الإسرائيليات في كتب التفسير
الإسرائيليات في كتب التفسير
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}فصلت:41-42
وقد صادف هذا البحث المفيد هوىً في نفسي ؛
لأني أعلم شدة حاجة المسلمين إلى مثل هذا البحث المبسط الذي يذب عن كتاب الله تعالى ما علق بتفسيره من الأباطيل والخرافات والأكاذيب التي كادت تطغى على التفسير الصحيح لكتاب الله تعالى وتخفى الكثير من جلاله ، وجماله ، وهدايته التي هي أقوم الهدايات : {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}(الإسراء :9) ، وعقائده التي هي أسمى العقائد وأحقها بالقبول ، وأليقها بالفطر البشرية ، وأقربها إلى العقول ، وأمسها القلوب ، وتظهر الإسلام أمام الباحثين ، ولا سيما في العصر الأخير : عصر تقدم العلوم الكونية ، والمعارف البشرية ، بمظهر الدين الذي يشتمل على الخرافات والترهات ؛ لأن كتابه الأكبر هو : القرآن الكريم ، وهذه هي : تفاسيره ، فيها كثير مما يخالف حقائق العلم ، وسنن الله الكونية!! ومؤلفوها هم من علماء الإسلام ، بل ومن كبارهم ، فهي صورة للإسلام ، ولتفكير المسلمين ، وذلك مثل : ما روي في بدء الخليقة ، وأسرار الوجود ، وتعليل بعض الظواهر الكونية ، مثل : الرعد ، والبرق ، والخسوف ، والكسوف ، وبرودة مياه الآبار في الصيف ، وحرارتها في الشتاء ،
وقد حمل كبر هذا الإثم [القساوسة] والمستشرقون ، فقد وجدوا في هذه الإسرائيليات والمختلقات ما يشبع هواهم ، ويرضي تعصبهم الممقوت ، ويشفي نفوسهم المريضة الحاقدة على الإسلام ونبيه ، والقرآن ؛ هذا الحقد والضغن الذي يعتبر امتدادا للحروب الصليبية التي شنوها على الإسلام والمسلمين ، والتي لا تزال إلى عصرنا هذا تتخذ أشكالا شتَّى ، ومظاهر متعددة.
والعجب من هؤلاء المبشرين ، والمستشرقين : أنهم في سبيل إرضاء صليبيتهم الموروثة ، والتي رضعوها في لبان أمهاتهم ، يصححون الموضوع والمختلق المنحول ، على حين نراهم يحكمون بوضع كثير من الأحاديث الصحيحة ، حتى ولو كانت في الصحيحين اللذين هما أصح الكتب البشرية على الإطلاق وذلك مثل : ما روي زورا وكذبا في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة زينب بنت جحش ، وما روي في : قصة الغرانيق ، مما هو من صنع زنادقة اليهود والفرس ، وأضرابهم ، ونحو ذلك مما طبل له المستشرقون والمبشرون ، وزمروا ، وزادوا فيه ، وأعادوا.
ومما يؤسف له غاية الأسف أن بعض المتعلمنين والمثقفين الذين تثقفوا بثقافة غير إسلامية ، ولا سيما من صنعتهم أوروبا على عينيها ، وربتهم على يديها ، ويتسمون بأسماء المسلمين ، قد تابعوا سادتهم المستشرقين فيما زعموا وصاروا أبواقا لهم ، يرددون ما يقوله هؤلاء ؛ لأنهم ينظرون إليهم على أنهم قمم في العلم والمعرفة ، والشأن في المغلوب كما قال واضع أساس علم الاجتماع : العلامة ابن خلدون أن يقلد الغالب وتنماع شخصيته في شخصيته ، وبذلك ساعدوا على نفث هذه السموم بين المتعلمين من شباب المسلمين!!
نبين معنى كلمة : "إسرائيليات,:
جمع إسرائيلية ، نسبة إلى بني إسرائيل, وإسرئيل هو : يعقوب عليه السلام أي عبد الله وبنو إسرائيل هم : أبناء يعقوب ، ومن تناسلوا منهم فيما بعد ، إلى عهد موسى ومن جاء بعده من الأنبياء ، حتى عهد عيسى عليه السلام وحتى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد أكثر الله من خطابهم ببني إسرائيل في القرآن الكريم تذكيرا لهم بأبوة هذا النبي الصالح ، حتى يتأسوا به ، ويتخلقوا بأخلاقه ، ويتركوا ما كانوا عليه من نكران نعم الله عليهم وعلى آبائهم وما كانوا يتصفون به من الجحود ، والغدر ، واللؤم ، والخيانة وكذلك ذكرهم الله سبحانه باسم اليهود في غير ما آية ، وأشهر كتب اليهود هي : التوراة ، وقد ذكرها الله في قوله تعالى : {الم ، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ ، مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَان}(آل عمران1-4),والمراد بها التوراة التي نزلت من عند الله قبل التحريف والتبديل ، أما التوراة المحرفة المبدلة ، فهي بمعزل عن كونها كلها هداية ، وكونها نورا ، ولا سيما بعد نزول القرآن الكريم ، الذي هو الشاهد والمهيمن على الكتب السماوية السابقة ، فما وافقه فهو حق ، وما خالفه فهو باطل..ومن كتبهم أيضا : الزبور وهو كتاب داود عليه السلام ، وأسفار الأنبياء ، الذين جاءوا بعد موسى عليه وعليهم السلام ، وتسمى التوراة وما اشتملت عليه من الأسفار الموسوية وغيرها "بالعهد القديم".وكان لليهود بجانب التوراة المكتوبة التلمود ، وهي التوراة الشفهية ، وهو مجموعة قواعد ووصايا وشرائع دينية وأدبية ، ومدنية وشروح ، وتفاسير ، وتعاليم ، وروايات كانت تتناقل وتدرس شفهيا من حين إلى آخر... وقد اتسع نطاق الدرس والتعليم فيه إلى درجة عظيمة جدا ، حتى صار من الصعب حفظه في الذاكرة ، ولأجل دوام المطالعة ، والمداولة ، وحفظا للأقوال والنصوص ، والآراء الأصلية المتعددة والترتيبات ، والعادات الحديثة ، وخوفا من نسيانها وفقدانها مع مرور الزمن ، وخصوصا وقت الاضطهادات ، والاضطرابات ، قد دونها الحاخامون بالكتابة سياجا للتوراة ، وقُبِلَت كسنة من سيدنا موسى عليه السلام.
ومن التوراة وشروحها ، والأسفار وما اشتملت عليه ، والتلمود وشروحة ، والأساطير والخرافات ، والأباطيل التي افتروها ، أو تناقلوها عن غيرهم : كانت معارف اليهود وثقافتهم ، وهذه كلها كانت المنابع الأصلية للإسرائيليات التي زخرت بها بعض كتب التفسير ، والتاريخ والقصص والمواعظ ، وهذه المنابع إن كان فيها حق ، ففيها باطل كثير ، وإن كان فيها صدق ، ففيها كذب صراح ، وإن كان فيها سمين ، ففيها غث كثير ، فمن ثم انجر ذلك إلى الإسرائيليات ، وقد يتوسع بعض الباحثين في الإسرائيليات ، فيجعلها شاملة لما كان من معارف اليهود ، وما كان من معارف النصارى التي تدور حول الأناجيل وشروحها ، والرسل وسيرهم ونحو ذلك ؛ وإنما سميت إسرائيليات لأن الغالب والكثير منها إنما هو من ثقافة بني إسرائيل ، أو من كتبهم ومعارفهم ، أو من أساطيرهم وأباطيلهم.
الإسرائيليات في قصة هاروت وماروت :
الإسرائيليات في قصة هاروت وماروت :
روى السيوطي في الدر المنثور ، في تفسير قوله تعالى : {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوت} روايات كثيرة وقصصا عجيبة رويت عن ابن عمر ، وابن مسعود ،وعلي ، وابن عباس ، ومجاهد ، وكعب ، والربيع ، والسدي ، رواها ابن جرير الطبري في تفسيره ، وابن مردويه ، والحاكم ، وابن المنذر ، وابن أبي الدنيا ، والبيهقي ، والخطيب في تفاسيرهم وكتبهم(الدر المنثور ج 1 من ص2 97-103 ، تفسير ابن جرير ج1 ص 362-367.)
وخلاصتها : أنه لما وقع الناس من بني آدم فيما وقعوا فيها من المعاصي والكفر بالله ، قالت الملائكة في السماء : أي رب ، هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك ، وطاعتك ، وقد ركبوا الكفر ، وقتل النفس الحرام ، وأكل المال الحرام ، والسرقة ، والزنا ، وشرب الخمر ، فجعلوا يدعون عليهم ، ولا يعذرونهم فقيل لهم : إنهم في غيب ، فلم يعذروهم ، وفي بعض الروايات أن الله قال لهم : لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم ، قالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا ، وفي رواية أخرى : قالوا : لا. فقيل لهم : اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري ، وأنهاهما عن معصيتي ، فاختاروا هاروت ، وماروت ، فأهبطا إلى الأرض ، وركبت فيهما الشهوة ، وأمرا أن يعبدا الله ، ولا يشركا به شيئا ، ونهيا عن قتل النفس الحرام ، وأكل المال الحرام ، والسرقة ، والزنا ، وشرب الخمر ، فلبثا على ذلك في الأرض زمانا ، يحكمان بن الناس بالحق ، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكواكب ، وأنهما أراداها(راودها عن نفسها.) على نفسها ، فأبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها ، وأنهما سألاها عن دينها ، فأخرجت لهما صنما ، فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا ، فذهبا فصبرا ما شاء الله ، ثم أتيا عليها ، فخضعا لها بالقول ، وأراداها على نفسها ، فأبت إلا أن يكونا على دينها ، وأن يعبدا الصنم الذي تعبده ، فأبيا ، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم ، قالت لهما : اختارا إحدى الخلال الثلاث : إما أن تعبدا هذا الصنم ، أو تقتلا النفس ، أو تشربا هذا الخمر ، فقالا : هذا لا ينبغي ، وأهون الثلاثة شرب الخمر ، وسقتهما الخمر ، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها( أي فعلا بها الفاحشة)فمر بهما إنسان ، وهما في ذلك ، فخشيا أن يفشي عليهما ، فقتلاه ، فلما أن ذهب عنهما السكر ، عرفا ما قد وقعا فيه من الخطيئة ، وأرادا أن يصعدا إلى السماء ، فلم يستطيعا وكشف الغطاء فيما بينهما ، وبين أهل السماء ، فنظرت الملائكة إلى ما قد وقعا فيه من الذنوب ، وعرفوا أنه من كان في غيب فهو أقل خشية فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض ، فلما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة ، قيل لهما : اختارا عذاب الدنيا ، أو عذاب الآخرة ، فقالا : أما عذاب الدنيا فينقطع ويذهب ، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له ، فاختارا عذاب الدنيا فجعلا ببابل فهما بها يعذبان معلقين بأرجلهما ، وفي بعض الروايات ، أنهما علماها الكلمة التي يصعدان بها إلى السماء ، فصعدت ، فمسخها الله ، فهي هذا الكوكب المعروف بالزهرة.
ويذكر السيوطي أيضًا في كتابه ما رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه( تصحيح الحاكم غير معتدٍّ به ؛ لأنه معروف أنه متساهل في الحكم بالتصحيح كما قال ابن الصلاح وغيره ، وقد صحح أحاديث تعقبها الإمام الذهبي وحكم عليها بالوضع.)
، والبيهقي في سننه : عن عائشة ، أنها قدمت عليها امرأة من دومة الجندل ، وأنها أخبرتها أنها جيء لها بكلبين أسودين فركبت كلبا ، وركبت امرأة أخرى الكلب الآخر ، ولم يمض غير قليل ، حتى وقفتا ببابل ، فإذا هما برجلين معلقين بأرجلهما ، وهما هاروت وماروت ، واسترسلت المرأة التي قدمت على عائشة في ذكر قصة عجيبة غريبة.
ويذكر أيضا : أن ابن المنذر أخرج من طريق الأوزاعي ، عن هارون بن رباب ، قال : دخلت على عبد الملك بن مروان وعنده رجل قد ثنيت له وسادة ، وهو متكئ عليها ، فقالوا : هذا قد لقي هاروت ، وماروت فقالوا له : حدثنا رحمك الله : فأنشأ الرجل يحدث بقصة عجيبة غريبة(الدر المنثور ص 101 تفسير الطبري ج1 ص 366.)
وكل هذا من خرفات بني إسرائيل ، وأكاذيبهم التي لا يشهد لها عقل ، ولا نقل ، ولا شرع ، ولم يقف بعض رواة هذا القصص الباطل عند روايته عن بعض الصحابة والتابعين ولكنهم أوغلوا باب الإثم ، والتجني الفاضح ، فألصقوا هذا الزور إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورفعوه إليه ، فقد قال السيوطي : أخرج سعيد ، وابن جرير ، والخطيب في تاريخ ، عن نافع ، قال : سافرت مع ابن عمر ، فلما كان من آخر الليل :قال : يا نافع : انظر : هل طلعت الحمراء ؟ قلت : لا ، مرتين أو ثلاثا ، ثم قلت : قد طعلت ، قال : لا مرحبا بها ، ولا أهلا : قلت : سبحان الله!! نجم مسخر ، ساع ، مطيع!! قال : ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "وإن الملائكة قالت : يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب ؟ قال : إني ابتليتهم وعافيتكم ، قالوا : لو كنا مكانهم ما عصيناك ، قال : فاختاروا ملكين منكم ، فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت وماروت ، فنزلا ، فألقى الله عليهم الشبق ، قلت : وما الشبق ؟ قال : الشهوة ، فجاءت امرأة يقال لها : الزهرة فوقعت في قلبيهما ، فجعل كل واحد منهما يخفي عن صاحبه ما في نفسه ، ثم قال أحدهما للآخر : هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي ؟ قال : نعم ، فطلباها لأنفسهما ، فقالت : لا أمكنكما حتى تعلماني الاسم الذي تعرجان به إلى السماء ، وتهبطان ، فأبيا ، ثم سألاها أيضا ، فأبتن ففعلا ، فلما استطيرت طمسها الله كوكبا ، وقطع أجنحتها ، ثم سألا التوبة من ربهما ، فخيرهما بين عذاب الدنيا ، وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة ، فأوحى الله إليهما : أن ائتيا "بابل" فانطلقا إلى بابل ، فخسف بهما ، فهما منكوسان بين السماء والأرض ، معذبان إلى يوم القيامة ، ثم ذكر أيضا رواية أخرى ، مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تخرج في معناها عما ذكرنا(الدر المنثور ج1 ص 97 تفسير الطبري ج 1 ص 364 )، ولا ينبغي أن يشك مسلم عاقل فضلا عن طالب حديث في أن هذا موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم مهما بلغت أسانيده من الثبوت فما بالك إذا كانت أسانيدها واهية ، ساقطة ، ولا تخلو من وضاع ، أو ضعيف ، أو مجهول ؟!! ونص على وضعه أئمة الحديث!!
وقد حكم بوضع هذه القصة الإمام أبو الفرج ابن الجوزي(اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ج1 ص 82.) ، ونص الشهاب العراقي على أن من اعتقد في هاروت وماروت أنهما ملكان يعذبان على خطيئتهما : فهو كافر بالله.
وكذلك : حكم بوضع المرفوع من هذه القصة : الحافظ : عماد الدين ابن كثير ، وأما ما ليس مرفوعا : فبين أن منشأة روايات إسرائيلية عن كعب وغيره ، ألصقها زنادقة أهل الكتاب بالإسلام ، قال رحمه الله في تفسيره بعد أن تكلم على الأحاديث الواردة في هاروت وماروت ، وأن روايات الرفع غريبة جدا ، وأقرب ما يكون في ذلك أنه من رواية عبد الله بن عمر ، عن كعب الأحبار ، كما قال عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم بن عبد الله بن ابن عمر ، عن كعب ، ورفع مثل هذه الإسرائيليات إلى النبي كذب واختلاق ألصقه زنادقة أهل الكتاب ، زورا وبهتانا" وذكر مثل ذلك في البداية والنهاية.
ثم هذه من ناحية العقل غير مسلمة ، فالملائكة معصومون عن مثل هذه الكبائر ، التي لا تصدر من عربيد ، وقد أخبر الله عنهم بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، كما ورد في بعض الروايات التي أشرت إليها آنفا رد لكلام الله ، وفي رواية أخرى : أن الله قال لهما : لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني ، فقالا : لو فعلت بنا يا رب ما عصيناك!! ورد كلام الله كفر ، ننزه عنه من له علم بالله وصفاته ، فضلًا عن الملائكة.
ثم كيف ترفع الفاجرة إلى السماء ، وتصير كوكبا مضيئا ، وما النجم الذي يزعمون أنه : "الزهرة" وزعموا أنه كان امرأة ، فمسخت إلا في مكانه ، من يوم أن خلق الله السموات والأرض.
وهذه الخرافات التي لا يشهد لها نقل صحيح ، ولا عقل سليم هي كذلك مخالفة لما صار عند العلماء المحدثين أمرا يقينا ، ولا أدرى ماذا يكون موقفنا أمام علماء الفلك ، والكونيات ، إذا نحن لم نزيف هذه الخرافات ، وسكتنا عنها ، أو انتصرنا لها ؟!!
ما التفسير الصحيح للآية ؟
قوله تعالى : {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}البقرة : 102.
وليس في الآية ما يدل ولو من بعد على هذه القصة المنكرة ، وليس السبب في نزول الآية ذلك ، وإنما السبب : أن الشياطين في ذلك الزمن السحيق كانوا يسترقون السمع من السماء ، ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ، ويُلْقُونها إلى كهنة اليهود وأحبارهم. وقد دوَّنها هؤلاء في كتب يقرؤونها ، ويعلمونها الناس ، وفشا ذلك في زمن سليمان عليه السلام حتى قالوا : هذا علم سليمان وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم ، وبه يسخر الإنس ، والجن ، والريح التي تجري بأمره ، وهذا من افتراءات اليهود على الأنبياء ، فأكذبهم الله بقوله : {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ},,,ثم عطف عليه : {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} فالمراد بما أنزل هو : علم السحر الذي نزلا ليعلماه الناس ، حتى يحذروا منه ، فالسبب في نزولهما هو : تعليم الناس أبوابا من السحر ، حتى يعلم الناس الفرق بين السحر والنبوة ، وأن سليمان لم يكن ساحرا ، وإنما كان نبيا مرسلا من ربه ، وقد احتاط الملكان عليهما السلام غاية الاحتياط ، فما كانا يُعلِّمان أحدا شيئا من السحر حتى يُحذِّراه ، ويقولا له : إنما نحن فتنة أي بلاء واختبار ، فلا تكفر بتعلمه والعمل به ، وأما من تعلمه للحذر منه ، وليعلم الفرق بينه وبين النبوة والمعجزة ؛ فهذا لا شيء فيه ، بل هو أمر مطلوب ، مرغوب فيه إذا دعت الضرورة إليه ، ولكن الناس ما كانوا يأخذون بالنصيحة ، بل كانوا يفرقون به بين المرء وزوجه ، وذلك بإذن الله ومشيئته ، وقد دلت الآية : على أن تعلم السحر لتحذير الناس من الوقوع فيه والعمل به مباح ، ولا إثم فيه ، وأيضا تعلمه ؛ لإزالة الاشتباه بينه ، وبين المعجزة ، والنبوة مباح ، ولا إثم فيه ، وإنما الحرم والإثم في تعلمه أو تعليمه للعمل به ، فهو مثل ما قيل :
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقِّيهِ
ومن لا يعرف الشر من الناس يقعْ فِيهِ
واليهود عليهم لعائن الله لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يعلمون أنه النبي الذي بشرت به التوراة حتى كانوا يستفتحون به على المشركين قبل ميلاده وبعثته ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، ونبذوا كتابهم التوراة ، وكتاب الله القرآن وراء ظهورهم ، وبدل أن يتبعوا الحق المبين اتبعوا السحر الذي توارثوه عن آبائهم والذي علمتهم إياه الشياطين ، وكان الواجب عليهم أن ينبذوا السحر ، ويحذروا الناس من شره ، وذلك كما فعل الملكان : هاروت وماروت من تحذير الناس من شروره ، والعمل به ، وهذا هو التفسير الصحيح للآية ، لا ما زعمه المبطلون الخرفون وبذلك : يحصل التناسق بين الآيات وتكون الآية متآخية متعانقة ، ولا أدري ما الصلة بين ما رووه من إسرائيليات ، وبين قوله : {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} الآية.
إسرائيليات في المسوخ من المخلوقات
إسرائيليات في المسوخ من المخلوقات
ويوغل بعض زنادقة أهل الكتاب ، فيضعون على النبي صلى الله عليه وسلم خرافات في خلق بعض أنواع الحيوانات التي زعموا أنها مسخت ، ولو أن هذه الخرافات نسبت إلى كعب الأحبار وأمثاله ، أو إلى بعض الصحابة ، والتابعين لَهَانَ الأمرُ ، ولكن عظيم الإثم أن ينسب ذلك إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم ، وهذا اللون من الوضع والدس من أخبث وأقذر أنواع الكيد للإسلام ونبي الإسلام.
فقد قال السيوطي عفا الله عنه بعد ما ذكر طامات وبلايا في قصة هاروت وماروت ، من غير أن يعلق عليها بكلمة ؛ أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات ، وابن مردويه ، والديلمي ، عن علي : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسوخ فقال : هم ثلاثة عشر : الفيل ، والدب ، والخنزير ، والقرد ، والجريث( سمك") ، والضب ، والوطواط ، والعقرب ، والدعموص ، والعنكبوت ، والأرنب ، وسهيل ، والزهر ، فقيل : يا رسول الله وما سبب مسخهن ؟ وإليك التخريف والكذب الذي نبرئ ساحة رسول الله منهما فقال : أما الفيل : فكان رجلًا جبارًا لوطيا ، لا يدع رطبا ، ولا يابسا ، وأما الدب : فكان مؤنثًا يدعو الناس إلى نفسه ، وأما الخنزير : فكان من النصارى الذين سألوا المائدة ، فلما نزلت كفروا ، وأما القردة : فيهود اعتدوا في السبت ، وأما الجريث : فكان ديوثا ، يدعو الرجال إلى حليلته ، وأما الضب : فكان أعرابيا يسرق الحاج بمحجنه ، وأما الوطواط : فكان رجلا يسرق الثمار من رءوس النخل ، وأما العقرب : فكان رجلا لا يسلم أحد من لسانه ، وأما الدعموص(بضم الدال دويبة أو دودة سوداء تكون في الغدران إذا أخذ ماؤها في النضوب) : فكان نَمَّامًا يُفَرق بين الأحبة ، وأما العنكبوت : فامرأة سحرت زوجها ، وأما الأرنب : فإمرأة كانت لا تطهر من حيضها ، وأما سهيل : فكان عشَّارًا باليمن ، وأما الزهرة : فكانت بنتا لبعض ملوك بني إسرائيل افتتن بها هاروت ، وماروت ؛ ألا قبَّح الله من وضع هذا الزور والباطل ، ونسبه إلى من لا ينطق عن الهوى.
ومما لا يقضي منع العجب : أن السيوطي ذكر هذا الهراء من غير سند ، ولم يعقب عليه بكلمة استنكار ، ومثل هذا : لا يشك طالب علم في بطلانه ، فضلا عن عالم كبير ، وقد حكم عليه ابن الجوزي بالوضع ، وقد ذكره السيوطي في اللآلئ ، وتعقبه بما لا يجدي ، وكان من الأمانة العلمية أن يشير إلى هذا ، وبعد هذا الكذب والتخريف ينقل السيوطي ما رواه الطبراني في الأوسط بسند ضعيف كذا قال : عن عمر بن الخطاب قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غير حينه ، ثم ذكر قصة طويلة في وصف النار ، وأن النبي بكى ، وجبريل بكى ، حتى نوديا : لا تخافا إن الله أمنكما أن تعصياه(الدر المنثور ج1 ص 102 ، 103.) ، وأغلب الظن : أنه من الإسرائيليات التي دست في الرواية الإسلامية.