قال المؤلف رحمه الله‏:‏

معنعنٌ كعن سعيدٍ عن كَرَمْ ** ومبهمٌ ما فيه راو لم يُسَمْ

المعنعن مأخوذٌ من كلمة ‏(‏عن‏)‏ وهو‏:‏ ما أُدي بصيغة عن‏.‏

وهذا هو القسم الحادي عشر، من أقسام الحديث المذكورة في هذا النظم مثل أن يقول‏:‏ عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ومثل أن يقول‏:‏ حدثني فلان، عن فلان، عن فلان، عن فلان‏.‏

واقتصر المؤلف على التعريف بالمثال؛ لأن التعريف بالمثال جائز، إذ أن المقصود بالتعريف هو إيضاح المعرَّف، والمثال قد يُغني عن الحد، والمثال الذي ذكره المؤلف هو ‏(‏عن سعيد عن كرم‏)‏ فيقول أروي هذا الحديث عن سعيد عن كرم، هذا هو المعنعن‏.‏

وهناك نوع آخر مثله وهو المؤنن، وهو ما روي بلفظ ‏(‏أن‏)‏، مثل أن يقول‏:‏ حدثني فلان أن فلاناً قال‏:‏ أن فلاناً قال‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

وحكم المعنعن والمؤنن هو‏:‏ الاتصال، إلا ممن عُرف بالتدليس، فإنه لا يُحكم باتصاله إلا بعد أن يُصرح بالسماع في موضع آخر‏.‏ ومن ثم نحتاج إلى معرفة المدلسين، وذلك لكي تستطيع أن تعرف الحديث إذا جاء بلفظ ‏(‏عن‏)‏، وكان عن مدلس فإنه لا يُحكم له بالاتصال، لأن المدلس قد يُسقط الراوي الذي بينه وبين المذكور تدليساً، لأن الراوي الذي أسقطه قد يكون ضعيفاً في روايته، أو في دينه، فيُسقطه حتى يظهر السند بمظهر الصحيح، فهذا لا نحمله على الاتصال ونخشى من تدليسه، وهذا من احتياط أهل العلم لسنة النبي صلى الله عليه وسلّم، ومن نعمة الله تعالى على هذه الأمة حيث إنهم كانوا يتحرزون أشد التحرز فيما يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلّم‏.‏

قوله ‏(‏ومبهمٌ ما فيه راوٍ لم يُسم‏)‏‏.‏

والمبهم هو‏:‏ الذي فيه راو لم يسم، وهذا هو القسم الثاني عشر من أقسام الحديث المذكورة في هذا النظم‏.‏

مثل أن يقول‏:‏ حدثني رجل، قال‏:‏ حدثني فلانٌ عن فلان عن فلان، فإننا نسمي هذا الحديث مبهماً، لأنه أُبهم فيه الراوي، وكذلك إذا قال‏:‏ حدثني الثقة فإنه أيضاً يكون مبهماً، لأننا لا ندري من هو هذا الثقة فقد يكون ثقة عند المحدث، وليس بثقة عند غيره‏.‏

وكذلك إذا قال‏:‏ حدثني من أثق به، فهذا أيضاً يكون مبهماً‏.‏

وكذلك إذا قال‏:‏ حدثني صاحب هذه الدار فإنه يكون مبهماً ما لم يكن صاحب الدار معروفاً‏.‏

إذاً فالمبهم هو‏:‏ كل ما فيه راوٍ لم يُسم، أما ما كان الحديث فيه عن رجل لم يسمَّ مثل حديث أنسٍ - رضي الله عنه - قال‏:‏ دخل أعرابي يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلّم يخطب‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، فالأعرابي هنا مبهم، لكنه لا يدخل في التعريف الذي معنا، لأن الأعرابي هنا لم يحدث بالحديث، ولكنه تُحدِّث عنه‏.‏

إذاً فقوله ‏(‏ما فيه راوٍ لم يُسمّ‏)‏ معناه أي‏:‏ ما كان في السند راوٍ لم يسمّ‏.‏

وحكم المبهم أن حديثه لا يُقبل، حتى يُعلم من هو هذا المبهم، وذلك لجهالتنا بحال هذا المبهم، إلا المبهم من الصحابة فإن إبهامه لا يضر، لأن الصحابة كلهم عدولٌ ثقاتٌ بشهادة الله تعالى لهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وتزكيته إياهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏‏.‏

إذاً فحكم الحديث المبهم أنه موقوف حتى يتبين من هو هذا المبهم إلا الصحابة رضوان الله عليهم فإن المبهم منهم مقبول كما سبق بيانه‏.‏

قال المؤلف رحمه الله‏:‏

وكُلُّ ما قَلّتْ رجَالُهُ ‏(‏عَلا‏)‏ ** وضِدُّه ذاكَ الذي قَدْ ‏(‏نَزَلا‏)‏

هذان قسمان من أقسام الحديث وهما الثالث عشر والرابع عشر مما ذُكر في هذا النظم وهما العالي، والنازل‏.‏

وعلو الإسناد ونزوله من وصف الإسناد‏.‏

وينقسم العلو إلى قسمين‏:‏

علو عدد، وهو ما عرّفه المؤلف بقوله ‏(‏ما قلت رجاله‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏)‏ فكل ما قل رجال السند فيه فهو عالٍ، وكل ما كثر رجال السند فيه فهو نازل، وذلك لأنه إذا قلَّ عدد الرجال، قلت الوسائط، وكلما قلت الوسائط ضعف احتمال الخطأ، ويتضح هذا بالمثال‏:‏

فإذا كان الرواة زيداً، عن عمرو، عن بكر، فالخطأ يحتمل في الأول، ويحتمل في الثاني، ويحتمل في الثالث، فالاحتمالات ثلاثة، وإذا كانوا زيداً، عن عمرو، عن بكر، عن خالد، عن سفيان، صار عندنا خمسة احتمالات، ومعلوم أنه كلما قل احتمال الخطأ كان أقرب إلى القبول‏.‏

فإذا رُوي الحديث بسند بينه وبين الراوي خمسة، ورُوي من طريق آخر بينه وبين الراوي ثلاثة، فالثاني هو العالي، والأول هو النازل، لأن احتمال الخطأ في الثلاثة أقل من احتمال الخطأ في الخمسة‏.‏

وهل يلزم من علو السند عدداً أن يكون أصحَّ من النازل‏؟‏

نقول‏:‏ لا يلزم ذلك، لأن هذا العدد القليل من الرواة قد يكون الرواة فيه ضعفاء، ويكون في العدد الكثير الرواة فيه ثقات أثبات، فلا يلزم من علو الإسناد عدداً، أن يكون العالي أصح، لأن اعتبار حال الرجال أمرٌ مهم‏.‏

علو صفة‏.‏ وذلك بأن يكون رجال السند أثبت في الحفظ والعدالة من السند الاخر‏.‏

مثاله‏:‏

إذا روي الحديث من طريق عدد رجاله ثلاثة، وروي من طريق آخر عدد رجاله ثلاثة، لكن رجال الطريق الأول أضعف من الطريق الثاني في الحفظ، والعدالة، فالثاني بلا شك أقوى وأعلى من الطريق الأول‏.‏

ولو رُوي الحديث من طريق فيه أربعة رجال، وروي من طريق آخر فيه ثلاثة رجال، لكن الطريق الأول أثبت من الطريق الثاني في العدالة والحفظ، فالأول أعلى باعتبار حال الرواة‏.‏

يعني أن الأول أعلى علو صفة، والثاني أعلى علو عدد، ففي هذه الحالة أيهما نقدم‏؟‏

نقول‏:‏ نقدم الأول وهو العلو في الصفة، لأن العلو في الصفة هو الذي يُعتمد عليه في صحة الحديث، لأن العدد قد يكون مثلاً ثلاثة رواة وكلهم ثقات، فيكون الحديث صحيحاً، وقد يكون العدد عشرين راوياً، لكن كلهم ضعفاء، فلا يكون الحديث صحيحاً‏.‏

إذاً فالعلو ينقسم إلى قسمين‏:‏

علو العدد وهو‏:‏ ما كان فيه عدد الرجال أقل‏.‏

علو الصفة وهو‏:‏ ما كان حال الرجال فيه أقوى وأعلى من جهة الحفظ والعدالة‏.‏

والمؤلف رحمه الله لم يتكلم عن علو الصفة وإنما تكلم عن علو العدد‏.‏

قال المؤلف رحمه الله‏:‏

وما أضَفتهُ إلى الأصحابِ مِنْ ** قولٍ وفعلٍ فهو موقوفٌ زُكِنْ

هذا هو القسم الخامس عشر من أقسام الحديث المذكورة في هذا النظم وهو الموقوف‏.‏

قوله ‏(‏ما‏)‏ شرطية‏.‏

‏(‏أضفته إلى الأصحاب‏)‏ أي ما أضفته أيها الراوي إلى الأصحاب‏.‏

والأصحاب جمع صحبٍ، وصَحْبٌ اسم جمع صاحب‏.‏

والمراد بالأصحاب هنا‏:‏ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم‏.‏

والصحابي هو‏:‏ من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلّم مؤمناً به، ومات على ذلك‏.‏

حتى ولو كان الاجتماع لحظة، وهذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلّم أن يكون صاحبه من اجتمع به ولو لحظة‏.‏

أما غيره فلا يكون الصاحب صاحباً إلا بطول صحبة، أما مجرد أن يلاقيه في أي مكان، فلا يكون بذلك صاحباً له‏.‏

ولابد في الصحابي أن يموت مؤمناً بالنبي صلى الله عليه وسلّم حتى ولو ارتد عن الإسلام ثم رجع إليه مرة أخرى، فهو صحابي على الصحيح من أقوال أهل العلم‏.‏

إذاً فما أضفته إلى الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - فإنه يسمى عند المحدثين موقوفاً‏.‏

وقوله ‏(‏زُكِنْ‏)‏ يعني عُلِم‏.‏

وقوله ‏(‏من قول وفعل‏)‏‏.‏

يُستثنى من ذلك ما ثبت له حكم الرفع، من قول الصحابي أو فعله، فإنه يكون مرفوعاً حُكماً، ولو كان من فعل الصحابي، كصلاة علي رضي الله عنه في الكسوف ثلاث ركوعات في كل ركعة، فهذا مرفوعٌ حُكماً، لأن عدد الركوعات في ركعة واحدة، أمرٌ يتوقف فيه على الشرع، ولا مجال للاجتهاد فيه، وكذلك لو تحدث الصحابي عن أمر من أمور المستقبل، أو أمور الغيب، فإنه يُحكم له بالرفع، لأن أمور الغيب ليس للرأي فيها مجال‏.‏