هذا الموضوع وجدت أهميته ليعلم الجميع مدى الصعوبات التى لاقاها بكثول فى نشر ترجمته لمعانى القرآن الكريم ، فقمت بترجمته لكم ... لأنها تعطى صورة واضحة عن إصرار هذا المسلم على نشر عمله خدمة لغير الناطقين بالضاد ، وكان رأيه صائبا ، فقد كانت هذه الخطوة علامة على طريق الدعوة للإسلام ... كما يعطى فكرة عن تزمت البعض وتحجر الفكر ، واستنارة آخرين هم المصابيح المضيئة التى تنير الطريق المظلم .

كتب بكثول عن المعاناة التى لقيها مع الأزهر فى مصر فى سبيل نشر ترجمته لمعانى القرآن الكريم ، فقال :::

الحلقة (1)


حطت بى الطائرة فى العاشر من نوفمبر 1929 فى مصر ، حاملا معى المسودة كاملة لترجمة معانى القرآن الكريم ، والتى أخذت منى سنوات فى إعدادها على فترات ، وقد زودنى صاحب السمو "نظام" الراحة الكافية والكرم ، اللذان ساعدانى على إتمام المهمة . كان هدفى الأساسى من هذه الزيارة لمصر ، أن أطلع العلماء عليها وأراجعها تفصيلا معهم وتحت إشرافهم ، حتى لا تحتوى على أخطاء لتجنبها ، أو تنافى تعاليم الإسلام . وكان معى خطاب توصية للشيخ "مصطفى المراغى" ، الذى كان فى هذا الوقت شيخا للأزهر ، ولكنه كان قد استقال من هذا المنصب مضحيا بالمرتب المرتفع الذى كان يتقاضاه . وقد كنت قد راسلت قبل شهور صديق لى تعرفت عليه فى مصر وكان رئيسا للوزراء ، طالبا منه المساعدة فى هذا الأمر ، ولكنى لم أتلق الرد على رسالتى ، وبذلك كان إعتمادى الكلى على خطاب التقديم للشيخ المراغى ، وتأكيدات صديقى "فؤاد بك الحجازى" والذى كان بالإسكندرية ووعوده لى حينما تلاقينا فى باريس من قبل بأنه سيساعدنى بكل قوته . وكان قد نما إلى علمى أن نسخة مترجمة للغة الإنجليزية قد أحرقت بصحن المسجد االأزهر ، كان قد ترجمها أحد المسلمين ، ومنع من تداولها بمصر ، ومن المفترض أن يكون السبب بأنها احتوت على البدع . وكان من "فؤاد بك " حينما سمع بوصولنا أن حضر إلينا وحملنا لنقضى أسبوعا فى محطة الرمل بالإسكندرية ، بجوار الحدائق الجميلة المطلة على البحر ، ومنه علمت بأن كل الترجمات حتى لو كانت مخلصة ، فهى مرفوضة من قطاع قوى من العلماء . كما أخبرنى صديقى ، بأنه على كل حال ، فإنه قد سمع أن هناك مجموعة أخرى من العلماء منهم "الشيخ مصطفى المراغى" يعارضونهم الرأى ، وقد فرح بأن كتاب التوصبة موجه إليه من "لورد للويد" .

تحركنا سويا للقاهرة ، حيث وجد لى فؤاد بك بنسيون قريب من قصر النيل ، وبعد يومين تحركنا فى طريقنا لحلوان عن طريق كورنيش النيل ، لمقابلة الشيخ المراغى . البلدة كانت حديثة ونظيفة وتطل على الصحراء ، وبها فنادق وفيلات . وقد علمت بأن الشيخ المراغى قد تقاعد بعد استقالته ، لأمور تتعلق بضميره ، رغم المرتب المغرى الذى كان يتقاضاه كشيخا للأزهر .

كان الشيخ رجلا طويلا ، ما زال فى نضرة الحياة ، يلبس لباس علماء الأزهر . ويضع وشاحا حول عنقه ، مرتفع فى ناحية عن الأخرى . وقد علمت سبب هذا ، فقد حكم لأيتام حينما كان قاضيا شرعيا ، بأحقيتهم فى ملكية مؤكدة ، مما لم يعجب الخصوم ، فانتظروه وألقوا عليه حامضا سبب له تشوهات فظيعة فى الرقبة ، ولكن والحمد لله لم يصب الوجه . وكما قال لى فيما بعد فؤاد بك بأنه لم يقبل يد أى عالم من العلماء إلا هذا الشيخ الجليل .

قابلنا الشيخ مرحبا ، وقدم لنا الشاى فى الفراندة التى تطل على تلال الصحراء . فؤاد بك واسماعيل بك شرين ، مساعد محافظ القاهرة ، والذى جاء معنا ، ناقشا برنامجى الذى جئت من أجله ، مع مضيفنا ، الذى قال أنه حينما كان شيخا للأزهر ، فقد كلمه رئيس الوزراء عن ترجمتى للقرآن الكريم . وأنه كان شغوفا على أن تعقد لجنة من جامعة الأزهر لمراجعة الترجمة ، ولكن الملك منع ذلك ربما لأنه كان يعتبر ترجمة القرآن إلى لغة أخرى عمل غير شرعى . ولهذا كان التوجه للأزهر رسميا لتبنى الموضوع غير مجدى ، لأن المهيمن فى هذه المؤسسة هو الملك . ولذلك أعطى الشيخ اسم ثلاثة علماء أزهريين يعملون فى الجامعة المصرية لفؤاد بك ليتصل بهم ليقوموا بالتنقيح تحت إشرافهم . وأبدى أسفه الشديد بأنه لا يعرف اللغة الإنجليزية ليشارك فى الموضوع . وقال لى ، إذا وجدت أى صعوبة ، فاكتبها لى وأنا أقوم ببحثها والرد عليها . تحركنا راجعين للقاهرة معتقدين أن الأمور قد حلت . ولكن حينما قابلنا هؤلاء الثلاثة الذين رشحهم الشيخ المراغى فى حضور عميد جامعة فؤاد "لطفى السيد" ، توقف كل المشروع . فقد دعى لطفى بك السيد عميد اللغة العربية طه حسين ، الأستاذ الضرير ، فقد أثار أن هؤلاء الثلاثة لو تعاونوا معى سيفصلون لأنهم من الأزهر ، والملك لا يريد ترجمة للقرآن الكريم للغة أخرى .

وللأسف فقد تابعه الأخرون فى رأيه قائلين بأنه مصيب . شعرت بمرارة وإحباط ، حينما اقترح طه حسين على بأن أقابل الملك شخصيا ربما يغير وجهة نظره تلك !!! فقلت له أنا لم أحضر لمصر للحصول على مقاطعة ملكية جديدة ، فقد حصلت عليها من قبل . وكذلك لم أحضر لاستصدار فتوى من العلماء المصريين ، فقد ناقشنا الموضوع مع علماء الهند ؛ جئت فقط لأجد من يساعنى فى اللغة العربية فى بعض النقاط . وخرجت غاضبا مزمعا ترك مصر إلى دمشق . ولكن فؤاد بك أكد لى بأنه سيجد طريقة لينفذ من هذا الطريق المسدود ؛ وفى الحقيقة فبعد فترة قصيرة قدمنى إلى "الدكتور محمد أحمد الغمراوى" محاضر فى علم الكيمياء بكلية الطب بجامغة مصر ، وخريج جامعة لندن ، وذو صلة وثيقة بالقرآن الكريم ... عملنا سويا لمدة ثلاثة أشهر ، تخللها زيارات متقطعة من فؤاد بك ، واتصالات كتابية مع الشخ المراغى بحلوان .





يتبع