريضة الجهاد، وهي فريضة دينية تعبدية، فلم يُرِد الإسلام أن يفرض على غير المسلمين ما يعتبره المسلمون عبادة وقربة دينية، بل أعظم القربات عند الله.

وذهب الفقهاء إلى أن الذمي إذا شارك في الدفاع ومحاربة الأعداء سقطت عنه الجزية.



ورجوع المسيحيين إلى قوانين الأكثرية المسلمة لا يتعارض مع أي معتقد عندهم، وخصوصًا أن المسيحية لا تحتوي على تشريعات ملزمة لهم، ويستوي عندهم أن يكون القانون الذي يحكمهم: قانون نابليون أو قانون محمد.



أما الادعاء بحرمان الأقلية الدِّينية من وظائف الدولة، فهو شغب سياسي لا أكثر، فالواقع يؤكد أنهم كأقليات يسيطرون على اقتصاد الدول التي يعيشون فيها، ويأخذون أكثر من حقوقهم السياسية، ولا يحال بينهم وبين الوظائف والتمثيل البرلماني وامتلاك المنازل والمصانع والشركات.



يقول البابا شنودة في جريدة الأهرام في 6-3-1985 يقول فيها: "إن الأقباط في ظل حكم الشريعة يكونون أسعد حالاً وأكثر أمنًا، ولقد كانوا كذلك في الماضي حينما كان حكم الشريعة هو السائد. نحن نتوق إلي أن نعيش في ظل (لهم ما لنا وعليهم ما علينا). إن مصر تجلب القوانين من الخارج حتى الآن، و تطبقها علينا، ونحن ليس عندنا ما في الإسلام من قوانين مفصلة، فكيف نرضى بالقوانين المجلوبة ولا نرضى بقوانين الإسلام؟".



وليس هناك مَن يحمي حقوق الأقليات، ويحفظ آدميتهم، ويحترم استقلالهم، غير الإسلام لا قديمًا، ولا حديثًا، فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، لا حرج عليهم في عباداتهم وطقوسهم وكنائسهم وبيعهم، بل نظمهم وشرائعهم وقوانينهم، وصلبانهم وكهنتهم، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: {لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8-9].



وروي عنه - صلى الله عليه وسلم- أيضًا، : (من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عامًا) أخرجه البخاري في كتاب الجزية والموادعة، باب إثم من قتل معاهدًا بغير جرم ح 3166.



وفي النهاية.. فإن عقد الذمة ليس اختراعًا إسلاميًا، وإنما هو عقد وجده الإسلام شائعًا بين الناس، فأكسبه مشروعية بإقراره إياه، وأضاف إليه تحصينًا جديدًا بأن حوَّل الذمة من ذمة العاقد أو المجير إلى ذمة الله ورسوله والمؤمنين، أي ذمة الدولة الإسلامية نفسها، وبأن جعل العقد مؤبدًا لا يقبل الفسخ حماية لأهل غير الإسلام من الأديان، من ظلم ظالم أو جور جائر من حكام المسلمين.

المصدر
http://www.shareah.com/index.php?/records/view/id/1418/