المقصد السني في تفسير آية الكرسي
إن الصلة بين الآية الكريمة وبين ما قبلها وما بعدها صلة واضحة بارزة، وثيقة دقيقة، نزلت في سورة البقرة هذه السورة الكريمة التي اشتملت على كثير من الحكم البالغة والأحكام البليغة ففيها حديث عن القرآن ومواقف الناس المتباينة من هدايته، وفيها القصص والأمثال والأحكام الفقهية المتعددة وفيها عرض شامل للعقيدة الإسلامية، وبيان لجملة من الأخلاق الكريمة وفيها أيضا تحذير من إخوة القردة والخنازير وكشف لفضائحهم ومفاسدهم حتى نكون منهم على حذر ، وحتى يعتبر خلفاؤهم وحلفاؤهم .
وفي السورة الكريمة أيضا بيان لجملة من السنن الربانية في هذا الكون ومنها اصطفاؤه عز وجل لأنبيائه وأصفيائه وسنة النصر والتمكين لأهل الإيمان واليقين ، وسنة التدافع والتوازن في الكون قال تعالى { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ {249} وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {250} فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ {251} تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {252}
وفي هذا مايدل على سلطانه العظيم وتدبيره الحكيم وإرادته النافذة البالغة وفضله العظيم .
ومن فضله وإكرامه ورحمته وإنعامه : إرساله الرسل بالآيات البينات وتفضيل بعضهم على بعض بالمنح اللدنية والمواهب الربانية والنفحات السنية والدرجات العلية .
ومع ذلك فلقد كان للناس مواقف متباينة من الرسل الكرام فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، وتلك سنة من سنن الله الكونية والإنسانية : سنة الاختلاف، فسبحان من جلت حكمته وعلت مشيئته ونفذ مراده فلا يقع في ملكه إلا ما أراده :
مشيئة الخالق الباري وحكمته وقدرة الله فوق الشك والتهم
قال تعالى { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ {253} }
ثم يأتي النداء الإلهي إلى الطائفة المؤمنة يأتي بتوجيه جديد إلى المؤمنين أن يبادروا ويسارعوا بالإنفاق في شتى وجوه الخير قبل انقضاء الآجال وانطواء صحائف الأعمال والعرض على الكبير المتعال في يوم لا بيع فيه ولا خلال، ولا شفاعة ، فيا حسرة على من لا يقدم لنفسه الإيمان 0
ياحسرة على من ظلم نفسه فأوردها موارد الهلاك والخـسـران
يا حسرة على من آثر الكفر والعصيان على الإيمان وطاعة الـرحمن
يا حسرة على من أعرض عن الحق مع وضوح الحجة وجلاء البرهان
قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ {254} )
وبعد هذا البيان الإلهي تجيء آية الكرسي وفيها عرض لأصول العقيدة الإسلامية في كلمات وجيزة بليغة ورد فيها بيان لوحدانية الله ، وحياته الأبدية الأزلية الذاتية الكاملة ، وقيوميته وملكه لجميع المخلوقات ، فلا شريك له ولا شفيع عنده إلا بإذنه ، كما تحدثت الآية الكريمة عن إحاطة علمه وسعة ملكه وعظمة مخلوقاته التي تدل وتشهد على عظمة ذاته وصفاته وأفعاله ، ومع ذلك فإنه تعالى لا يثقل عليه شيئ وهو تعالى العلي العظيم في ذاته وصفاته وأفعاله .
قال تعالى اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ {255} .
بعد هذا البيان والبرهان القوي الجلي لأصول العقيدة الإسلامية فضلا عما سبقه من تفصيل وبيان للحكم والأحكام ، والقصص والأمثال ، يبين الله أنه لا إكراه في الدين لأن الدين الإسلامي لا يحتاج إلى إكراه قال { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ :265
فهو دين واضح المحجة قوي الحجة ثم تمضي الآيات الكريمة بعد ذلك في جولة جديدة مع الحجج الساطعة والبراهين القاطعة والأحكام الرشيدة والحكم السديدة التي تدل على صدق هذا الدين الذي جاء بالصلاح والفلاح للفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة 0
جملة مما ذكره المفسرون في مناسبة الآية :
اهتم بعض المفسرين في تفاسيرهم بإبراز المناسبة بين هذه الآية الكريمة وما قبلها وبينها وبين ما بعدها ، وفيما يلي ننقل جانبا مما ورد في كتبهم :
2- هذا الإمام النيسابوري يبين لنا السياق العام لآية الكرسي فيقول رحمه الله ( فد جرت عادته سبحانه و تعالى في كتابه الكريم أنه يخلط الأنواع الثلاثة : أعني علم التوحيد – و علم الأحكام – وعلم القصص -بعضها ببعض و الغرض من ذكر القصص إما تقرير دلائل التوحيد وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف وفي هذا النسق أيضا رحمة شاملة فإن طبع الإنسان جبل علي الملل فكلما انتقل من أسلوب إلي أسلوب انشرح صدره وتجدد نشاطه وتكامل ذوقه ولذته وصار أقرب إلى فهم معناه و العمـل بمقتضاه و إذ قد تقدم من علم الأحكام والقصص ما اقتضى المقام إيراده ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد فقال ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) .
وعن صلة آية الكرسي بما بعدها يقول النيسابوري رحمه الله ( لما بين دلائل التوحيد بيانا شافيا قاطعا للأعذار ذكر بعد ذلك أنه لم يبق للكافر علة في إقامته علي الكفر إلا أن يقسر علي الإيمان ويجبر عليه ، و ذلك لا يجوز في دار الدنيا التي هي مقام الابتلاء و الاختبار وينافيه الإكراه و الإجبار فالحق واضح أبلج ) .
وعن صلة آية الكرسي بما بعدها يقول البقاعي رحمه الله { ولما اتضحت الدلائل لكل عالم وجاهل صار الدين إلى حد لا يحتاج فيه منصف لنفسه إلى إكراه فيه فقال تعالى: ( لا إكراه في الدين ) }
4 - ويقول الإمام الألوسي في تفسيره روح المعاني ( ومناسبة الآية الكريمة لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر أن الكافرين هم الظالمون ؛ ناسب أن ينبههم جل شأنه إلى العقيدة الصحيحة التي هي محض التوحيد الذي درج عليه المرسلون علي اختلاف درجاتهم وتفاوت مراتبهم بما أينعت من ذلك رياضه ؛ وتدفقت حياضه و صدح عندليبه وصدع علي منابر البيان خطيبه فلله الحمد علي ما أوضح الحجة و أبان عن وجه المحجة ) (غرائب القرآن وغرائب الفرقان ) .
• ثم يقـول الإمام الألوسي موضحا الصلة بين آية الكرسي والآية التي تليها ( لا إكراه في الدين ) " جملة مستأنفة جىء بها إثر بيان دلائل التوحيد للإيذان بأنه لا يتصور الإكراه في الدين لأنه في الحقيقة إلزام الغير فعلا لا يري فيه خيرا يحمله عليه ؛ والدين خير كله " .
5 – و في تفسير المنار يقول الشيخ رشيد رضا موضحا صلة آية الكرسي بما قبلها ( بعد أن أمرنا تعالى بالإنفاق في سبيله قبل أن يأتي يوم لا مال فيه و لا كسب ؛ و لا ينجي من عقابه فيه شفاعة و لا فداء انتقل –كدأب القراّن - إلي تقرير أصول التوحيد و التــنزيه التي تشعر متدبرها بعظيم سلطانه تعالى ؛ ووجوب الشكر له و الإذعان لأمره ؛ و الوقوف عند حدوده و بذل المال في سبيله ؛ و تحول بينه وبين الغرور و الاتكال علي الشفاعات و المكفرات التي جرّأت الناس علي نبذ كتاب الله وراء ظهورهم فقال (الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) .
6- وفي التحرير و التنوير يقول الشيخ ابن عاشور ( لما ذكر هول يوم القيامة ، وذكر حال الكافرين ، استأنف بذكر تمجيد الله تعالى وذكر صفاته إبطالا لكفر الكافرين وقطعا لرجائهم ، لأن فيها (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ، وجعلت هذه الآية ابتداء لآيات تقرير الوحدانية والبعث ، وأودعت هذه الآية العظيمة هنا لأنها كالبرزخ بين الأغراض السابقة واللاحقة . )
كما يقول عن صلة آية الكرسي بالآية التي تليها :-
وتعقيب آية الكرسي بهذه الآية بمناسبة أن ما اشتملت عليه الآية السابقة من دلائل الوحدانية وعظمة الخالق وتنزيهه عن شوائب ما كفرت به الأمم ، من شأنه أن يسوق ذوي العقول إلى قبول هذا الدين الواضح العقيدة ، المستقيم الشريعة ، باختيارهم دون جبر ولا إكــراه ، ومن شأنه أن يجعل دوامهم على الشرك بمحل السؤال : أيتركون عليه أم يكرهون على الإسلام ، فكانت الجملة استئنافا بيانيا ) .
7 – ويقول صاحب الظلال مبينا صلة الآية الكريمة بما قبلها { وبمناسبة الاختلاف بعد الرسل والاقتتال والكفر بعد مجيء البينات والإيمان .. بهذه المناسبة تجيء آية تتضمن قواعد التصور الإيماني، وتذكر من صفات الله سبحانه ما يقرر معنى الوحدانية في أدق مجالاته وأوضح سماته وهي آية جليلة الشأن عظيمة الدلالة واسعة المجال }
ثم يقول صاحب الظلال موضحا صلة آية الكرسي بما بعدها { .. وعندما يصل السياق بهذه الآية إلى إيضاح قواعد التصور الإيماني في أدق جوانبها، وبيان صفة الله وعلاقة الخلق به هذا البيان المنير.. ينتقل الى إيضاح طريق المؤمنين وهم يحملون هذا التصور ويقومون بهذه الدعوة وينهضون بواجب القيادة للبشرية الضالة الضائعة 00}
المقال ( المقصد السني في تفسير آية الكرسي)
تأليف
أحمد بن محمد الشرقاوي
أستاذ التفسير المشارك بجامعة الأزهر
وكلية التربية بعنيزة