الخضر وموسى وثالثهما الغلام
عزيزي ..
إن ملخص قصة الخضر والغلام وموسى ينحصر في آيتين مهمتين هما :
"فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله .. " سورة الكهف : 74
أي انطلق موسى والخضر .. فقتل الخضر الغلام، وسبب قتله للغلام نجده في الآية التالية :
" وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا " سورة الكهف : 80
أما الهدف من قصة الخضر والغلام في القرآن فهو إعطاء رخصة إلهية لقتل كل غلام يُخشى على والديه من أن يرهقهما كفراً.
والقصة غير مبنية على علم الخضر بالغيب بدليل قوله "فخشينا"، أي خفنا، وهي دلالة على أن قتل الغلام كان مبيناً على الظن لا اليقين.
فإذا سلمنا بأن القصة مبنية على معرفة الخضر بالغيب فما هي الفائدة من ذكرها في القرآن؟
فهل بذلك تكون نصاً معطلاً لا فائدة منه سوى الاستئناس فقط ولا يًعمل به ولا يًقاس عليه؟
وإني أستغرب إذا العبد الصالح (الخضر) الذي آتاه الله رحمة من عنده يقوم بقتل غلام بدون ذنب، فبالله عليك قل لي ما هو حال باقي المؤمنين؟
وهل يُلام مثل موسى في اعتراضه على جريمة القتل إذا قال بشهادة القرآن : " أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكرا" سورة الكهف: 74
وهنا نرى أن قتل الغلام خوفاً مما يمكن أن يحدث في المستقبل هو أمرٌ مقبول لدى الله
أما محاولة قولك بأن الغلام في الآية السابق ذكرها لا تعني الطفل فهو قولٌ مجانب للصواب من وجهين:
أولاً : إن الغلام في القرآن يطلق ويراد به ما قبل سن البلوغ :
{قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} آل عمران (40)
{يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} مريم (7)
{وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} يوسف (19)
{قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} الحجر (53)
{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} الصافات (101)
{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} الكهف (82)
{قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} مريم (19) {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} مريم (20)
وهنا في كافة الآيات السابقة أن الغلام بمعنى الطفل
زد على ذلك ما ورد في تفسير ابن كثير لقوله تعالى في سورة الكهف : 74
"يَقُول تَعَالَى " فَانْطَلَقَا " أَيْ بَعْد ذَلِكَ " حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ " وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَلْعَب مَعَ الْغِلْمَان فِي قَرْيَة مِنْ الْقُرَى وَأَنَّهُ عَمَدَ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنهمْ وَكَانَ أَحْسَنهمْ وَأَجْمَلهمْ وَأَضْوَأَهُمْ فَقَتَلَهُ وَرُوِيَ أَنَّهُ اِحْتَزَّ رَأْسه وَقِيلَ رَضَخَهُ بِحَجَرٍ وَفِي رِوَايَة اِقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ وَاَللَّه أَعْلَم"
أما الطامة فكانت في تفسير القرطبي إذ أورد الآتي :
"فِي الْبُخَارِيّ قَالَ يَعْلَى قَالَ سَعِيد : ( وَجَدَ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ فَأَخَذَ غُلَامًا كَافِرًا فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ ) " قَالَ أَقَتَلْت نَفْسًا زَكِيَّة " لَمْ تَعْمَل بِالْحِنْثِ"
ثم أستطرد قائلاً في إيضاح مدلول لفظ"غلام" في الآية:
"" غُلَامًا " اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْغُلَام هَلْ كَانَ بَالِغًا أَمْ لَا ؟ فَقَالَ الْكَلْبِيّ : كَانَ بَالِغًا يَقْطَع الطَّرِيق بَيْن قَرْيَتَيْنِ , وَأَبُوهُ مِنْ عُظَمَاء أَهْل إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ , وَأُمّه مِنْ عُظَمَاء الْقَرْيَة الْأُخْرَى , فَأَخَذَهُ الْخَضِر فَصَرَعَهُ , وَنَزَعَ رَأْسه عَنْ جَسَده . قَالَ الْكَلْبِيّ : وَاسْم الْغُلَام شمعون وَقَالَ الضَّحَّاك : حيسون وَقَالَ وَهْب : اِسْم أَبِيهِ سلاس وَاسْم أُمّه رحمى وَحَكَى السُّهَيْلِيّ أَنَّ اِسْم أَبِيهِ كازير وَاسْم أُمّه سهوى وَقَالَ الْجُمْهُور : لَمْ يَكُنْ بَالِغًا ; وَلِذَلِكَ قَالَ مُوسَى زَاكِيَة لَمْ تُذْنِب , وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيه لَفْظ الْغُلَام ; فَإِنَّ الْغُلَام فِي الرِّجَال يُقَال عَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغ , وَتُقَابِلهُ الْجَارِيَة فِي النِّسَاء وَكَانَ الْخَضِر قَتَلَهُ لَمَّا عَلِمَ مِنْ سِرّه , وَأَنَّهُ طُبِعَ كَافِرًا كَمَا فِي صَحِيح الْحَدِيث , وَأَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ كُفْرًا"
فالمقتول هنا هو طفل لا شاب ، إذ أن كلمة غلام تعني أساساً الطفل، وإذا ما أراد الكاتب أن يخرج الكلمة عن معناها الأصلي فعليه وضع قرينه تدل على ذلك، وذلك كما ورد في صحيح بخاري:
" .. ثُمَّ لَحِقَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ ، فَمَكُثَ فِيهِ ثَلاَثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى بَكْرٍ ، وَهْوَ غُلاَمٌ شَابٌّ لَقِنٌ ثَقِفٌ ، فَيَرْحَلُ مِنْ عِنْدِهِمَا سَحَرًا ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ ، فَلاَ يَسْمَعُ أَمْرًا يُكَادَانِ بِهِ إِلاَّ وَعَاهُ"
فغلام هنا تتحدث عن الشاب ولكن حتى لا يلتبس الأمر وجب وجود قرينة تدل على أن غلام هنا لا تعني طفلاً بأية حال من الأحوال.
وعن استشهادك بقول الرازي في تفسيره
أن لفظ الغلام قد يتناول الشاب البالغ بدليل أنه يقال رأى الشيخ خير من مشهد الغلام جعل الشيخ نقيضاً للغلام وذلك يدل على أن الغلام هو الشاب وأصله من الاغتلام وهو شدة الشبق وذلك إنما يكون في الشباب.
فأرجو أن تلاحظ حرف قد في قول الرازي، أي أنه غير متيقن مما يقول.
وإنه لمن سخرية القدر أن أرى كلمة "غلام" وهي التي تؤكدون بأن معناها أخذ من الاغتلام وهو شدة الشبق، وهو كلام يعف عنه اللسان بأن ينطق بها، وهل جفَّت العربية من كلمات أخرى وصريحة لا خدش فيها للحياء تدل على ذات المراد؟
أما ثالثة الأثافي فكانت في قوله:
"وَقَتْل الصَّغِير غَيْر مُسْتَحِيل إِذَا أَذِنَ اللَّه فِي ذَلِكَ ; فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى الْفَعَّال لِمَا يُرِيد , الْقَادِر عَلَى مَا يَشَاء"
فهنا يكمن مغزى القصة وهي أن الله يفعل ما يشاء ولا يُسأل عما يفعل حتى لو كانت الضحية طفلاً زكياً وبغير نفس.
فهذه الآية تبيح قتل الأطفال في كل حالة مشابهة، فإذا ما رغب غلام بأن يعتنق ديانة غير ديانة أبويه فمصيره أن يقتل لا محالة.
أما قولك فماذا نفعل بالحديث؟
فأرد عليه بقولي : أنظر إلى القرآن أولاً ، فإذا كان النص واضحاً فلماذا نحتكم إلى الحديث؟
وإن شئت أن تنظر إلى الحديث فانظر إلى الأحاديث الخاصة بتفسير الآية، لا بأحاديث أخرى تتعلق بشيء آخر.
وحتى أريحك من عبء الحديث فلك أن تعلم أنه سواء كانت كلمة (غلام) بمعنى طفل أو شاب فالنتيجة واحدة فلقد تعددت الأسباب والموت واحد.
فالحقيقة تقول أنك إن قلت أنه طفل فأنت في ورطة وإن قلت إنه شاب فتلك ورطة أكبر!
فعذرك أقبح من ذنب إن قلت أنه بالغ، فإنه إن كان بالغاً فعليه أن يُستتاب لا أن يقتل، وإن كان قد كفر فإنه لن يغفر له لعدم توبته وإصراره على الكفر.
كما أنه بالإضافة إلى ما سبق إن كان بالغاً فهو مكلَّف ويستطيع أن يميز بين الخير والشر، وقتله يتعارض مع نص القرآن في نفس السورة: "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" سورة الكهف: 29
فهل التعذيب والقتل خشية إرهاق الوالدين بالكفر هو من سنن الأنبياء كلُّ في قومه؟
وإذا ما كانت الكلمة - أي كلمة غلام - موضع جدل ومختلفٌ عليها بين العلماء، فلماذا اختارها الله، هل ليلقي الحيرة في قلوب المؤمنين؟ وهل هذا ما تقتضيه البلاغة والبيان؟
ألم يكن من البيان بمكان أن ترد كلمة شاب عوضاً عن غلام حتى لا يلتبس المعنى على المفسر والقارئ وسائر المؤمنين؟
وأخيراً قول موسى يحسم الجدل إذ قال :"أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكرا" سورة الكهف: 74"
فإذا كان الغلام شاباً بالغاً، فكيف يصف موسى بأنه نفس زكية أي طاهرة، فالنفس الزكية لا تقال عن شاب بالغ في هذا الموضع لأن موسى لا يعرفه ولا يعرف الغيب عنه، فهو قد رأى طفلاً لم يبلغ حد التكليف فجزم بأن نفسه زكية بناءً على حداثة سنه وبراءته، وهذا ما يقتضيه سياق الآية.
وكذلك كلمة "خشينا"، فالكلمة تدل على أنه طفل لم يرتكب الخطأ بعد، ولم يكفر بعد،
إذ أنه لو كان شاباً لعُرف أنه قد كفر يقيناً، ولما احتاج الخضر لاتباع الظن استناداً لقوله (خشينا).
أما قتل الغلام الذي خشي الخضر أن يرهق أبويه فقد أتى لمصلحة الأبوين فقط لا لنفعٍ للغلام ، والذي قال القرآن بخصوصه : "فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا" ..
أي أن الخضر قد عمد إلى قتل الغلام أملاً بأن يعوَّض الله الأبوين بأفضل منه، وهنا لا يضمن أحد أن يكون الغلام التالي أفضل حالٍ من سابقه، فلربما يكون أسوأ أو مثله في السوء، فهل الحل هنا أن نقل الغلام التالي أملاً بأن يكون الثالث أفضل حالاً؟
ولنا أن نسأل هنا : ما مصير الغلام المقتول إذا كان طفلاً؟ هل قتله سيدخله الجنة؟ مع العلم أن قتل الخضر للغلام يُظهر رغبته بتحسين وضع الوالدين بإنجابهما ولداً آخر مؤمناً، دون الإهتمام بالغلام المقتول ومصيره، حتى إنه لم يستتب، ولم يعطَ فرصة، وقد كان الأولى بالخضر أن يدعوه للإيمان أولاً.
وهنا أراني مضطراً للسؤال : ما مصير من مات أو قتل وهو كافر بحسب القرآن؟
وكل هذا لماذا؟ نزولاً عن رغبة الخضر!
وهو ما يدل على أن الغاية من قتل الغلام هي إرساله للعذاب الأبدي دون إعطائه فرصة للتوبة.
فأين الرحمة هنا يا عزيزي؟