حقيقة الدنيا

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال « أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ».
وأخرج الإمام أحمد والنسائي عن عبد الله بن عمر « أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي وقال أعبد الله كأنك تراه ، وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ».
وقال تعالى حاكيا عن المؤمن من آل فرعون ﴿يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَار﴾(ِ(39) غافر). ويقول جل وعلا ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾((185) آل عمران).

المتـــاع :
هو كل شيء ينتفع به ويتبلغ به أو يتلذذ به، ويأتي عليه الفناء في الدنيا ﴿وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾(3 هود)، يبقيكم فيه بقاء على عافية منه إلى وقت وفاتكم .
متع الله فلانا : أبقاه إلى أن ينتهي شبابه قول الحق سبحانه ﴿َفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ . ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ . مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾((207) الشعراء).
هذه هي الدنيا بأبسط صورها وبأقل كلمات ﴿ متاع الغرور ﴾، فهي متعة ننتفع بها ونتلذذ بها، ونطلبها بجد. ثم يأتي عليها الفناء كأنها لم تكن وتمسي رسما بعد عين .
ويقول الفز الرازي رحمه الله " واعلم أن فساد الدنيا من وجوه
أولهما : أنه لو حصل للإنسان جميع مراداته فيها لكان نحسه وهمه ازيد من سروره ... لأجل قصر وقته وقلة الوثوق به وعدم علمه بأنه هل ينتفع به أم لا .
ثانيهما : أن الإنسان كلما كان وجدانه بمفردات الدنيا أكثر كان حرصه في طلبها أكثر، وكلما كان الحرص أكثر كان تألم القلب بسبب ذلك الحرص أشد ، فإن الإنسان يتوهم أنه إذا فاز بمقصوده سكنت نفسه وليس كذلك بل يزداد طلبه وحرصه ورغبته .
ثالثهما : أن الإنسان بقدر ما يجد في الدنيا يبقى محروما عن الآخرة التي هي أعظم السعادات والخيرات".
فكان لا بد لنا من وقفة للتدبر والتفكر والتأمل، لنصل إلى النتيجة الصحيحة من إننا لم نوجد في هذا الكون للمتعة والاستمتاع، بل للعبادة وطلب نيل رضوان الله عز وجل. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم يقول « مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها ». فإذا أصبحت هذه الحقيقة مدركة إدراكا حسيا تَحدد السلوك تجاه الدنيا أصبحت مفهوما يحدد النظرة لها وكيفية التعامل معها .

إن الكافر يدرك أنه سيموت والمسلم أيضا والمؤمن وغير المؤمن، فلا اختلاف في واقع الحياة بأنه سوف يكون نهايتها موتا. ولكن الاختلاف في المفهوم من أنها مرحلة لها ما بعدها أو أنها منقطعة عما بعدها أو حتى بوجود ام عدم وجود ما بعدها.
إن مفهوم المسلمين عن الحياة مفهوم وواضح ويتعبد به في قول الله عز وجل ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾، فهذه الحياة لها بداية ونهاية وبين البداية والنهاية عبادة الله عز وجل فهمها الصحابة رضوان الله عليهم ومن اتبعهم بإحسان .

دخل رجل على أبي ذر رضي الله عنه، فجعل يقلب بصره في بيته فقال: يا أبا ذر أين متاعكم ..؟؟ فقال ابو ذر إن لنا بيتا نتوجه اليه ... فقال الرجل انه لا بد لك من متاع ما دمت هاهنا . فقال أبو ذر إن صاحب المنزل لا يدعنا هاهنا .

وقال داود الطائي: إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم فإن استطعت أن تقدم في كل مرحلة زاد لما بين يديها فافعل .
هذا ما فهمه داود وغيره من المسلمين من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم المروي في المستدرك عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل يعظه «اغتنم خمسا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك »، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ ».
كتب بعض السلف إلى أخ له : يا أخي يخيّل لك أنك مقيم ...!! بل انت دائم السير تساق مع ذلك سوقا حثيثا الموت متوجه اليك والدنيا تطوى من ورائك
سبيلك في الدنيا سبيل مسافر == ولا بـد من زاد لكل مسـافر
ولا بد للإنسان من حمل عدة == ولا سيما أن خاف صولة قاهر

فقوله صلى الله عليه وسلم « كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل »، حتى لا يتعلق القلب ببلد الغربة، ومنزل جده آدم، فالمؤمن دائم الحنين له لتعلق قلبه به. فقد وعد الله ووعده الحق، وعد آدم عليه السلام بالرجوع اليها وصالحي ذريته وكما قال الحسن رضي الله عنه وعن أبيه ( المؤمن كالغريب لا يجزع من ذلها ولا ينافس في عزها له شأن وللناس شأن ).

ليس هذا القول دعوة للتراخي أو للتواكل والكسل والقعود عن الطلب بل هو للتذكير بأن هذه الدنيا فانية، وأن الباقيات الصالحات هي خير من الدنيا وما فيها، فليست الدنيا هي المطلب، ونرجوا أن لا تكون كذلك، ونرجوا أن لا تكون الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا وأن تكون زيادة لنا في كل خير.
فلا نكون فيها آلات وأدوات لجمع المال وبلوغ المتع، بل أصحاب قضية وحاملي إسلام .

جاء الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى العرب وهم إذ ذاك أذل الناس وأقلهم وأسوأهم عيشا في الدنيا، فلما حملوا الحق ونعموا به فتح الله عليهم الدنيا، وهم الذين ما حلموا في يوم من الأيام أن يدوسوا بأرجلهم غوطة دمشق وسواد العراق ... ملكهم الله إياها وفتحها لهم .
ما كانوا يحلمون برؤية طنافس كسرى وكنوزه، ولا بعرش هرقل، فملكهم الله إياها. ولما جاءتهم إلى المدينة بكى عمر بن الخطاب ظانا أن هذه الغنائم هي بداية الاشتغال بالدنيا والاجتهاد بطلبها اجتهادا ينسيهم الهدف الأساسي لوجودهم وهو حمل الهدى والنور للعالم .

أخرج الامام احمد وابن ابي الدنيا عن الحسن رضي الله عنه وعن ابيه قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كقوم سلكوا مفازة غبراء حتى لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أو ما بقي . انفذوا الزاد وحسروا الظهر وبقوا بين ظهراني المفازة لا زاد ولا حمولة فأيقنوا بالهلكة فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل يقطر رأسه ماء فقالوا هذا قريب عهد بريف وما جاءكم إلا من قريب فلما انتهى إليهم قال علام أنتم قالوا على ما ترى قال أريتم أن هديتكم على ماء رواء ورياض خضر ما تعملون قالوا لا نعصيك شيئا قال أعطوني عهودكم ومواثيقكم بالله قال فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيا قال فأوردهم ماء ورياضا خضرا فمكث فيهم ما شاء الله ثم قال يا هؤلاء الرحيل قالوا إلى أين قال إلى ماء ليس كمائكم وإلى رياض ليست كرياضكم فقال جل القوم وهم أكثرهم والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده وما نصنع بعيش خير من هذا وقالت طائفة وهم أقلهم ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصونه شيئا وقد صدقكم في أول حديثه فوالله ليصدقنكم في آخرة قال فراح فيمن تبعه وتخلف بقيتهم فنزل بهم عدو فاصبحوا بين أسير وقتيل ».
عن المُسْتَورِدِ بنِ شَدّادٍ قَالَ: " كُنْتُ مَعَ الرّكْبِ الذِينَ وَقَفُوا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى السّخْلَةِ المَيّتَةِ، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أَتَرَوْنَ هَذِهِ هَانَتْ عَلَى أَهْلِهَا حِينَ أَلْقَوْهَا؟ قَالُوا مِنْ هَوَانِهَا أَلْقَوْهَا يَا رَسُولَ الله، قَالَ: فالدّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى الله مِنْ هَذِهِ عَلَى أَهْلِهَا." (رواه الترمذي)
من فقه الحديث:
قوله: (على السخلة) بفتح السين وسكون خاء معجمة: ولد معز أو ضأن (أترون هذه هانت على أهلها) قال في القاموس: هان هوناً بالضم وهواناً ومهانة ذل انتهى (قالوا من هوانها) أي من أجل هوانها (الدنيا أهون) أي أذل وأحقر (على الله) أي عنده تعالى (من هذه) أي من هوان هذه السخلة.
إنّ هذا الحديث يبصّر الناس بقيمة الدنيا ومكانتها، فهي حقيرة لا قيمة لها ولا وزن شبهها المصطفى عليه الصلاة والسلام بسخلة ميتة. وقد وردت نصوص كثيرة تحذر المسلم من الركون إلى الدنيا وإيثارها على الآخرة منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ.} فالدنيا لا قيمة لها إذا تذكر المرء الآخرة، عن سهلِ بنِ سَعْدٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كَانَتْ الدّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ». قوله: (تعدل) بفتح التاء وكسر الدال أي تزن وتساوي (عند الله جناح بعوضة) هو مثل للقلة والحقارة. والمعنى أنه لو كان لها أدنى قدر (ما سقى كافراً منها) أي من مياه الدنيا (شربة ماء) أي يمتع الكافر منها أدنى تمتع، فإن الكافر عدو الله والعدو لا يعطي شيئاً مما له قدر عند المعطي، فمن حقارتها عنده لا يعطيها لأوليائه كما أشار إليه حديث: إن الله يحمي عبده المؤمن عن الدنيا كما يحمي أحدكم المريض عن الماء.
إنّ المسلم العاقل الفطن لا يقع في حبائل الدنيا ولا يغترّ بها، عن عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدنيا دار من لا دار له ولها يجمع من لا عقل له." (أحمد)ومال من لا مال له " الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يعمل من لا عقل له" مصنف ابن أبي شيبة.
فعلى كلّ مسلم أن يقدم الآخرة على هذه الدنيا الحقيرة، وليعلم أنّ حبّ الدنيا مما ربّى الجبن فينا وصغّرنا في أعين أعدائنا، فلنتخلص منه، ولنبع الدنيا وتقبل على الآخرة، والآخرة خير وأبقى. عن ثوبان قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل: ومن قِلّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: "بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ (ما يحمله السيل من وسخ) كغثاء السيل، ولينزعنَّ اللّه من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ اللّه في قلوبكم الوهن" فقال قائل: يارسول اللّه، وما الوهن؟ قال: "حبُّ الدنيا وكراهية الموت". (أبو داود )

أبو السعد
منقول