الباحـــــــــــــ ... عن الحق ... ـــــــــــــــــث .
حيرة الفتى...
رائحة بخور نادرة تملأ أنفه وهمهمات من أدعية مهموسة تملأ أُذُنيه ...
لكن قلبه الليلة يملؤه الشك...
شابٌ باهر العود,صحيح الجسم, دائم التأمل, له حواجب غزيرة مقرونة توحي بالقوة
وبين الحاجبين تقطيبة تشكو في صمت ...شكوى النفس للنفس
حركة الشك التي تبحث عن اليقين في تحسس و دبيب وبين كل فكرة وفكرة تتنهد...
وها هو المساء ينزل على قرية (جي ) القرية من أصفهان بإمبراطورية فارس.
يحمل رائحة عيد (النوروز) الذي فرغوا من الإحتفال به , وأحذ دهاقين* القرى
وحكامها أيا مها يُجهدون الناس في جمع أثمان الهدايا الإجبارية التي تثقدم لكسرى
فرقدت القرية في أحضان التل ككائن أنهكه التعب ...
وعلى التل يقع (بيت النار ) معبدهم المقدس ,الذي حرج منه هذا الشاب المَجوسي*
لتوه وأحذ يهبط التل , وفي أنفه رائحة بخور وفي أُذُنيه أدعية مهموسة ...
وصورة لِخُدام المعبد وقد أخفوا أفواههم بأربطة وهم يوقدون النار في الهيكل المُظلم
حتى لا تُلوث أنفاسهم طهارتها....!!!
وقفلا متأملا"...
كأنه نسي المشي , فهو منذ بلغ رشده يبحث عن الله ...
وقاده إليه هرابذة* المجوس ...وقالوا له : أنه هنا ...
وعلموه وتركوه يُعلم الناس مثلما علموه , وقدم النبات المقدس للنار العظيمة
الكائن الأبدي المطهر في نظرهم ...
هذا الشاب ابن دهقان القرية ,كان أبوه مشغولا"منذ أيام في جمع الضرائب
وثمن الهدية التي قُدمت لكسرى .
أبوه رجل قصير غليظ ,شديد الوطأة على الناس، كثير الحب لأبنائه .
ولم يكن في حياته شئ أغلى ولا أعز من هذا الأبن ...
لم يكن يناديه باسمه بل كان يناديه دائما" يا (أنا ).
وعندما يهل عليه يُقبل حاجبيه المقرونين , ويقف على أطراف أصابعه لأن ابنه
كان أطول منه .
دخل الشاب دارهُ ولقيتهُ أمه التي خاطبته بتحية أبيه :
-هل جئت يا ( أنا )؟
ولم يرد الشاب بل سأل :
_ وأين أبي ؟
ردت عليه :
لعله يجول في المزرعة .
وفي ساحة الدار رأى فرسا" عربيا" اشتراه أبوه في أحدى رحلاته إلى الجزيرة
فَهَم أن يركبه ...ولكنه أعرض وآثر أن يذهب إلى أبيه ماشيا"
وعند أطراف المزرعة سَمِعَ على بُعد صهيل حصان جامح وضجيجا" وغضبا"
كان الصوت صوت أبيه يَهدُرُ ويتدفق , ثم ينقطع من الجَهد. وعندما قارب موقعه
سَمِعَ صوت جَلد , ورجلا"يَصرُخُ وسوطا" يئزُّ في الهواء,يُصاحب كل هذا صهيل
حصان ...ثم خُوارُ الخنازير.
وتقدم الشاب من أبيه الذي كان يجلد رجلا"...ومد يده إليه ضارعا":
_أبي!
فتوقف الرجل عما كان فيه ,ثم هتف وهو يلهث وأطرافه ترتعد :
_ هل جئت يا (أنا )..؟
هتف الشا ب بيه وبين نفسه و هو يهز رأسه وعيناه تفيضان بالدمع ...
( أخطأت..لم يعد اسمي كذلك ..أصبحت رجلا" غيرك .. ورجلا" غير نفسي ..
بل ربما كنت نفس هذا الرجل الذي تجلده ...كل هؤلاء المساكين في جِلدي ..
أصبحت أحس وقع السياط عليهم ).
كان صوت أبيه المُتقطع لا يزال يصل إليه في ظلمة الليل :
_ لماذا لا ترد عليّ يا (أنا ) ؟
وتقدم الشاب من الرجل المنزوي عند باب الحظيرة واحتضنه .ففاحت منه رائحة
سماد وروث . ولاذ الرجل بين أحضانه كأنه لمس إنسصانا" لأول مرة .
وتراجع الدهقان مذعورا". أدرك عُمق الخطر الذي أتاه أبنه الشاب الذي يلبس الحرير
وهو يحتضن راعي الخنازير .ثم همس :
_ ماذا فعلت يا ......
وقطع نداءه وصاح بصوته الأجش :
_ لا لست ( أنا )..إنك ( أنت ) شخص جديد لا أكاد أعرفه ...
ماذا فعلت؟!
همس الأبن كالمأخوذ :
_ ولماذا تجلده ؟
رد الأب صارخا":
_ مات اليوم على يده ثلاثة خنازير...فماذا لو مات هذا الرابع ؟
و حرك الدهقان سوطه في الهواء , وحار فيمن يضرب , وخيل إليه أنه على وشك
أن يهوي به على وجه ابنه الشاب الذي لم يعد ( أنا ), وأحس كأن كفيه
كانتا قابضتين على شئ عزيز وسقط , ثم ركب حصانه وركض...
ــــــــــــــــــــــــــ
دهاقين :جمع دهقان وهو حاكم القرية أو ملك الضيعة
المجوسي : الذي يعبد الشمس والقمر والنار والعياذ بالله
الهرابذة : رجال الدين عند المجوس
يتبع بأذن الله تعالى
تابع مع القافلة إلى الشام...
فرأوا منه العجب ...
وكان سيفه الأثري في يد العربي يُحملق في حَدّه , بعدما أخرجه من غمده الجديد
وعندما فرغوا من شحن السفينة قدموا إليه بعض الدراهم فرفضها ...
كيف يأخذ أجرا" على أنه ساعد على السير بسفينة يركبها في سبيل الله؟!
....
و في الليلة التالية ...
كان النهر ثائرا". وكف ركاب السفينة عن الكلام ...كأنهم يرون الموت تحت كل موجة
وقال الفارسي في نفسه ( ربما جئت لألقى حتفي في النهر في سبيل الله )
وعمت روحه السكينة وامتلأ هدوءا" ...
قال للعربي :
_غَنّ يا سُهيل .. لماذا كففت عن الغناء ؟
ضحك سُهيل قائلا" :
_ وهل هذا وقت الغناء يا حديدي القلب !
و ضحك الفارسي ...و أخذ النهر يُمرجح السفينة وأخذ النوتية ينزحون من السفينة الماء
الذي اندفع إليها ...ولم يلبث الفارسي أن نهض وتبعه العربي ...ففعلا مثل ما يفعل النوتية.
ولم تلبث ساعة الخطر في هذه المنطقة شديدة الإنحدار أن انحسرت ..
وعندئذ ضحك الفارسي والعربي في نفس واحد ...
و قال الفارسي في سهوم وفمه على مقربة من أُذن سُهيل :
_ سُهيل ..!
_ نعم يا صديقي ..!أنت مصدر طمأنينة عظيم
وعند مدينة ( آمد ) قُرب نهاية النهر اختلفت الطريق بالرفيقين ...وأصبحت القافلة قافلتين
فسار الفارسي مع النصارى ...و سار سُهيل مع بعض صحبه
و كانت الرحلة برية ...منذ الآن ..
و تعانقنا وفي عينيهما ...دموع ..وقال الفارسي للعربي :
_ عندي شعور بأنني سألقاك يوما" ما ..
تأوه سهيل :
_ليدع كل منا إلهه بأن نلتقي مرة أخرى...
جلجلت ضحكة الفارسي ساخرة ...وقال :
_ لن نلتقي أيها الصديق إلا إذا كان إلهنا واحدا" ...تعال أضمك ..
ثم أفترقا على الطريق ...
....
يتبع بأذن الكريم سبحانه
...مع العابد في عمّوريّة .
.
مع العابد في عمّوريّة...
( آه يا رب , رأيت كثيرا" من عبادك على رُقعة فسيحة من الأرض , قليل منهم
يعرف الطريق إليك ) ...هذا ما كان الفارسي يخاطب به نفسه , وهو يرى على البعد
مشارف مدينة ( عمّوريّة ) ...بعدما ترك ( نصيبين ) ...وبعد ما أقام بها مدة من الزمن .
كانت نفسه مليئة بالقلق في هذه المرة ...و ها هي أرض الروم التي يظنها خاتمة مطاف ...
بعد أن ترك أرض الشام ...
ولم يلبث أن مر على دسكرة* من الدساكر المنتشرة في الإقليم فلقي رجلا" أنيق الهيئة
فاستوقفه المسافر سائلا":
_ أين تقع صومعة الـ ...
فقاطعه الرجل في غير مودة :
_ لست أعرف شيئا" عن الصوامع.
فواصل المسافر طريقه ...فقابل أحد الرعاة فاستوقفه سائلا" :
_ أين تقع صومعة ...
فقاطعه الراعي بسرعة شديدة , واتجه إلى ناحية الشرق و أخذ يشير :
_ على بُعد فرسخ واحد ستجد تلا" عليه كنيسة قديمة ...وبعد أن تترك التل والكنيسة
ستجد سهلا" صغيرا" فيه صومعة السيد العابد ..وهمهم : امنحنا _اللهم _ بركاته
لم يكن على مسكن العابد علامة تدل عليه ...إلا الوحدة والتفرد.
دق الباب بقبضة قوية ...لكن لا أحد يرد.
سكت هنيهة ...ثم عاود الدق
فتحرك المزلاج ...وانفتح الباب ...وجاءه صوت يقول بنبرة وانية مرتعشة:
_هل جئت ؟ ...إنني في إنتظارك.
وخطا نحو الداخل فتبعه المسافر في صمت حتى دخل حجرة فُرشت بفراش من الصوف الخشن
ذي لون واحد ...وفي ركنها مدفأة من النحاس ...وفي ركن آخر كُتب وحشايا على الأرض
_ آه كنت في إنتظارك ...قال العابد
فتقدم منه المسافر وسأله :
_ حقيقة أنك كنت بإنتظاري ...لكن من أخبرك بأننـ ؟
وقطع عليه العابد حديثه بضحكة طيبة :
هذه تحية القدوم لكل من يدخل ...لأن الذي يأتي إلى هنا لابد أنه لاقى مشقة...
عندي طعام لأثنين ...فهل تأكل ؟
_ أنا جائع يا سيدي إلى ما هو أسمى من الطعام.
_ وهل أنت عابر سبيل ؟
_ لا كنت في ( نصيبين) مُقيما" مع عابد هناك , فلما حضرته الوفاة دلني عليك ...
وقبلها كنت بـ ( الموصل ) ...و ها أنذا جئت لأُقيم معك .
_ مرحبا" بك ( وابتسم ) ...ولكن أيُها الفارسي قُص عليّ حياتك في بلادك وأخبرني بخبرك
ولما فرغ الفارسي من قصته ...بدا عليه الجهد ...فقال له العابد:
_ قُم بنا لأُريك معالم المكان...
....
يتبع بأذن الله تعالى
تابع ....مع العابد في عمّورية
_ قم بنا لأريك معالم المكان .
راحا يجولان معا" في المزرعة التي تكاد تبلُغُ في مساحتها بضعة فراسخ مربعة.
سار العابد أمامه ...
وهو يتبعه ...كأنه يَدُلّهُ على طريق...
ولم يلبثا أن وقفا إلى جوار بئر ، وجاء صوت العابد وانيا" :
_ هلُمّ اسق هذه الخضراوات , وعد إلى الداخل لنتناول طعامنا معا".
ثم تركه وسار بحطوات لا تكاد تُسمع ...وتبعه الفارسي ببصره ...وخُيّل إليه أنه يحلم
...ومضى الوقت سريعا" و فرغ الفارسي من عمله والشمس لا تزال على مقربة من الأفق
فعاد أدراجه ووصل إلى غرفة العابد , فلما أحسه قام فجهز العشاء بنفسه
عندها خاطبه الفارسي قائلا" :
_أترك لي أمر خدمتك .
فرد العابد عليه :
_ بل سيكون كل شئ قسمة بيننا ...العمل والثمرة
و سترى إنني آكل من زرع يدي ...وألبس من صنع يدي
العمل والعبادة في نظري شيئان مباشران ...لا واسطة فيهما
تقدم ...هيا وخذ طعامك ...
ومنذ الغد سنزرع معا" ...وننسج معا" ...ونعبد الله معا".
لم يأكل الفارسي طعاما" أشهى من هذا الطعام , لم تكن الأواني لامعة ...
لا فضية ولا ذهبية كالتي تركها في أرض فارس ...لكنه كان الطعام الأشهى والألذ.
....
في حجرة آخرى في صباح اليوم التالي
كان هناك منسج وخيوط من الصوف شُدّت للعمل ,كلها من لون واحد
وإلى جانب المنسج قطعة صغيرة فُرغ منها ...وعرف الفارسي أنها مُعَدّة للبيع
...وانكب العابد على المنسج ...وجلس الفارسي يراقبه .
وبعد ساعة من الزمن عادا إلى الغرفة الأولى ...كان الجو قد تغيّر و بدأت ريح لينة
تحف بالأشجار ..وأوقد الفارس لهما مدفأة وجلسا أمامها وشرع العابد يقول :
_ أنت خير منّي أيها الشاب ( فعض الفارسي شَفَتَهُ استعظاما" واستنكارا" )
لا تعجب ...فأنت تركت أرضك وأهلك والضيّع والعبيد ... وخرجت تبحث عن الحق
وخرجت تبحث عن الحقيقة التي لم تجدها في شئ مما حولك
لم تجدها في بريق الذهب ... ولكن ربما تجدها فوق رأس نخلة وأنت تحصد
.... نعم ستجد الحقيقة المطلقة ...
والتي هي الله ...والطريق إليه
إبتسم الفارسي ...ابتسامة رضا أشرق لها وجهه...وقلبه وروحه
... وسكت العابد هُنيهة ومسح عرقه بكميه ... ثم قال :
- قم بنا لنتغدى ونستريح
....
وفي المساء جلسا إلى المنسج ...و أخذ الفارسي يعمل عليه وكأنه تعلم منذ شهور...