الإنصاف عند الإختلاف ( 1 )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الإنصاف عند الإختلاف ( 1 )
أحبتى فى الله
لا شك أن الخلاف أمر وارد .
ولا شك أنه ينبغى للعقلاء إذا اختلفوا أن ينظروا ويتفكروا حتى يهتدوا إلى أرشد أمورهم .
والخلاف كله شر كما أخبر بذلك المعصوم صلوات ربى وسلامه عليه وآله وصحبه وسلم فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وآلهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ : مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرْ الْكَثِيرَ وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ . [1]
والتفرق من الشيطان فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ أَنَّهُ سَمِعَ مُسْلِمَ بْنَ مِشْكَمٍ أَبَا عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ حَدَّثَنَا أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ قَالَ : كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا قَالَ عَمْرٌو كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مَنْزِلًا تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ : إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنْ الشَّيْطَانِ فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلًا إِلَّا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يُقَالَ لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ . [2]
قال صاحب كتاب ( الاختلاف في أصول الدين أسبابه وأحكامه )
والإختلاف نوعان :
النوع الأول: اختلاف تنوع: كاختلاف في صفة الأذان والإقامة والاستفتاح وصلاة الخوف وتكبيرات العيد ونحو ذلك وهذا النوع من الاختلاف يأتي على وجوه منها:
أن يكون القولان أو الفعلان مشروعين كالقراءات ومن ذلك ما تقدم من اختلاف الأنواع ، ومنها ما يكون الاختلاف القولي في اللفظ دون المعنى ، ومنها ما يكون كل واحد من الأقوال غير الآخر لكن لا تنافي بينهما وهما قولان صحيحان ، ومنها ما يكون في طريقين مشروعتين لكن كل واحد سلك واحدة منهما وهذا النوع من الاختلاف ليس مذموماً لكن إن اقترن به البغي والظلم مع الجهل صار مذموماً .
النوع الثاني: اختلاف تضاد: وهو أن يتنافى القولان من كل وجه وهو أن يكون في الأصول والفروع ، وهذا لا يكون إلا على قول جمهور العلماء من أن المصيب في الكل واحد وهو الراجح ، وأما من على قول من يقول كل مجتهد مصيب فهو عنده من قبيل اختلاف التنوع ، وهذا النوع من الاختلاف أي التضاد هو أكثر أنواع الاختلاف وأعظمها خطراً ، وذلك كالاختلاف في القدر والصفات والصحابة ونحو ذلك في باب الأصول والاختلاف بالتبديع وعدمه في باب الفروع ، هذا وقد جاءت السنة بإقرار اختلاف التنوع كما في إقراره صلى الله عليه وسلم للصحابة على اجتهادهم في فهم قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة )[3] فمنهم من أخرها أخذاً بهذا الحديث ومنهم من أخذ بأحاديث الوقت مخصصاً لهذا الحديث0
وجاءت السنة بذم اختلاف التضاد كما في حديث عبد الله بن رباح الأنصاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما هلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب )[4]
يتبع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح الترغيب والترهيب للألبانى -( حسن صحيح )
[2] صحيح وضعيف سنن أبي داود - تحقيق الألباني : صحيح
[3] صحيح البخاري -
فعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَابِ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ .
[4] صحيح مسلم -
فعن عَبْد اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ هَجَّرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا قَالَ فَسَمِعَ أَصْوَاتَ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ فَقَالَ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ
الإنصاف عند الإختلاف ( 2 )
جاء فى الموسوعة الفقهية الكويتية – { بتصرف يسير }
فَلَيْسَ كُل تَعَارُضٍ بَيْنَ قَوْلَيْنِ يُعْتَبَرُ اخْتِلاَفًا حَقِيقًا بَيْنَهُمَا ، فَإِنَّ الاِخْتِلاَفَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اخْتِلاَفًا فِي الْعِبَارَةِ ، أَوِ اخْتِلاَفَ تَنَوُّعٍ ، أَوِ اخْتِلاَفَ تَضَادٍّ . وَهَذَا الأَْخِيرُ هُوَ الاِخْتِلاَفُ الْحَقِيقِيُّ .
** أَمَّا الاِخْتِلاَفُ فِي الْعِبَارَةِ فَأَنْ يُعَبِّرَ كُلٌّ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ عَنِ الْمُرَادِ بِعِبَارَةٍ غَيْرِ عِبَارَةِ صَاحِبِهِ . مِثَال ذَلِكَ تَفْسِيرُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . قَال بَعْضُهُمْ : هُوَ الْقُرْآنُ ، وَقَال بَعْضُهُمْ : هُوَ الإِْسْلاَمُ . فَهَذَانِ الْقَوْلاَنِ مُتَّفِقَانِ ، لأَِنَّ دِينَ الإِْسْلاَمِ هُوَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ . وَكَذَلِكَ قَوْل مَنْ قَال : هُوَ السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ .
** وَأَمَّا اخْتِلاَفُ التَّنْوِيعِ ، فَأَنْ يَذْكُرَ كُلٌّ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنَ الاِسْمِ الْعَامِّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ عَلَى سَبِيل التَّمْثِيل وَتَنْبِيهِ الْمُسْتَمِعِ ، لاَ عَلَى سَبِيل الْحَدِّ الْمُطَابِقِ لِلْمَحْدُودِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ . مِثَال ذَلِكَ تَفْسِيرُ قَوْله تَعَالَى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } قَال بَعْضُهُمْ : السَّابِقُ الَّذِي يُصَلِّي أَوَّل الْوَقْتِ ، وَالْمُقْتَصِدُ فِي أَثْنَائِهِ ، وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ الَّذِي يُؤَخِّرُ الْعَصْرَ إِلَى الاِصْفِرَارِ . وَقِيل : السَّابِقُ الْمُحْسِنُ بِالصَّدَقَةِ ، وَالْمُقْتَصِدُ بِالْبَيْعِ ، وَالظَّالِمُ بِأَكْل الرِّبَا .
وَاخْتِلاَفُ التَّنَوُّعِ فِي الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ قَدْ يَكُونُ فِي الْوُجُوبِ تَارَةً وَفِي الاِسْتِحْبَابِ أُخْرَى :
فَالأَْوَّل مِثْل أَنْ يَجِبَ عَلَى قَوْمٍ الْجِهَادُ ، وَعَلَى قَوْمٍ الصَّدَقَةُ ، وَعَلَى قَوْمٍ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ . وَهَذَا يَقَعُ فِي فُرُوضِ الأَْعْيَانِ كَمَا مُثِّل . وَفِي فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ ، وَلَهَا تَنَوُّعٌ يَخُصُّهَا ، وَهُوَ أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهَا غَيْرُهُ : فَقَدْ تَتَعَيَّنُ فِي وَقْتٍ ، أَوْ مَكَانٍ ، وَعَلَى شَخْصٍ أَوْ طَائِفَةٍ كَمَا يَقَعُ مِثْل ذَلِكَ فِي الْوِلاَيَاتِ وَالْجِهَاتِ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ .
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَكَذَلِكَ كُل تَنَوُّعٍ فِي الْوَاجِبَاتِ يَقَعُ مِثْلُهُ فِي الْمُسْتَحَبَّاتِ .
** وَقَدْ نَظَرَ الشَّاطِبِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَحَصَرَ الْخِلاَفَ غَيْرَ الْحَقِيقِيِّ فِي عَشَرَةِ أَنْوَاعٍ .
مِنْهَا : مَا تَقَدَّمَ مِنَ الاِخْتِلاَفِ فِي الْعِبَارَةِ .
وَمِنْهَا : أَنْ لاَ يَتَوَارَدَ الْخِلاَفُ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ .
وَمِنْهَا : اخْتِلاَفُ أَقْوَال الإِْمَامِ الْوَاحِدِ ، بِنَاءً عَلَى تَغَيُّرِ الاِجْتِهَادِ ، وَالرُّجُوعِ عَمَّا أَفْتَى بِهِ أَوَّلاً .
وَمِنْهَا : أَنْ يَقَعَ الاِخْتِلاَفُ فِي الْعَمَل لاَ فِي الْحُكْمِ ، بِأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْعَمَلَيْنِ جَائِزًا ، كَاخْتِلاَفِ الْقُرَّاءِ فِي وُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقْرَءُوا بِمَا قَرَءُوا بِهِ عَلَى إِنْكَارِ غَيْرِهِ ، بَل عَلَى إِجَازَتِهِ وَالإِْقْرَارِ بِصِحَّتِهِ ، فَهَذَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِاخْتِلاَفٍ ، فَإِنَّ الْمَرْوِيَّاتِ عَلَى الصِّحَّةِ لاَ خِلاَفَ فِيهَا ، إِذِ الْكُل مُتَوَاتِرٌ .
وَهَذِهِ الأَْنْوَاعُ السَّابِقَةُ تَقَعُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ ، وَفِي اخْتِلاَفِهِمْ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ ، وَكَذَلِكَ فِي فَتَاوَى الأَْئِمَّةِ وَكَلاَمِهِمْ فِي مَسَائِل الْعِلْمِ . وَهِيَ أَنْوَاعٌ - وَإِنْ سُمِّيَتْ خِلاَفًا - إِلاَّ أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْوِفَاقِ .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلاِخْتِلاَفِ بِحَسَبِ أَنْوَاعِهِ :
أُمُورُ الدِّينِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ فِيهَا الْخِلاَفُ إِمَّا أُصُول الدِّينِ أَوْ فُرُوعُهُ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِمَّا أَنْ يَثْبُتَ بِالأَْدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ أَوْ لاَ . فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ :
النَّوْعُ الأَْوَّل : أُصُول الدِّينِ الَّتِي تَثْبُتُ بِالأَْدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ ، كَوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيَّتِهِ ، وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ أُمُورٌ لاَ مَجَال فِيهَا لِلاِخْتِلاَفِ ، مَنْ أَصَابَ الْحَقَّ فِيهَا فَهُوَ مُصِيبٌ ، وَمَنْ أَخْطَأَهُ فَهُوَ كَافِرٌ .
النَّوْعُ الثَّانِي : بَعْضُ مَسَائِل أُصُول الدِّينِ ، مِثْل مَسْأَلَةِ رُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الآْخِرَةِ ، وَخَلْقِ الْقُرْآنِ ، وَخُرُوجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ ، وَمَا يُشَابِهُ ذَلِكَ ، فَقِيل يَكْفُرُ الْمُخَالِفُ ، وَمِنَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ . فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى كُفْرَانِ النِّعَمِ .
وَشَرْطُ عَدَمِ التَّكْفِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُخَالِفُ مُصَدِّقًا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالتَّكْذِيبُ الْمُكَفِّرُ أَنْ يَنْفِيَ وُجُودَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُول وَيَزْعُمَ أَنَّ مَا قَالَهُ كَذِبٌ مَحْضٌ أَرَادَ بِهِ صَرْفَ النَّاسِ عَنْ شَيْءٍ يُرِيدُهُ ، كَذَا قَال الْغَزَالِيُّ .
النَّوْعُ الثَّالِثُ : الْفُرُوعُ الْمَعْلُومَةُ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَفَرْضِيَّةِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، وَحُرْمَةِ الزِّنَا ، فَهَذَا لَيْسَ مَوْضِعًا لِلْخِلاَفِ . وَمَنْ خَالَفَ فِيهِ فَقَدْ كَفَرَ .
النَّوْعُ الرَّابِعُ : الْفُرُوعُ الاِجْتِهَادِيَّةُ الَّتِي قَدْ تَخْفَى أَدِلَّتُهَا . فَهَذِهِ الْخِلاَفُ فِيهَا وَاقِعٌ فِي الأُْمَّةِ . وَيُعْذَرُ الْمُخَالِفُ فِيهَا ؛ لِخَفَاءِ الأَْدِلَّةِ أَوْ تَعَارُضِهَا ، أَوِ الاِخْتِلاَفِ فِي ثُبُوتِهَا . وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمُرَادُ فِي كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ إِذَا قَالُوا : فِي الْمَسْأَلَةِ خِلاَفٌ . وَهُوَ مَوْضُوعُ هَذَا الْبَحْثِ عَلَى أَنَّهُ الْخِلاَفُ الْمُعْتَدُّ بِهِ فِي الأُْمُورِ الْفِقْهِيَّةِ .
فَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ صَرِيحٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ فَخَالَفَهُ ، فَإِنَّهُ مَعْذُورٌ بَعْدَ بَذْل الْجَهْدِ ، وَيُعْذَرُ أَتْبَاعُهُ فِي تَرْكِ رَأْيِهِ أَخْذًا بِالدَّلِيل الصَّحِيحِ الَّذِي تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ .
فَهَذَا النَّوْعُ لاَ يَصِحُّ اعْتِمَادُهُ خِلاَفًا فِي الْمَسَائِل الشَّرْعِيَّةِ ، لأَِنَّهُ اجْتِهَادٌ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا ، وَإِنَّمَا يُعَدُّ فِي مَسَائِل الْخِلاَفِ الأَْقْوَال الصَّادِرَةُ عَنْ أَدِلَّةٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ .
أَدِلَّةُ جَوَازِ الاِخْتِلاَفِ فِي الْمَسَائِل الْفَرْعِيَّةِ :
أَوَّلاً : مَا وَقَعَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ : رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَال : قَال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الأَْحْزَابِ : لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ، فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ . فَقَال بَعْضُهُمْ : لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا . وَقَال بَعْضُهُمْ : بَل نُصَلِّي ، لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ .
ثَانِيًا : اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِل تَنَازَعُوا فِيهَا عَلَى إِقْرَارِ كُل فَرِيقٍ لِلْفَرِيقِ الآْخَرِ عَلَى الْعَمَل بِاجْتِهَادِهِمْ ، كَمَسَائِل فِي الْعِبَادَاتِ وَالنِّكَاحِ وَالْمَوَارِيثِ وَالْعَطَاءِ وَالسِّيَاسَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
الاِخْتِلاَفُ فِيمَا لاَ فَائِدَةَ فِيهِ :
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ : قَدْ يَقَعُ الاِخْتِلاَفُ فِي أَلْفَاظٍ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ مَا لاَ مُسْتَنَدَ لَهُ مِنَ النَّقْل عَنِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَوْ بِنَقْلٍ لاَ يُمْكِنُ تَمْيِيزُ الصَّحِيحِ مِنْهُ مِنَ الضَّعِيفِ ، وَدُونَ اسْتِدْلاَلٍ مُسْتَقِيمٍ . وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الاِخْتِلاَفِ لاَ فَائِدَةَ مِنَ الْبَحْثِ عَنْهُ ، وَالْكَلاَمُ فِيهِ مِنْ فُضُول الْكَلاَمِ . وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ فِيهِ دَلِيلاً .
فَمِثَال مَا لاَ فَائِدَةَ فِيهِ اخْتِلاَفُهُمْ فِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ ، وَفِي الْبَعْضِ الَّذِي ضَرَبَ بِهِ مُوسَى مِنَ الْبَقَرَةِ ، وَمِقْدَارِ سَفِينَةِ نُوحٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الأُْمُورُ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهَا النَّقْل . فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا مَنْقُولاً نَقْلاً صَحِيحًا ، كَاسْمِ صَاحِبِ مُوسَى أَنَّهُ الْخَضِرُ ، فَهَذَا مَعْلُومٌ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَل كَانَ مِمَّا يُنْقَل عَنْ أَهْل الْكِتَابِ كَكَعْبٍ وَوَهْبٍ ، فَهَذَا لاَ يَجُوزُ تَصْدِيقُهُ وَلاَ تَكْذِيبُهُ إِلاَّ بِحُجَّةٍ .
الاِخْتِلاَفُ الْجَائِزُ هَل هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْوِفَاقِ :
يَرَى الشَّاطِبِيُّ أَنَّ مَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْخِلاَفِ فِي ظَاهِرِ الأَْمْرِ يَرْجِعُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى الْوِفَاقِ . فَإِنَّ الاِخْتِلاَفَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل الْفِقْهِيَّةِ رَاجِعٌ إِمَّا إِلَى دَوَرَانِهَا بَيْنَ طَرَفَيْنِ وَاضِحَيْنِ يَتَعَارَضَانِ فِي أَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَإِمَّا إِلَى خَفَاءِ بَعْضِ الأَْدِلَّةِ ، أَوْ إِلَى عَدَمِ الاِطِّلاَعِ عَلَى الدَّلِيل .
وَهَذَا الثَّانِي لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلاَفًا ، إِذْ لَوْ فَرَضْنَا اطِّلاَعَ الْمُجْتَهِدِ عَلَى مَا خَفِيَ عَلَيْهِ لَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ ، فَلِذَا يُنْقَضُ لأَِجْلِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي .
أَمَّا الأَْوَّل فَإِنَّ تَرَدُّدَهُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ تَحَرٍّ لِقَصْدِ الشَّارِعِ الْمُبْهَمِ بَيْنَهُمَا مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَاتِّبَاعٌ لِلدَّلِيل الْمُرْشِدِ إِلَى تَعَرُّفِ قَصْدِهِ . وَقَدْ تَوَافَقُوا فِي هَذَيْنِ الْقَصْدَيْنِ تَوَافُقًا لَوْ ظَهَرَ مَعَهُ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِلاَفُ مَا رَآهُ لَرَجَعَ إِلَيْهِ ، وَلَوَافَقَ صَاحِبَهُ . وَسَوَاءٌ قُلْنَا بِالتَّخْطِئَةِ أَوْ بِالتَّصْوِيبِ ، إِذْ لاَ يَصِحُّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَل عَلَى قَوْل غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا أَيْضًا .
فَالإِْصَابَةُ عَلَى قَوْل الْمُصَوِّبَةِ إِضَافِيَّةٌ . فَرَجَعَ الْقَوْلاَنِ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ بِهَذَا الاِعْتِبَارِ . فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُتَّفِقُونَ لاَ مُخْتَلِفُونَ . وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ وَجْهُ التَّحَابِّ وَالتَّآلُفِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَسَائِل الاِجْتِهَادِ ؛ لأَِنَّهُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى طَلَبِ قَصْدِ الشَّارِعِ ، فَلَمْ يَصِيرُوا شِيَعًا ، وَلاَ تَفَرَّقُوا فِرَقًا .
الاِخْتِلاَفُ الْفِقْهِيُّ هَل هُوَ رَحْمَةٌ :
رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَال . لَيْسَ فِي اخْتِلاَفِ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعَةٌ ، وَإِنَّمَا الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ . وَقَال الْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ : ذَمَّ اللَّهُ الاِخْتِلاَفَ وَأَمَرَ بِالرُّجُوعِ عِنْدَهُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
الإنصاف عند الإختلاف ( 3)
الإنصاف عند الإختلاف ( 3)
جاء فى الموسوعة الفقهية الكويتية بتصرف
أَسْبَابُ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ :
الاِخْتِلاَفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَاشِئًا عَنْ هَوًى ، أَوْ عَنِ الاِجْتِهَادِ الْمَأْذُونِ فِيهِ .
فَأَمَّا مَا كَانَ نَاشِئًا عَنْ هَوًى فَهُوَ مَوْضِعُ الذَّمِّ ، إِذْ أَنَّ الْفَقِيهَ تَابِعٌ لِمَا تَدُل عَلَيْهِ الأَْدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فَإِنْ صَرَفَ الأَْدِلَّةَ إِلَى مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ فَقَدْ جَعَل الأَْدِلَّةَ تَابِعَةً لِهَوَاهُ .
وَذَكَرَ الشَّاطِبِيُّ أَنَّ الْخِلاَفَ النَّاشِئَ عَنِ الْهَوَى هُوَ الْخِلاَفُ حَقِيقَةً [1] . وَإِذَا دَخَل الْهَوَى أَدَّى إِلَى اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ حِرْصًا عَلَى الْغَلَبَةِ وَالظُّهُورِ بِإِقَامَةِ الْعُذْرِ فِي الْخِلاَفِ ، وَأَدَّى إِلَى الْفُرْقَةِ وَالْبَغْضَاءِ ، لاِخْتِلاَفِ الأَْهْوَاءِ وَعَدَمِ اتِّفَاقِهَا . فَأَقْوَال أَهْل الأَْهْوَاءِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا فِي الْخِلاَفِ الْمُقَرَّرِ فِي الشَّرْعِ وَإِنَّمَا يَذْكُرُهَا بَعْضُ النَّاسِ لِيَرُدُّوا عَلَيْهَا وَيُبَيِّنُوا فَسَادَهَا ، كَمَا فَعَلُوا بِأَقْوَال الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِيُوَضِّحُوا مَا فِيهَا[2] .
أَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ الاِخْتِلاَفُ النَّاشِئُ عَنْ الاِجْتِهَادِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَلَهُ أَسْبَابٌ مُخْتَلِفَةٌ ، يَتَعَرَّضُ لَهَا الأُْصُولِيُّونَ لِمَامًا . وَقَدْ أَفْرَدَهَا بِالتَّأْلِيفِ قَدِيمًا وَحَاوَل الْوُصُول إِلَى حَصْرٍ لَهَا ابْنُ السَّيِّدِ الْبَطْلَيُوسِيُّ فِي كِتَابِهِ " الإِْنْصَافِ فِي أَسْبَابِ الْخِلاَفِ " وَابْنُ رُشْدٍ فِي مُقَدِّمَةِ " بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ " وَابْنُ حَزْمٍ فِي " الإِْحْكَامِ " وَالدَّهْلَوِيُّ فِي " الإِْنْصَافِ " وَغَيْرُهُمْ . وَيَرْجِعُ الاِخْتِلاَفُ إِمَّا إِلَى الدَّلِيل نَفْسِهِ ، وَإِمَّا إِلَى الْقَوَاعِدِ الأُْصُولِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ .
أَسْبَابُ الْخِلاَفِ الرَّاجِعِ إِلَى الدَّلِيل :
مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ السَّيِّدِ مِنْ ذَلِكَ :
1 - الإِْجْمَال فِي الأَْلْفَاظِ وَاحْتِمَالُهَا لِلتَّأْوِيلاَتِ .
2 - دَوَرَانُ الدَّلِيل بَيْنَ الاِسْتِقْلاَل بِالْحُكْمِ وَعَدَمِهِ .
3 - دَوَرَانُهُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ، نَحْوُ { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } اخْتُلِفَ فِيهِ هَل هُوَ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ بِأَهْل الْكِتَابِ الَّذِينَ قَبِلُوا الْجِزْيَةَ .
4 - اخْتِلاَفُ الْقِرَاءَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَاخْتِلاَفُ الرِّوَايَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ .
5 - دَعْوَى النَّسْخِ وَعَدَمِهِ [3] .
6 - عَدَمُ اطِّلاَعِ الْفَقِيهِ عَلَى الْحَدِيثِ الْوَارِدِ أَوْ نِسْيَانِهِ لَهُ .
أَسْبَابُ الْخِلاَفِ الرَّاجِعِ إِلَى الْقَوَاعِدِ الأُْصُولِيَّةِ :
مِنَ الْعُسْرِ بِمَكَانٍ حَصْرُ الأَْسْبَابِ الَّتِي مِنْ هَذَا النَّوْعِ ، فَكُل قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ مُخْتَلَفٌ فِيهَا يَنْشَأُ عَنْهَا
اخْتِلاَفٌ فِي الْفُرُوعِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهَا .
الإِْنْكَارُ وَالْمُرَاعَاةُ فِي الْمَسَائِل الْخِلاَفِيَّةِ :
أَوَّلاً : الإِْنْكَارُ فِي الْمَسَائِل الْخِلاَفِيَّةِ :
ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ قَاعِدَةَ : " لاَ يُنْكَرُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ وَلَكِنْ يُنْكَرُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ " . وَقَال إِنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْهَا صُوَرٌ يُنْكَرُ فِيهَا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ :
إِحْدَاهَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَذْهَبُ بَعِيدَ الْمَأْخَذِ . وَمِنْ ثَمَّ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِوَطْءِ الأَْمَةِ الْمَرْهُونَةِ وَلَمْ يُنْظَرْ لِلْخِلاَفِ الشَّاذِّ فِي ذَلِكَ .
الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَرَافَعَ فِيهِ لِحَاكِمٍ ، فَيَحْكُمَ بِعَقِيدَتِهِ . إِذْ لاَ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِخِلاَفِ مُعْتَقَدِهِ .
الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ لِلْمُنْكِرِ فِيهِ حَقٌّ ، كَالزَّوْجِ الْمُسْلِمِ يَمْنَعُ زَوْجَتَهُ الذِّمِّيَّةَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ بِالرَّغْمِ مِنْ وُجُودِ خِلاَفٍ فِي حَقِّهِ بِمَنْعِهَا وَعَدَمِهِ [4] .
وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي الأُْمُورِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ الْحِل وَالتَّحْرِيمِ أَنَّ مُخَالِفَهُ قَدِ ارْتَكَبَ ( الْحَرَامَ ) فِي نَحْوِ ( لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّل وَالْمُحَلَّل لَهُ ) وَلَكِنْ لاَ يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ وَاللَّعْنُ إِنْ كَانَ قَدِ اجْتَهَدَ الاِجْتِهَادَ الْمَأْذُونَ فِيهِ . بَل هُوَ مَعْذُورٌ مُثَابٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ .
وَكَذَلِكَ مَنْ قَلَّدَهُ التَّقْلِيدَ السَّائِغَ . [5]
ثَانِيًا : مُرَاعَاةُ الْخِلاَفِ :
يُرَادُ بِمُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ أَنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ جَوَازَ الشَّيْءِ يَتْرُكُ فِعْلَهُ إِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا . كَذَلِكَ فِي جَانِبِ الْوُجُوبِ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَأَى إِبَاحَةَ الشَّيْءِ أَنْ يَفْعَلَهُ إِنْ كَانَ مِنَ الأَْئِمَّةِ مَنْ يَرَى وُجُوبَهُ . كَمَنْ يَعْتَقِدُ عَدَمَ وُجُوبِ الْوِتْرِ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى عَدَمِ تَرْكِهِ ، خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ . وَلاَ يَتَأَتَّى مِمَّنِ اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ مُرَاعَاةُ قَوْل مَنْ يَرَى التَّحْرِيمَ ، وَلاَ مِمَّنِ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ مُرَاعَاةُ قَوْل مَنْ يَرَى الْوُجُوبَ .
حُكْمُ مُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ :
ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْخِلاَفِ مُسْتَحَبٌّ .
شُرُوطُ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلاَفِ :
قَال السُّيُوطِيُّ : لِمُرَاعَاةِ الْخِلاَفِ شُرُوطٌ :
أَحَدُهَا : أَنْ لاَ تُوقِعَ مُرَاعَاتُهُ فِي خِلاَفٍ آخَرَ .
الثَّانِي : أَنْ لاَ يُخَالِفَ سُنَّةً ثَابِتَةً وَمِنْ ثَمَّ سُنَّ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلاَةِ . وَلَمْ يُبَال بِقَوْل مَنْ قَال بِإِبْطَالِهِ الصَّلاَةَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ؛ لأَِنَّهُ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ خَمْسِينَ صَحَابِيًّا .
الثَّالِثُ : أَنْ يَقْوَى مُدْرَكُهُ - أَيْ دَلِيلُهُ - بِحَيْثُ لاَ يُعَدُّ هَفْوَةً . وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ أَفْضَل لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُبَال بِقَوْل دَاوُدَ : إِنَّهُ لاَ يَصِحُّ . [6]
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ فِي هَذَا الشَّرْطِ الثَّالِثِ : أَنْ يَقْوَى مُدْرَكُهُ بِأَنْ يَقِفَ الذِّهْنُ عِنْدَهُ ، لاَ بِأَنْ تَنْهَضَ حُجَّتُهُ .
أَمْثِلَةٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْخِلاَفِ :
جَمَعَ السُّيُوطِيُّ لِذَلِكَ أَمْثِلَةً مِنْ فِقْهِ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهَا :
1 - أَمْثِلَةٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ مَنْ يَقُول بِالْوُجُوبِ : اسْتِحْبَابُ الدَّلْكِ فِي الطَّهَارَةِ ، وَاسْتِيعَابُ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ ، وَالتَّرْتِيبُ فِي قَضَاءِ الْفَوَائِتِ ، وَتَرْكُ الأَْدَاءِ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْقَضَاءَ ، وَتَرْكُ الْقَصْرِ فِيمَا دُونَ ثَلاَثِ مَرَاحِل ، وَتَرْكُ الْجَمْعِ ، وَقَطْعُ الْمُتَيَمِّمِ الصَّلاَةَ إِذَا رَأَى الْمَاءَ .
2 - أَمْثِلَةٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ مَنْ يَقُول بِالتَّحْرِيمِ : كَرَاهَةُ الْحِيَل فِي بَابِ الرِّبَا ، وَكَرَاهَةُ نِكَاحِ الْمُحَلِّل ، وَكَرَاهَةُ مُفَارَقَةِ الإِْمَامِ بِلاَ عُذْرٍ ، وَكَرَاهَةُ صَلاَةِ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ . [7]
وَذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَمْثِلَةً مِنْهَا : نَدْبُ الْوُضُوءِ لِلْخُرُوجِ مِنْ خِلاَفِ الْعُلَمَاءِ ، كَمَا فِي مَسِّ الذَّكَرِ أَوِ الْمَرْأَةِ . [8]
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ : اسْتِحْبَابَ السُّجُودِ عَلَى الأَْنْفِ خُرُوجًا مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهُ .[9]
وَذَكَرَ الشَّيْخُ عُلَيْشٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ : أَنَّهُ لاَ تُكْرَهُ الْبَسْمَلَةُ فِي الْفَرْضِ إِذَا قَصَدَ بِهَا الْخُرُوجَ مِنْ خِلاَفِ مَنْ أَوْجَبَهَا .
[1] يعني أنه لا يرجع الوفاق كالخلاف الناشئ من نظر المجتهدين من أهل الحق في الأدلة ، إذ أنهم يلتزمون بمقتضى الدليل كما تقدم .
[2] الموافقات
[3] الموافقات
[4] الأشباه والنظائر ط التجارية
[5] رفع الملام، ومجموع الفتاوى .
[6] الأشباه والنظائر للسيوطي ط الحلبي
[7] حاشية ابن عابدين ، وتحفة المحتاج لابن حجر بحاشية الشرواني ، والأشباه والنظائر ط المكتبة التجارية .
[8] حاشية ابن عابدين
[9] المغني