موقف اليمين المسيحى والكنائس الأمريكية من قضايا الشرق الأوسط
أديب نجيب

كراسات استراتيجية، السنة الثالثة عشرة 2003، العدد رقم 122


--------------------------------------------------------------------------------


مقدمة:
ولدت الجماعات المسيحية الداعمة للأفكار الصهيونية خاصة خرافة عودة اليهود إلى أرض الميعاد فى بريطانيا فى مطلع القرن السادس عشر. وقد وجدت تلك الأفكار أصداء واسعة سواء لدى الكتاب والمفكرين البريطانيين، أو علي السعيد السياسى الأيديولوجي، أو على صعيد الحركات السياسية من خلال ظهور الجمعيات المؤيدة والمدافعة عن مصالح وأفكار الصهيونية. ويعد صدور وعد بلفور أحد نتائج ضغوط ونفوذ تلك الجماعات فى بريطانيا خلال تلك الفترة. غير أنها سرعان ما انتقلت إلي الولايات المتحدة الأمريكية مع مطلع القرن السابع عشر واستطاعت أن تحقق انتشارا ونفوذا واسعا ليس فقط لدى الأوساط الشعبية والفكرية، ولكن أيضا داخل المؤسسات السياسية الأمريكية، حتي أصبح نفوذ وتأثير اللوبي المسيحي الصهيونى، من خلال تحالفه مع اليمين السياسي، يفوق فى حقيقته تأثير ونفوذ اللوبى اليهودى.
وشهد تطور المسيحية الصهيونية خطوة أكثر تقدما وأبعادا أكثر مؤسسية مع تأسيس السفارة المسيحية فى القدس فى سبتمبر 1980 والتى استندت إلى مقاربة أصولية للكتاب المقدس، تقوم على الفكر القدرى الذى يرى فى إسرائيل تحقيقا لنبوءة توراتية. وقد عملت تلك الكنيسة على التأسيس للحركة المسيحية الصهيونية اعتمادا على بعض الآيات الكتابية التى أخذت من سياقها.
وواقع الأمر، فإن هذه الحركة لا تعبر عن أي كنيسة من الكنائس الأمريكية، لذا كان من المهم التأصيل لتلك الحركة والوقوف على طبيعة علاقتها بالكنائس الأمريكية، وتحديد مواقف تلك الكنائس منها. وفى هذا الإطار، يكشف تشريح الخطاب الديني الأمريكي عن رفض الكنائس الأمريكية لهذه الحركة، عبر عنه صدور العديد من البيانات الكنسية التي أعلنت رفضها لها، كما كشفت فيها عن موقفها بشأن قضايا الشرق الأوسط خاصة القضية الفلسطينية والقضية العراقية.
وفى هذا الإطار، ربما يكون من المفيد أن تبدأ الكراسة بالوقوف على معالم الخريطة الدينية في الولايات المتحدة الأمريكية كمقدمة هامة للتعرف على حجم وتأثير المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم ننتقل في الجزء الثاني إلى تفصيل واقع الجماعات المسيحية الداعمة للصهيونية وكيفية نشأة تلك الجماعات وتطورها وتشريح الخطاب الديني الأمريكي والتمييز بين الأصولية المسيحية والمسيحية الصهيونية من ناحية والكنائس الأمريكية المختلفة من ناحية أخرى. على أن نناقش في القسم الثالث مواقف الكنائس الأمريكية المختلفة من هذه الحركة، وقضايا الشرق الأوسط، خاصة الفلسطينية والقضية العراقية وقضية الحرية الدينية في مصر. وأخيرا، تناقش الخاتمة موقف الكنائس والمؤسسات المصرية من تلك الحركة.




أولا : الخريطة الدينية فى الولايات المتحدة


كشف أحد التقارير التى نشرتها جريدة Christian Science Monitor عن الجماعات الدينية وعضوية الكنائس فى الولايات المتحدة لعام 2000 ، أن عدد الكاثوليك يصل إلى 62 مليونا، ليشكلوا بذلك أكبر طائفة دينية، وأن معدل النمو داخل تلك الطائفة يصل إلى حوالى 62.2% ، بسبب عامل الهجرة، خاصة من أمريكا اللاتينية وفيتنام. يتبين من دراسة أخرى نشرت مؤخرا علي الإنترنت في السابع من شهر مارس ‏2002‏، أن هناك ‏98‏ مليون مسيحي إنجيلي بالولايات المتحدة الأمريكية. ويشير تقرير الجريدة المشار إليها سابقا، إلى أنه توجد أربع طوائف فقط من بين 17 جماعة دينية، يزيد عدد أعضائها عن مليون، قد زادت عضويتها .
وتعتبر طائفة المورمون ( كنيسة يسوع المسيح لقديسي اليوم الآخر) هى الأسرع نموا فى الولايات المتحدة، حيث بلغ معدل النمو داخل تلك الطائفة حوالي 19.1%، و يبلغ حجم عضويتها نحو 4.2 مليونا، تليها في سرعة النمو الكنيسة الخمسينية (18.5%)، ثم كنيسة العنصرة. ويعود ارتفاع معدلات نمو العضوية داخل تلك الكنائس إلى زيادة إقبال الجماعات العرقية الوافدة إلى الولايات المتحدة على هذه الكنائس. وعلي سبيل المثال، فقد بلغت نسبة الزيادة فى الكنائس التي يزيد فيها عدد الناطقين بالأسبانية نحو 53% . ويلاحظ وجود منافسة بين الكاثوليك والإنجيليين على اجتذاب الأسبان إلى كلتا الكنيستين، حيث يقدر البعض أن الأسبان سوف يشكلون نحو ربع سكان الولايات المتحدة بحلول عام 2050.
وتعاني الكنائس المعمدانية من انخفاض حجم العضوية، ولاسيما بعد سيطرة التيارات الأصولية عليها، كما حدث انخفاض في عضوية الكنيسة المتحدة بنسبة 15 %، وكنيسة المثودست بنسبة 7%، حيث يصل حجم عضوية فى الكنيسة الأخيرة نحو عشرة ملايين نسمة، وتنتشر في 69% من الولايات المتحدة ( ). كما يصل حجم عضوية الكنائس الأرثوذكسية، التى تضم الروم والأقباط والأرمن والسريان وغيرهم، إلي نحو 150 ألف نسمة .
و يرى الدكتور ميلاد حنا ( ) أن الكنيسة الكاثوليكية ، التي يرأسها بابا روما ويديرها وفق آليات شفافة ومنضبطة من الفاتيكان في إيطاليا، هى أكبر كيان لمذهب مسيحي موحد ، حيث يصل أتباعها على مستوى العالم إلى ما يزيد عن ‏800‏ مليون نسمة‏,‏ ويتبعها فى الولايات المتحدة بمفردها نحو ‏62‏ مليون شخص. غير أن تدخل الكنيسة الكاثوليكية في الانحيازات السياسية غير وارد، ولا تستطيع الكنيسة الكاثوليكية الخروج على التوجيهات السياسية للبابا. *
ومن ثم، فقد أصبحت أهم قوة للكنائس الأمريكية هي تلك التي تسمي في جملتها بالكنائس البروتستانتية، أي تلك التي نشأت علي أساس حركات الإصلاح الديني، والتي بدأها مارتن لوثر فى عام ‏1517‏، وتبعه بسنوات كالفن، ثم تبعهما الملك هنري الثامن الذى اتخذ مسارا إصلاحيا في القرن الثامن عشر، في بريطانيا. وعندما هاجرت هذه المذاهب الإصلاحية الثلاثة إلي الولايات المتحدة تفرعت إلي العشرات والعشرات من المذاهب الجزئية، والتي يمكن تجميعها علي النحو التالي‏:‏
الكنائس المعمدانية : وتضم داخلها ‏15‏ طائفة جزئية تختلف فيما بينها حول فروق قليلة - ليس لها أهمية تذكر في موضوع دراستنا. ويقدر عدد المنتمين إليها نحو ‏34‏ مليون أمريكي ‏(‏ أبيض وأسود‏)، وينتمى إليها أيضا الرئيس الأمريكى السابق جيمى كارتر، الذي نال مؤخرا جائزة نوبل للسلام.
‏كنائس نهضة القداسة: وتضم ‏15‏ طائفة جزئية، ويقدر إجمالي عدد المنتمين إليها نحو ‏14‏ مليون نسمة‏,‏ وتضم تيارات فكرية متصارعة‏.‏
‏الكنائس اللوثرية: وتضم ‏10‏ طوائف متقاربة فكريا. ويبلغ مجموع المنتمين إليها نحو‏10‏ ملايين أمريكي‏.‏
الكنائس المشيخية: ويقدر عدد المنتمين إليها إلى ما يزيد عن 4 ملايين فرد موزعين على 11333 كنيسة فى 16 مجمعا. وتعد من أقوى الكنائس فى مواجهة التيار اليميني الأمريكى.
الكنائس الخمسينية: ويقدر عدد المنتمين إليها بحوالى 2.5‏ مليون أمريكي.
الكنائس الأسقفية (الانجليكانية): وهي في موقع متوسط عقائديا وطقوسا بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس البروتستانتية لأنها في الأصل هي الكنيسة الإنجليكانية، أي أن موطنها الأصلى هو انجلترا ولكنها استقلت عن روما في القرن الثامن عشر،‏ وصار لها رئيسها المستقل عن روما في كانتربري بانجلترا‏. ويقدر عدد المنتمين إليها علي مستوي العالم حوالى ‏77‏ مليونا، تم تقسيمها إلي ‏38‏ إقليما في العالم‏,‏ صار لكل إقليم منها استقلاليته الإدارية، ومن بينها إقليم الشرق الأوسط.
وبجانب هذه الكنائس والمذاهب الكبري في الولايات المتحدة، هناك كنائس ومذاهب أصغر كثيرا‏,‏ ولذا فإنها أكثر تماسكا وربما تعصبا ، أهمها الكنائس المصلحة، وهي مكونة من سبع طوائف مختلفة وجملة أتباعها مليونان‏، وكنائس الأخوة البيلموث وكنيسة الله وكنيسة المسيح وكنيسة الناصري، وغيرها وتتفرع إلي نحو‏ 15‏ طائفة يصل عددها إلي ‏4‏ ملايين‏.
و يضم المجلس القومي لكنائس المسيح في الولايات المتحدة 36 كنيسة بروتستانتية وأرثوذكسية وأسقفية (إنجليكانية)، يبلغ حجم عضويتها 50 مليونا في 140 ألف كنيسة - من بينهم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى الولايات المتحدة، والكنيسة المشيخية (الإنجيلية)، وكنيسة أنطاكية للروم الأرثوزكس.
ويقدر عدد المسلمين طبقا للتقرير المشار إليه سابقا بنحو سبعة ملايين نسمة، وذلك استنادا إلى أن عدد المترددين على المساجد يقدر بنحو 1.6 مليونا، فإذا اعتبرنا أن هذا الرقم يشكل ثلث عدد المسلين فإن العدد الإجمالي يصل إلى نحو 7 ملايين. وقد أكد هذا الرقم الدكتور يحيي هندي، أستاذ كرسي الإسلاميات وإمام مسجد جامعة جورج تاون الأمريكية وعضو المجلس الفقهي لشمال أمريكا. وأضاف أن نحو 84% من هذه النسبة من أصل أفريقي، بينما جــــاء 0.5% إلى الولايات المتحدة عن طريق الهجرة على امتداد أكثر من 150 عاما. ( ) ووفق بعض التقديرات الأخرى، تمثل الجالية العربية حوالي‏32.5%‏ من المسلمين الأمريكيين، أي ما يقرب من ثلث الجالية الأمريكية المسلمة، وتتوزع النسبة الباقية بين الأفارقة الأمريكيون‏ Afro-Americans‏ ومسلمى جنوب آسيا مثل الهند وباكستان‏.‏ وتمثل العناصر الثلاثة أكثر من‏90%‏ من الوجود الإسلامي في الولايات المتحدة. الأمريكية. ( )
و الجدير بالذكر أنه منذ عام 1823جاء إلى الولايات المتحدة بحارة مسلمون من غرب أفريقيا، كما أن كريستوفر كولمبس الذي اكتشف القارة الأمريكية تعرف عليها من خلال خريطة رسمها الجغرافي العربي الادريسى، و أن أول معاهدة تجارية وقعتها الولايات المتحدة كانت مع الملك محمد الثاني ملك المغرب في عام 1788. أما فيما يتعلق بالتوزيع المهني للجالية الإسلامية، فإنها تضم في تكوينها 38% مهندسين، و 13% أطباء، والقليلون منهم يعملون في الإعلام والسياسة والمحاماة (حوالي 300 محام).( ) ووفق إحصاءات عام 2000، بلغ عدد اليهود فى الولايات المتحدة حوالى 6.1 مليون يهودى، بنسبة 2.2% من إجمالى سكان الولايات المتحدة الأمريكية. ( )


ثانيا: الجماعات المسيحية الداعمة للصهيونية


الجماعات البريطانية الداعمة للصهيونية :
ولدت هذه الجماعات فى بريطانيا، التي تعتبر قاعدة انطلاق هذه الجماعات في مشروعها لتفعيل خرافة عودة اليهود إلى أرض الميعاد. فمع مطلع القرن السادس عشر شهدت بريطانيا، على مختلف المستويات السياسية والثقافية والتربوية منعطفاً مفصلياً في الرؤى والتفسيرات والاستراتيجيات، حين بدأ ظهور أدبيات التعاطف مع اليهود. وقد انبرت أقلام المفكرين المتصهينين الجدد لتكتب عن هذه الفكرة، وكان على رأسهم البرلمانى البريطاني السير هنري فيش الذي دافع عن اليهود وقضيتهم في كتاب له صدر فى عام 1622 بعنوان: الاستعادة الكبرى للعالم، ذهب فيه إلى أنه ليس اليهود قلة مبعثرة، بل إنهم أمة، وسوف تعود أمة اليهود إلى وطنها، وتعمر كل زوايا الأرض... ويعيش اليهود بسلام في وطنهم إلى الأبد.
وفي عام 1649 وجه اللاهوتيان الإنجليزيان جوانا وألنزر كارترابت، مذكرة إلى الحكومة البريطانية يطالبان فيها بأن يقوم الشعب الإنكليزي وشعب الأراضي المنخفضة بمهمة نقل اليهود على متن سفنهم إلى الأرض التي وعد اللَّه بها أجدادهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ومنحهم إياها إرثاً أبدياً.
وعلى الصعيد السياسي/ الأيديولوجى كان تأثير التيار الصهيوني المسيحي يحتل مساحة أوسع، ويحظى بقوة متميزة. وعلى سبيل المثال يبرز العضو البرلماني ورئيس المحفل البيوريتانى فى الفترة من (1649 ـ 1658) أوليفر كرومويل كأول سياسي بريطاني يرحب بمذكرة اللاهوتيين، ودعا إلى عقد مؤتمر فى عام 1655 لإقرار التشريعات اللازمة لعودة اليهود إلى بريطانيا. وبالتالي إلغاء قانون النفي الذي أصدره الملك ادوارد ضد اليهود. ويعد كرومويل من أبرز رواد الربط بين عودة اليهود إلى فلسطين والمصالح البريطانية فيها. وبقيت هذه الاستراتيجية حية في الذهنية السياسية البريطانية لعدة أجيال، تغذيها مواقف الساسة وأدبيات المفكرين وإرهاصات المتحمسين.
وشهد عام 1807 ولادة جمعية لندن لتعزيز المسيحية بين اليهود، كأول جمعية صهيونية منظمة، ومثل اللورد أنطوني كوير ( اللورد شافتسبرى) أحد أهم أركانها. وقد نشر الأخير مقالاً له في عام 1839 أشار فيه إلى ضرورة تحقيق إرادة اللَّه بعودة اليهود إلى فلسطين، وإلى أن اليهود هم الأمل الوحيد في تجدد المسيحية وعودة المسيح. وفي هذا المقال رفع أنطوني، ولأول مرة، شعار: وطن بلا شعب لشعب بلا وطن.
وحفل القرن التاسع عشر بالكثير من الأحداث والتطورات التي أدت إلى رفع مستوى تعاطف الحكومة البريطانية مع قضية دفع اليهود إلى فلسطين - تحت ضغط أنصار الصهيونية المسيحية - من مجرد الاجتهاد الفكري إلى ميادين التطبيق الفعلي، وتوج هذا بإصدار وعد بلفور فى أوائل القرن العشرين. وكان آرثر بلفور من بين الذين تأثروا بمقولة شعب اللَّه المختار وحقه في أرض الميعاد. وفى هذا الصدد تقول عنه ابنة أخته ومؤرخة حياته بلانش دوجويل: لقد تأثر منذ نعومة أظفاره بدراسة العهد القديم. أما عن مهندس وعد بلفور ، فمن الثابت تاريخياً أنه أصولى صهيوني ومتشدد في دفاعه عن المصالح اليهودية، يدعى ويليام هـ . هشـلر ( 1845 - 1931)، عمل فترة فى السفارة البريطانية فى فيينا وكان من المؤيدين لثيودور هرتزل، كما كشف عن ذلك المؤرخ البريطاني البارز وأستاذ التاريخ المعاصر في جامعة ويلز البريطانية البروفسور ويليام روبنشتاين، في دراسة له نشرت في مجلة History Today بعد مرور أكثر من أربعة عقود على وفاة كاتب المسوَّدة. إذ يقول روبنشتاين أن ويليام هـ . هشلر كان يهوديا سريا، اسمه الحقيقي ليوبولد تشارلز موريتز أمبري. وأنه قد أخفى اسمه ويهوديته لمدة سبعة عقود لأسباب غير معروفة، وتظاهر باعتناقه البروتستانتية. ويضيف المؤرخ الباحث أن ليوبولد اليهودي والمستشار السياسي لوزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور، أصبح من أبرز المدافعين عن الصهيونية وخدمة القضايا اليهودية. ويكتب ليوبولد في مذكراته، مفتخراً بماضيه، عن تلك الفترة واصفاً الدور الذي لعبه في تأسيس إسرائيل بقوله: يبدو أنني وضعت إصبعي في الكعكة، ليس فقط بكتابة إعلان بلفور، بل أيضاً في وضع أسس الجيش الإسرائيلي الراهن. والجدير بالذكر أن شخصية ليوبولد أمبري تكاد تكون - وللأسف - خارج دائرة الاهتمام العربي. إلا أن بعض الرسميين ورجال الأعمال من العرب المعاصرين يعرفون ابنه الأصغر سناً النائب والوزير المحافظ اليميني السابق جوليان أمبري. ويختم الباحث روبنشتاين دراسته بالقول: لا نغالي إذا وصفنا ليوبولد أمبري بأنه اليهودي السري (البروتستانتي العلني) الذي عمل دون كلل لصالح قضايا اليهود. ونظراً للمناصب الهامة التي احتلها في حياته، فقد لعب دوراً مصيرياً في نجاح المشروع الصهيوني الذي أدى في النهاية إلى إقامة دولة إسرائيل. ( )
و يذكر تقرير لمجلس كنائس الشرق الأوسط (1991) يعض الشخصيات البريطانية التي كان لها دورها فى هذه الحركة ومنهم القس لويس واى (1809)، و هنرى دراموند عضو مجلس العموم البريطاني، واللورد شافتسـبورى (1801- 1885)، والقس وليم هشلر (1845-1931).وعلى الرغم من أن موجة الصهيونية المسيحية البريطانية قد انحسرت، إلا أنه مازال لها أثر في بعض الدوائر الصغرى ( ).
ومع نهاية ثمانينات القرن التاسع عشر، صار مذهب القدرية مقبولا لدى جماعات من الأمريكيين. ونادي هذا المذهب بأن الله قد جعل فى التاريخ مسارين متوازيين أحدهما يعمل من خلال إسرائيل، والثاني من خلال الكنيسة، وأنه توجد سبعة أقدار تدل على تطور علاقة الله بالبشر ، والمسار السادس هو الحالي وهو مسار الكنيسة والنعمة، أما المسار السابع ففيه يجيء السيد المسيح ثانية و يملك ألف سنة.
ويرى الدكتور جيروم شاهين أن العقيدة التى تنادى بحرفية الألفية، هى عقيدة قديمة ترجع إلي القرن الأول، وقد نشأت فى أوساط مسيحية من أصل يهودى. وقد شجب مجمع أفسس هذه العقيدة فى عام 431. ( ) ومن الشخصيات التي روجت لهذا الفكر وليم بلاكستون (1841- 1935)، مؤلف كتاب: المسيــح آت (1880)، و أعقب ذلك صدور طبعة سكوفيلد للكتاب المقدس (1909) التي اشتملت على هوامش و تعليقات تساند عقيدة القدريين.
ويذكر تقرير مجلس كنائس الشرق الأوسط أن عام 1976 شهد أحداثا هامة ترتبط بتطور حركة الصهيونية المسيحية منها وصول جيمى كارتر ( الذي ينتسب للكنيسة المعمدانية) إلى حكم الولايات المتحدة معتمدا على أصوات الأصوليين ، لكنهم شنوا حملة ضده، بالتعاون مع اللوبي الصهيوني، بسبب تأييده لحقوق الشعب الفلسطيني. ثم جاء رونالد ريجان في الثمانينيات الذي يؤمن هو الآخر بالقدرية. وتبين الوقائع أن كل مرشح للرئاسة الأمريكية أو الكونجرس الأمريكي أو مجلس النواب، يتنافس على إرضاء هذا اللوبي الصهيوني ، مع المسيحيين الصهيونيين الأصوليين. *
السفارة المسيحية فى القدس
كشف تقرير مجلس كنائس الشرق الأوسط السالف الذكر عما يسمى بـ السفارة المسيحية الدولية فى القدس، والتى تأسست فى 30 سبتمبر 1980من بضعة أشخاص استنكروا مبادرة 13 دولة رفضت الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية. وتستند تلك السفارة إلى مقاربة أصولية للكتاب المقدس تقوم على الفكر القدري الذي يرى في إسرائيل تحقيقا لنبوءة توراتية. وأصدرت هيئة السفارة المسيحية فى القدس كتيبا يوضح ذلك بعنوان: الأسس الكتابية للصهيونية المسيحية، تضمن آيات كتابية أخذت من مواقعها دون دراسة لخلفية النصً والقرينة الدالة عليه. وقد عقدت هذه السفارة مؤتمرا بعنوان القيادة المسيحية الدولية، بمدينة بال بسويسرا (27-29 أغسطس 1985) و اتخذت فيه عدة قرارات نُشرت فى التقرير الذى أصدره المجلس. ولهذه السفارة نشاطها فى الولايات المتحدة وكندا وانجلترا وهولندا وألمانيا وسويسرا والنرويج وفنلندا واستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا.
وقد أصدر رؤساء الكنائس المسيحية في القدس بيانا رسميا حول السفارة المسيحية الدولية، نُشر في جريدة القدس في الثالث عشر من نيسان/ إبريل عام 1988، جاء فيه أن الهيئة التي تدعى السفارة المسيحية الدولية لا تمثل كنائسنا، وليست مخولة ولا منوطة بأن تمثل كنائسنا في هذه البلاد، كما أنها لا تستطيع أن تمثل غالبية المؤمنين في العالم. إننا لا نعترف بهذه السفارة ولا بنشاطاتها ولا بمؤتمراتها، وبما أن تعاليم السيد المسيح وهدي الإنجيل ونوره انطلقت من هذه الديار نفسها حيث نمثل نحن ديانتنا المقدسة، وحيث نجتهد في تكريم المقدسات والمحافظة عليها، فإننا لسنا بحاجة إلى أناس يأتوننا من الخارج يتحدثون أو يتصرفون باسمنا، خصوصا أنهم غير واعين بواقعنا، كما نرفض رفضا باتا أي تفسير سياسي للكتب المقدسة.
كما ندد الأرشمندريت عطا الله حنا ( المتحدث الرسمى باسم بطريركية الروم الأرثوزكس بالقدس ) في محاضرة ألقاها في بيت لحم بنشاط ما يسمى السفارة المسيحية بالقدس المحتلة، والمجموعات الصهيونية الأخرى التي تبرر عدوان الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، وتدعم تهويد الأراضي الفلسطينية والاحتلال. وذهب إلى إن هذه المجموعات تدعم الاستيطان في الأراضي الفلسطينية، نافيا صفة الكنائس عن الأماكن التي تنشط فيها المجموعات الصهيونية، واصفا إياها بـ دكاكينصهيونية مسخرة في خدمة المشروع الصهيوني. وأكد أن المسيحية الحقيقية يمثلها المسيحيون العرب وليس ذلك القابع في البيت الأبيض.
الجماعات الأمريكية الداعمة للصهيونية
فى منتصف الثمانينات نشرت صحيفة السفير اللبنانية دراسة مفصلة للدكتور طارق متري، مدير دائرة الإيمان والوحدة بمجلس كنائس الشرق الأوسط آنذاك و منسق برنامج الحوار الإسلامي المسيحي بمجلس الكنائس العالمي حاليا. وقد تكون هذه الدراسة هى الأولى فى الإعلام العربي حول هذه الحركات. وقد عرضها الأستاذ فهمي هويدى تحت عنوان أصوليون وأمريكيون ( )، فأشار إلى أن الأفكار الألفية (الاعتقاد الحرفى بأن المسيح سيملك بعد عودته مرة أخرى ألف سنة كاملة) تلقى قبولا واسعا لدى بعض الأوساط الأمريكية. و فى هذا الصدد لقى كتاب هال لندس بعنوان: الأرض ذلك الكوكب المتأخر، قبولا ضخما، إذ بيع منه نحو 20 مليون نسخة. وفيه وصف الكاتب مرحلة العد العكسي نحو حرب هرمجدون. كما تحدث طارق متري عن دور حركة الأغلبية الأخلاقية التي أسسها جبرى فولويل، والتى تعتنق الأفكار الألفية، وتحدث أيضا عن البرامج الدينية التي تبث هذه الأفكار من خلال التليفزيون.
ونشر الكاتب الصحفي أحمد بهجت ( ) رسالة من أحد القراء حول تقرير نشر بمجلة نيويورك تايمز تناول فيه محرره جيفري جولدبرج الأخطار المحدقة بالحرم القدسي ‏( الأقصى وقبة الصخرة‏)‏ حيث تتوافد علي فلسطين المحتلة جماعات المسيحية الصهيونية من الولايات المتحدة وكندا واستراليا‏,‏ كما يستضيفون في الغرب قيادات الإرهاب اليهودي لجمع التبرعات‏,‏ تمهيدا لبناء هيكل سليمان علي أنقاض الحرم‏.‏ وقد رد قارىء آخر على أحمد بهجت برسالة ( ) جاء فيها أن الكنائس المسيحية والديانة المسيحية ليس لها دخل بهذا الاعتقاد والافتراء اليهودي‏.
ويمكن أن نوضح في هذا الإطار أن الاعتقاد المسيحي الراسخ بشأن هذه القضية أنه منذ هدم الهيكل الثاني بواسطة الرومان في عام‏ 1970‏,‏ كما تنبأ السيد المسيح في الكتاب المقدس‏,‏ فإنه لن يقوم لليهود قائمة لأنه لا هيكل ولا ذبيحة بعد مجيء المسيح‏.‏
وذكر الدكتور حسن محمد وجيه أن هذه الجماعات لديها أموالا طائلة تستخدمها فى نشر أفكارها المتطرفة، وأن تأثير هذه الجماعات على الرأى العام و الحكومة الأمريكية فى تزايد مستمر ( ). ورصد الكاتب الصحفي رضا هلال ( ) علاقة التطور اللاهوتي في الكنيسة الغربية والانقسام الذي جري علي الصعيد اللاهوتي (كاثوليك - بروتستانت - إنجيليون) بالانقسام السياسي والكنسي الذي حدث في أوروبا منذ أن أعلن هنري الثامن قراره فى عام ‏1538‏ بالانفصال عن الكنيسة في روما الكاثوليكية والدعم الذي حظي به المذهب البروتستانتي في بريطانيا، بحيث اعتبرت بريطانيا لفترة من الزمن هى أرض الميعاد الجديدة,. ويقول أن المسيحية اليهودية - الصهيونية أصبحت مع نهاية القرن الثامن عشر تيارا راسخا في الثقافة الغربية، إلا أنها منذ ذلك التاريخ تحولت من ميدان اللاهوت والفلسفة والأدب والرمز إلي ميدان السياسية. وكان من جراء ذلك تأثر أحد القادة السياسيين الكبار وهو نابليون بونابرت بتلك الدعوة قبل وعد بلفور الإنجليزي بـ ‏118، ‏سنة حين وصف نابليون في رسالة وجهها إلي اليهود أثناء غزوه للشام مخاطبا إياهم بأنهم ورثة فلسطين الشرعيون‏.‏ وكان أول من صاغ عبارة بلاد بدون أمة لأمة بدون بلاد هو اللورد المسيحي الصهيوني الإنجليزي ايرل شافتسبري في مقال كتبه فى عام ‏1839‏ بعنوان الدولة وآفاق المستقبل أمام اليهود‏.‏
والأخطر من ذلك هو انتقال المسيحية الصهيونية إلي أرض الميعاد الجديدة، أي الولايات المتحدة، منذ مطلع القرن السابع عشر،‏ و اصطبغت المسيحية الأمريكية البروتستانتية بطابع يهودي كامل‏,‏ مما كان له تأثيره علي المؤسسات السياسية الأمريكية وطبعها بطابع يهودي كامل، وفى طليعتها البيت الأبيض، وعلى سبيل المثال لم يتردد الرئيس الأمريكيى الأسبق وودر ولسن فى الترحيب بوعد بلفور. ومن ناحية أخرى، فقد انعكس هذا التأثير اللاهوتى على السياسة الأمريكية. ورغم أن عدد المهاجرين اليهود الى الولايات المتحدة حتى عام 1790 لم يزد على 1500 شخص، إلا أن التأثير الحقيقى لليهود لم يكن في ذاتهم، ولكن فى تهويد المسيحية، فقد تبارى الرؤساء الأمريكيون فى مغازلة إسرائيل ليس تحت تأثير اللوبي اليهودي، كما يكرر خطابنا الإعلامي والسياسي، ولكن تحت تأثير اللوبي المسيحي الصهيوني الأمريكي الذي تحالف مع اليمين السياسي الأمريكي ليسيطر تماما علي الخريطة السياسية الحركية في الولايات المتحدة، وعلي مطابخ رسم وصنع السياسات، وعملية اتخاذ القرار في أجهزة الحكم الأمريكية ممثلة فى الكونجرس‏,‏ ووزارة الخارجية‏,‏ ودوائر الأمن القومي‏,‏ والبيت الأبيض‏..‏الخ
ويقول مايك ايفانز أن إسرائيل تلعب دورا حاسما في المصير الروحي والسياسي لأمريكا‏. جعلت الشبكات الدينية التليفزيونية والإذاعية من إسرائيل قضية القضايا في برامجها وفي حملاتها لجمع التبرعات لإسرائيل.
خريطة الخطاب الديني الإنجيلي الأمريكي:
تتسم خريطة الخطاب الديني الإنجيلي الأمريكي بالاتساع والتعدد والتداخل أيضا، بقدر اتساع وتعدد التوجهات داخل الولايات المتحدة‏,‏ لذلك نجدها تضم كافة الاتجاهات الأصولية المتطرفة والمعتدلة‏. وهناك ثلاثة اتجاهات هامة في هذا الصدد.
الاتجاه الأول: الأصولي الأخلاقي
يركز أصحابه علي نقد الأفكار الخاصة بحرية الشواذ وحياة الإباحية التي يحياها المجتمع الأمريكي والإجهاض إلي آخره‏.‏ ‏ وقد عبر عن ذلك الاتجاه جيري فولويل، أحد رموز هذا الاتجاه، بعد حدوث هجمات سبتمبر مباشرة‏، والذى فسر وقوع تلك الهجمات باعتبارها انتقاما من الله لحالة التحلل الأخلاقى التى يعيشها المجتمع الأمريكي، الأمر الذي دفع الرئيس بوش إلى انتقاد فولويل قائلا‏:‏ إنها كلمات غير لائقة لشعب يتألم ويعاني‏,‏ مما اضطر فولويل أن يتراجع ويقدم اعتذاره للشعب الأمريكي‏.‏
وقد عبر بات روبرتسون‏ عن هذا الاتجاه أيضا أثناء الاحتفال بالعام الأربعين لتدشين إذاعته الدينية الشهيرة حين قال إن الشعب الأمريكي في إمكانه أن يقي نفسه من أية هجمات في المستقبل من خلال صحوة روحانية. ثم أضاف إن الرب يستعد لهز الشعب الأمريكي‏,‏ حيث لم نر بعد حكمه علي أمريكا‏.‏ إن ما حدث فى الحادي عشر من سبتمبر أشبه بلعب الأطفال مقارنة بما سوف يحدث‏.‏ إن الصحوة الروحانية المطلوبة تضع الأمور الروحية قبل أي شيء آخر‏,‏ وتنطوي علي قدر كبير من الشعور بالندم والتواضع إلي حد الخنوع‏,‏ وأن يبدأ الناس في العيش وفقا للأسلوب الذي يحضهم عليه الإنجيل. ( )
وقد ينجح هذا الاتجاه الأصولي المتشدد لفولويل وروبرتسون في جذب الكثير من البسطاء‏,‏ لكنه ينطوي علي تناقضات وتعميمات ومقولات خاطئة‏.‏ فنحن ننتقد معهم الجدل الدائر حول حرية الشواذ والمشكلات الأخري‏,‏ ولكن السؤال‏:‏ هل الفئات التي تعاني هذه المشكلات تمثل أغلبية في المجتمع الأمريكي المتدين والمؤمن الذي يشاركهما الانتقاد نفسه ؟ وهل بسبب هذه المجموعة القليلة ينتقم الله من كل الشعب الأمريكي ؟ وهل الله تعالي هو الفاعل الحقيقي وراء هذه الهجمات ؟ وما ذنب الأبرياء الذين ماتوا من غير الأمريكيين ؟ أم أنه جل جلاله يدعو كل الناس إلي أن تتعلم من عبرة الأحداث وصوت التاريخ ؟ و ماذا عن الإحياء الديني الذي يحدث في أمريكا منذ سنوات عديدة ؟
الاتجاه الثاني: الأصولي العنصري
يجمع هذا الاتجاه مع الاتجاه الأول طريقة التفكير والتركيز علي المشكلات الأخلاقية الداخلية‏,‏ بل ويضم من بين رموزه الشخصيات نفسها التي عبرت عن الاتجاه الأول‏.‏ لكن إذا كان الاتجاه الأول أصوليا متشددا‏,‏ فالاتجاه الثاني - وهنا تكمن الخطورة - أصولي عنصري‏,‏ تتزعمه قيادات هيئات ومذاهب تملك قوة المال والإعلام خاصة التليفزيوني منها أمثال فولويل، وروبرتسون، وسواجارت ( )، وبيكر، وكينث كوبلاند، وبن هن، وهمبرد، وكراولي، وروبيسون، وولفورد، ورالف ريد، ودون هولد‏...إلخ‏.‏ وبالتالى، فإن هذا الاتجاه يتبنى مقولات صمويل هنتنجتون في كتابه المعروف حول صراع الحضارات، ومقولات فوكوياما في كتابه حول نهاية التاريخ، إلي آخر تلك الكتب التي تري أن المكون الأساسي للحضارة الإسلامية هو العداء للغرب. وبالتالي فإنه يؤيد من ينادي بحتمية الصراع بين الغرب والعالم الإسلامي. ليس هذا فحسب، بل إن هذا الاتجاه يتبني طريقة التفكير الحرفي الدهري Dispensatioal في اقترابه لنصوص الكتاب المقدس. ويخلط أصحاب هذا الاتجاه بين ما هو يهودي وما هو مسيحي‏,‏ وبين الدين والسياسة‏,‏ ويؤيدون مزاعم إسرائيل الحديثة عن الشعب المختار‏,‏ وتفسيرهم الخاص بالمجيء الثاني للسيد المسيح ومقولة هرمجدون‏.، إلي آخر هذه الأمور‏.‏
ويمثل هذان الاتجاهان السند الرئيسي للجماعات المسيحية الداعمة للصهيونية، وذلك بالنظر إلى إيمانهما بالتفسير الحرفى للكتاب المقدس.
وقد تأثر بعض الرؤساء الأمريكيين بالطرح اللاهوتي المسيحي اليهودي، وفى مقدمة هؤلاء رونالد ريجان الذي ذكر أن سفر حزقيال يتضمن نصا يعنى‏ أن الرب سيأخذ أولاد إسرائيل من بين الوثنيين ويعودون جميعهم مرة أخري إلي الأرض الموعودة‏,‏ وان ذلك قد تحقق أخيرا بعد ألف عام ولأول مرة يبدو كل شيء في مكانه في انتظار هرمجدون والمجيء الثاني للمسيح‏.‏
ومن ناحية أخرى، تنوى السياسة الخارجية للمجرم شارون إحراز هدف واحد وهو: كسب الوقت من أجل البقاء في السلطة بدون التنازل عن الضفة الغربية والمستوطنات. وقد عكست زيارته الخامسة للبيت الأبيض إصراره على تحقيق هذا الهدف. وقد كشفت زيارات شارون إلى الولايات المتحدة الأمريكية مدى تعزز موقعه وموقفه بظهور حركة الصهيونية المسيحية، حيث ذكرت الصحيفة البريطانية Daily Telegraph ما أشارت إليه تقارير صحفية في الآونة الأخيرة، من بروز حركة الصهيونية المسيحية الجديدة أو أنصار إسرائيل الجدد بين المسيحيين البروتستانت المحافظين في الولايات المتحدة. وتمضي الصحيفة بالقول إن مندوبين عن هؤلاء - بينهم مقدمو برامج دينية في الإذاعات الأمريكية المحلية - حضروا لقاء لشارون في حفل أقيم في السفارة الإسرائيلية في واشنطن. ونقلت الصحيفة عن أحدهم القول إن تحالفات مثيرة للاهتمام بدأت تتشكل بين إسرائيل والمسيحيين المحافظين،... والذين يربو عددهم على 40 مليون شخص .
ويبدو أن إدارة بوش قد أخلت الساحة - حتى إشعار آخر- في ملف الشرق الأوسط للوبيات وجماعات ضغط موالية لإسرائيل، خاصة في ظل الصعود اليميني - النصراني واليهودي. وعلي عكس ما يري رضا هلال، فى المصدر المذكور من قبل، من صعود اتجاه متنام منذ بداية الثمانينيات نحو تشكيل تحالف واسع بين اليمين السياسي في الحزب الجمهوري وبين الحركة الأصولية المسيحية الصهيونية، فان الحقيقة الواضحة ان الحركة الصهيونية بشقيها المسيحي واليهودي ربطت قواربها وأحكمت قبضتها علي كل عناصر القوة المؤثرة داخل الحزبين الجمهورى والديمقراطى.
ويرى الدكتور القس إكرام لمعي ضرورة التمييز بين الجماعات المسيحية الداعمة للصهيونية، من ناحية، وباقى الكنائس المسيحية الأمريكية، من ناحية أخرى. ويشير هنا إلى عدد من النقاط ( ) :
(1) علينا أن ندرك أنه ليس كل البروتستانت الأمريكيين صهاينة أصوليون، كما أنه ليس كل الأصوليين الصهاينة أمريكيون‏, فهذه الحركة توجد أيضا في أوروبا وفي بلدان أخري كثيرة . وعلينا أن ندرك أيضا أن عدد البروتستانت الأصوليين لا يزيد عن‏10%‏ من البروتستانت المتدينين، وأن‏90%‏ من البروتستانت في الولايات المتحدة ضد الأصولية، وإن كان الأصوليون هم الذين يملكون الأموال ومحطات التليفزيون والدعاية الضخمة، وبإضافة اللوبي اليهودي إلى هؤلاء الأصوليين فإنهم يصبحون قوة لا يستهان بها. وبالإضافة إلي ذلك، فإن الصهيونية المسيحية هي بالأساس حركة وليست كنيسة، فلا توجد كنيسة تسمي كنيسة المسيحيين الأصوليين أو الصهاينة، لكنها حركة توجد في معظم الكنائس، تقوي أو تضعف بمقدار قبول الكنيسة لأعضاء ينتمون لمثل هذا الفكر. كما أن معظم الكنائس البروتستانتية في الولايات المتحدة قد رفضت الفكر الأصولي وأصدرت بيانات واضحة في هذا الشأن‏,‏ وإذا ما وصمنا كل البروتستانت بالأصولية فإننا نقع بذلك في نفس خطأ الغرب عندما يصم كل المسلمين بالإرهاب دون تمييز‏.‏
(2) إن مارتن لوثر زعيم الإصلاح والذي أعاد اكتشاف العهد القديم وأشار إلى أهمية النظر إلى اليهودية كخلفية للمسيحية، والذى ذهب إلى أنه لا يوجد سبب ندين به يهود اليوم‏,‏ وأن تعميدهم بالقسر مرفوض، قد عاد ورفض اليهود لأنهم رفضوا تفسيره للعهد القديم. وفي عام ‏1543‏ أصدر مارتن لوثر كتابه: في اليهود وكذبهم On the Jews and their lies والذي طبع في وتنبرج والذى بدأت معه معالم الطريق لاضطهاد اليهود علي يد الألمان، إذ يقول‏:‏ إن مجامعهم يجب أن تحرق ولا يبقي أي أثر منها، وكتاب الصلاة اليهودي يجب أن يزال من الوجود‏,‏ ويجب منع الربيين اليهود من الوعظ‏,‏ ثم يجب أن تهدم بيوت اليهود وأن يجمعوا كلهم تحت سقف واحد ...‏ ويجب أن يطردوا إلى الخارج دائما وباستمرار. ولقد نفذ أتباع لوثر تعاليمه فأغلقوا مجمع برلين فى عام ‏1572‏، ومنعوا اليهود من دخول أماكن معينة من المدينة‏.‏
وهكذا، ومن الأمانة العلمية والتاريخية علينا ألا نحمل مارتن لوثر ذنوب الأصولية المسيحية التي صارت حركة ضخمة علي يد ج‏.‏ ن‏.‏ داربي، وك‏.‏ اسكوفيلد‏،‏ وذلك بداية من القرن الثامن عشر حتي وصلت ذروتها مع نهاية القرن العشرين‏.
(3) أنه ليس من الموضوعية اليوم الحديث عن أصولية دينية تحرك السياسة الأمريكية، فالمعروف أن السياسة الأمريكية تحركها أولا وأخيرا المصالح وأن هذه الحركات الدينية يمكن أن تكون عاملا مساعدا، لكنها لا يمكن أن تكون المحرك الأساسي في اللعبة السياسية الأمريكية‏,‏ وإلا أين كانت الأصولية المسيحية عندما وقفت الولايات المتحدة ضد الصرب في البوسنة وألبانيا، وأين كانت الأصولية المسيحية عندما وقفت الولايات المتحدة مع الكاثوليك في أيرلندا ضد البروتستانت‏,. لاشك أن المحرك الأساسي في كل هذا هو المصالح‏.‏
(4) إن الذي يفهم لغة الأصولية البروتستانتية الأمريكية هم البروتستانت غير الأصوليين، خاصة البروتستانت العرب. لقد قام د‏.‏ القس‏‏ صموئيل حبيب، الرئيس السابق للطائفة الإنجيلية فى مصر ، بجهد واضح في هذا المجال كان أبرزه زيارته للولايات المتحدة الأمريكية مع مفتي الجمهورية في ذلك الوقت، الشيخ‏‏ د. محمد سيد طنطاوي، حيث قاما بجولة في معظم الولايات الأمريكية لتوضيح وجهة النظر الفلسطينية لبروتستانت الولايات المتحدة.‏ وقد كان لهذه الزيارة التأثير الضخم لأنها جاءت من بروتستانتي مصري عربي، فكما يستطيع المصريون الأرثوذكس إقناع أرثوذكس الولايات المتحدة، هكذا، أيضا يمكن أن يكون هناك دور لبروتستانت مصر في هذا المجال‏.
(5) أن التفسير التآمري للتاريخ يدفعنا دفعا إلي المجهول، فعندما نقول أن السياسة الأمريكية يحركها الأصوليون الدينيون ، فإننا نتبنى بذلك نظرية صموئيل هنتنجتون حول صدام الحضارات، بل ونتعداها بقوة إذ نصور المستقبل في هذه الحالة وكأنه تصادم بين الأصوليات الدينية في الشرق والغرب‏.
وعلى الضفة المقابلة للمحيط، نجد الموقف الأميريكي لا يقل عن نظيره البريطاني مؤازرة ودعماً مطلقين لإرادة العنف اليهودية. وقد ثبت بالتجربة الطويلة استحالة تفسير الانحياز الأميريكي السافر بأي تبرير منطقي وأخلاقي يراعى المعايير الإنسانية القيمية التي طالما تغنت بها أدبيات الخطاب الأمريكى والثقافة الأميركية. ولكي ندرك حقيقة الأمر ينبغي إماطة اللثام عن قوة التأثير الحقيقية أو في جزء هام منها والكامنة خلف المشهد الأميريكي المنظور، والمتمثلة في جماعة الصهيونية المسيحية.
ولكن كما ذكر الكاتب الصحفى رضا هلال، فإن أخطر ما فى تصور اليمين المسيحي الأمريكي للصراع العربي - الإسرائيلى هو توظيفه للتاريخ التوراتى، أي محاولة تفصيل التاريخ على قياس ما يتصورون أنه إرادة الله . وقد كشفت الاستطلاعات أن قرابة 70 مليون أمريكي يشاهدون المحطات التليفزيونية الدينية و التى بلغ عددها 140 محطة، بالإضافة إلى 1006 قناة بنظام الكابل.
وكان الكاتب الإسلامي اللبناني محمد السماك قد ألقى عدة محاضرات حول الأصولية الإنجيلية، والبعد الديني للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وحول ما إذا كان الصراع الديني جزءا من النظام العالمي الجديد ؟ و خشي بعض الإنجيليين المشيخيين من الربط بين هذه الجماعات وكل الكنائس الإنجيلية فكتبوا موضحين ماهية ودور الكنيسة الإنجيلية المشيخية في العالم العربي. و من بين الذين سارعوا بالكتابة الأستاذ سليم أسبر الخورى ( ). كما كتب الأستاذ السماك في جريدة الأهرام القاهرية تحت عنوان الأصوليون، فذكر ما كتبته جريس هالسل عن الحركة الدينية الواسعة النفوذ فى الأوساط السياسية والإعلامية والمالية الأمريكية المعروفة باسم الكنيسة التدبيرية، والتى تؤمن بتأويلات معينة للتوراة تضع سيناريو لنهاية العالم يقوم على ضرورة عودة المسيح مرة أخرى، و أن لهذه العودة شروطا يجب توافرها. وجدير بالذكر أن هذه الحركة تدير عدة محطات إذاعية و تليفزيونية ( ).
ومن المعتقدات الرئيسية لتلك الجماعات:
- أن المسيح قادم ليحكم مدة ألف عام ؛
- تجمع كل يهودي العالم في فلسطين ؛
- بناء الهيكل الثالث ؛
- أن القدس هي العاصمة الأبدية لإسرائيل ؛
- على الحكومات أن تعترف بإسرائيل دبلوماسيا لتدعمها دوليا ؛
- السماح لليهود بالهجرة من جميع بلاد العالم، خاصة من الاتحاد السوفييتي السابق ،
- على جميع الدول نقل سفاراتها إلى القدس ؛
- على جميع الشعوب الصديقة أن تكف عن تسليح أعداء إسرائيل .
الاتجاه الثالث : الكنيسة الانجيلية ( المشيخية) ( )
يمكن ملاحظة تحليل مضمون المدرسة الدهرية بوضوح وقوة في الاتجاه المعتدل والعقلاني‏.‏ وهذا الاتجاه تمثله كل الكنائس الرئيسية في الولايات المتحدة الأمريكية التي يطلقون عليها‏ Main Churches، وهي الكنائس المشيخية واللوثرية والأسقفية وغيرها التي يضمها جميعا المجلس الوطني لكنائس المسيح‏,‏ الذي يصفه الأستاذ محمد السماك في كتابه حول الأصولية الإنجيلية ‏(1991)، بأنه أهم قاعدة للمعارضة الإنجيلية التي ترفض التفسير الحرفي، والصهيونية اللاهوتية في الكنيسة.‏
ويعمل هذا الاتجاه علي نشر وتوعية جماهيرية، كما يضم مجموعة من المفكرين واللاهوتيين المعروفين علي مستوي العالم‏,‏ الذين يتبنون مجموعة الأفكار التالية ويعملون على تطبيقها بكافة الوسائل المتاحة:

يتبع