الفرع السادس
محبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
محبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصل عظيم من أصول الدين , بل إن إيمان العبد متوقف على وجود هذه المحبة ,فلا يدخل المسلم في عِداد المؤمنين الناجين حتى يكون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحبَّ إليه من نفسه التي بين جنبيه ومن ولده ووالده والناس أجمعين.
قال عز وجل :[ قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ]التوبة: 24
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ).
وهذه المحبة وإن كانت عملا قلبيا, إلا أن آثارها ودلائلها لابد وأن تظهر على جوارح الإنسان , وفي سلوكه وأفعاله , فالمحبة لها مظاهر وشواهد تميز المحب الصادق من المدعي الكاذب , وتميز من سلك مسلكا صحيحا ممن سلك مسالك منحرفة في التعبير عن هذه المحبة .
وأول هذه الشواهد والدلائل طاعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإتباعه , فإن أقوى شاهد على صدق الحب - أيا كان نوعه - هو موافقة المحب لمحبوبه , وبدون هذه الموافقة يصير الحب دعوى كاذبة , ولذلك كان أكبر دليل على صدق الحب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو طاعته وإتباعه , فالإتباع هو دليل المحبة الأول , وشاهدها الأمثل , بل كلما عظم الحب زادت الطاعة له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فالطاعة إذا هي ثمرة المحبة.
ولذلك حسم القرآن دلائل المحبة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آية المحبة وهي قوله عز و جل : [ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] آل عمران: 31
فإذا كان الله عز وجل قد جعل إتباع نبيه دليلا على حبه سبحانه , فهو من باب أولى دليل على حب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , قال الحسن البصري رحمه الله " زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية .
وصدق القائل :
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
فالصادق في حب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , هو من أطاعه واقتدى به , وآثر ما يحبه الله ورسوله على هوى نفسه . ومن دلائل محبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعظيمه وتوقيره والأدب معه , بما يقتضيه مقام النبوة والرسالة من كمال الأدب وتمام التوقير , وهو من أعظم مظاهر حبه , ومن آكد حقوقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أمته , كما أنه من أهم واجبات الدين .
قال تعالى : [ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)]الفتح: 8 - 9
فالتسبيح لله عز وجل , والتعزير والتوقير للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وهو بمعنى التعظيم .
ومن الأدب معه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقديمه على كل أحد , والثناء عليه بما هو أهله , وتوقير حديثه , وعدم رفع الصوت عليه أو التقديم بين يديه , وكثرة الصلاة والسلام عليه.
ومن دلائل هذه المحبة أيضا الاحتكام إلى سنته وشريعته , فقد أقسم الله عز وجل بنفسه أن إيمان العبد لا يتحقق حتى يرضى بحكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جميع شؤونه وأحواله , وحتى لا يبقى في صدره أي حرج أو اعتراض على هذا الحكم .
[فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]النساء: 65
وجعل الإعراض عن سنته وترك التحاكم إليها من علامات النفاق والعياذ بالله .
قال تعالى:[ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)]النساء: 60 - 61
ومن الدلائل أيضا على محبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذَّبُّ عنه, والدفاع عن سنته, ضد كل مبطل ومشكك, والحرص على نشرها بين الناس صافية نقية من كل ما علق بها من شوائب البدع.
وإن مما يؤسف له أن مفهوم محبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد فسد وانحرف عند كثير من المسلمين , وخصوصاً في هذه العصور المتأخرة , فبعد أن كانت هذه المحبة تعني إيثار الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كل مخلوق , وطاعته وإتباعه , صار مفهومها عند البعض عبادته ودعاؤه , وتأليف الصلوات المبتدعة , وعمل الموالد , وإنشاد القصائد والمدائح في الاستغاثة به , وصرف وجوه العبادة إليه من دون الله عز وجل, وبعد أن كان تعظيم الرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتوقيره والأدب معه , صار التعظيم عندهم هو الغلو فيه بإخراجه عن حد البشرية , ورفعه إلى مرتبة الإلوهية , وكل ذلك من الفساد والانحراف الذي طرأ على معنى المحبة ومفهومها .
قال تعالى :[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا]الأحزاب: 21
اللهم أكسبنا حبك وحب نبيك محمد وارزقنا مرافقته في الجنة. اللهم وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد .
وما أصدق قول حسان بن ثابت فيه إذ يقول:
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ويتلو كتـاب الله في كـل مشهد
فإن قـال في يوم مقـالة غائب فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد
ولله ودر القائل إذ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنـه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
الفرع السابع
وَوَجَدَكَ ضَالًّافَهَدَى
مفهوم الضلال في الآية الكريمة ومعناه
إن كلمة الضلال في اللغة لهي من المشترك اللفظي..
فما هو مفهوم المشترك اللفظي في القرآن الكريم ؟..
المشترك اللفظي يطلق على تسمية الأشياء الكثيرة بالاسم الواحد ، أو بتعبير الإمام السيوطي هو: اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين فأكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة.. وقد اختلف أهل اللغة في أمره، فمنهم من قال بوقوعه في اللغة كالأصمعي والخليل بن أحمد وسيبويه وابن فارس وابن قتيبة وأبي عبيدة وغيرهم، وأفردوا مؤلفات خاصة سردوا له فيها أمثلة كثيرة، وهو عندهم سمة إيجابية ودليل على ثراء اللغة وطواعيتها ومرونتها واتساعها في التعبير..
والقرآن الكريم باعتباره كتاب الله عز وجل المنزل باللغة العربية، وعلى عادة العرب وطرائقهم في التعبير.. قد ورد فيه طائفة من الألفاظ المشتركة عني بجمعها وتصنيفها مجموعة من العلماء. وكان ذلك سببا من أسباب اختلاف المفسرين والفقهاء وعلماء الأصول في تأويل كثير من النصوص القرآنية، وقد أدى هذا الأمر إلى الاختلاف في الاستنباط وتقرير كثير من الأحكام الفقهية. لذلك حظيت هذه الظاهرة، أي ظاهرة وجود المشترك اللفظي في القرآن الكريم بعناية كبيرة من لدن المتقدمين، وعرفت باسم الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، قال الزركشي: (فالوجوه اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان، كلفظ «الأمَّة»، والنظائر كالألفاظ المتواطئة).
بل الأكثر من ذلك أن الإمام السيوطي عد وجود الألفاظ المشتركة في القرآن الكريم من أعظم مظاهر إعجازه (حيث كانت الكلمة الواحدة تتصرف إلى عشرين وجها وأكثر وأقل، ولا يوجد ذلك فـي كـلام البشر).
وكأنه يشير بذلك إلى قابلية اللفظ القرآني وقدرته على تحمل معاني متعددة. فهو إذن وسيلة من وسائل التوسع في التعبير عند العرب، وسبب من أسباب توفير معاني القرآن الكريم، وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى تعامل بعض العلماء مع هذه القضية.
و لفظ الضلال يطلق فيالقرآن، وفي اللغة العربية على إطلاقات عدة..
فيطلق الضلال مرادًا به الذهاب عن حقيقة الشيء، حيث تقول العربفي كل من ذهب عن علم حقيقة شيء ضلّ عنه، وهذا الضلال ذهاب عن علم شيء ما، وليس منالضلال في الدين.
ومن هذا المعنى قولهتعالى: ( وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالّينَ ) ، أي: من الذاهبين عن علم حقيقة العلوم،والأسرار التي لا تعلم إلا عن طريق الوحي، لأني في ذلك الوقت لم يوحَ إليّ .
ومن هذا المعنى قوله تعالىٰ: (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّى في كِتَابٍلاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى) .
فقوله: ( لاَّ يَضِلُّ رَبّى )، أي: لا يذهب عنه علم شيء كائنًا ما كان .
وقد يطلقوهو المشهور في اللغة، وفي القرءان على الذهاب عنطريق الإيمان إلى الكفر،وعن طريق الحقّ إلى الباطل،وعن طريق الجنّة إلى النار، ومنه قوله تعالىٰ: ( غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِعَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ).
وقد يطلق على الغيبوبةوالاضمحلال،تقول العرب: ضلّ الشيء إذا غاب واضمحلّ، ومنه قولهم: ضلّ السمنفي الطعام، إذا غاب فيه واضمحلّ، ولأجل هذا سمّت العرب الدفن في القبر إضلالاً؛ لأنالمدفون تأكله الأرض فيغيب فيها ويضمحلّ.
ومن هذا المعنى قولهتعالىٰ: ( وَقَالُواْ أَءذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلاْرْضِ ) ، يعنون: إذا دفنوا وأكلتهمالأرض، فضلوا فيها، أي: غابوا فيها واضمحلّوا .. وقد ردتالكلمة بمشتقاتها في القرآن الكريم أكثر من ( 375 ) مرة
ويمكن إجمالها فيما يلي :
1 ـ من معاني الضلال : التيه والانحراف : مثال هذا المعنىقوله تعالى في سورة المائدة " .. وأضلّوا كثيراً ، وضلوا عن سواء السبيل " ، فقدانحرفوا وأمالوا عن الحق كثيراً من أتباعهم ومن وثق بهم . وفي سورة السجدة ينفيالله تعالى الغواية والانحراف عن نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم " والنجم إذا هوى؛ ما ضل صاحبكم وما غوى " .
2 ـ وتعني كلمة الضلال بمعنى الوقوع في المتاهة والخطأ ،كقوله تعالى ينعى على الكفار تخبطهم في حديثهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولةتيئيسه من الدعوة ، والتضييق عليه ليتركها ، فوقعوا في أخطاء كبيرة : " انظر كيفضربوا لك الأمثال فضلوا ، فلا يستطيعون سبيلاً " .
3ـ ومن معاني الضلال الخسران وإبطال الثواب : ومن أمثلةذلك المعنى قوله تعالى في سورة سيدنا محمد " والذين كفروا فتعساً لهم ، وأضلأعمالهم " فالكافر ليس له في الآخرة نصيب ، وكل عمل لا يقوم على أساس الإيمان ليسلصاحبه خلاق في الأمن والنجاح يوم القيامة ، وأضل أعمالهم ، أحبطها فخسروها . وعلىهذا نرى في قوله تعالى في السورة نفسها : " والذين قتلوا في سبيل الله فلن يُضلأعمالهم ، سيهديهم ويصلح بالهم .. " فقوله : لن يضل أعمالهم : لن يحبطها ، ولن يبطلثوابها ، بل يصلح بالهم فيزيدهم من فضله وكرمه .
ومثال ذلك قوله تعالى فيسورة غافر " وما كيد الكافرين إلا في ضلال " وقوله سبحانه في السورة نفسها " ومادعاء الكافرين إلا في ضلال " فمكر الكافر وكيده في الدنيا عليه وليس له ، ودعاؤه فيالآخرة لا يُقبل ، إنه لا ينجو هناك إلا المؤمن الموحّد.
4ـ ويأتي الضلال بمعنى الغفلة والجهل بالشيء ، فقد كانالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الرسالة يبحث عن الحقيقة ، فهداه الله إليها بعدغفلة عنها وجهل بها ، هذا ما نجده في قوله تعالى في سورة الضحى " ووجدك ضالاًّ فهدى " ، يوضحها قوله تعالى : " وإن كنت من قبله لمن الغافلين ؟ " فالضلال هنا الجهل بالشيء والغفلة عنه .
ولما اتهم فرعون سيدناموسى بالكفر حين قتل القبطي ، فقال له " وفعلت فَعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين " رد عليه موسى نافياً الكفر ومثبتاً الجهل والغفلة إذ ذاك " فعلتها إذاً وأنا منالضالين " لم يكن رسولاً بعد ، وكان غافلاً عن أمر الرسالة .
5 ـ وقد يأتي الضلال بمعنى الهلاك . مثال ذلك قوله تعالى " إن المجرمين في ضلال وسُعُر" قال القرطبي إن الضلال هنا الهلاك لمساوقته كلمة " سُعُر "
وفي قوله تعالى في سورةالإسراء ، وقد جاءت الآية نفسها دون تغيير في سورة يونس " من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها " ومعنى يضل عليها يهلكها ، ويدخلها عذاب جهنم .
وفي قوله تعالى في سورةالنساء " يبين الله لكم أن تضلوا " نجد معنى الهلاك واضحاً . فمن لم يتبع البينةويعمل بها هلك . وكذلك في قوله تعالى " ... ضل سعيهم في الحياة الدنيا " فخاب وهلك .
6ـ والضلال هو آخر مراتب الحب ..فالحب أوله العلاقة لتعلق القلب بالمحبوب ثم الصبابة لانصباب القلب إليه ثم الغرام وهو الحب الملازم للقلب ثم العشق وآخرها الضلال.
ولقد ذكرتها بالتفصيل في كتابي ( قالوا عن المرأة ويا ليتهم ما قالوا)..فليرجع إليه .
ففي قوله تعالىٰ عن أولاد يعقوب عليه السلام: (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلٰلٍمُّبِينٍ) ،وقوله: (قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَـٰلِكَ ٱلْقَدِيمِ)،على التحقيق في ذلك كلّه ،ولا يفهم من هذا كله أن أولاده ينعتونه بالضلال المتعارف عليه وهوالضلال في الدين ; إذ لو أرادوا ذلك لكانوا كفارا..
ووصف النسوة لامرأة العزيز بقولهم: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) يوسف: 30
فلقد اجتمعت كل معاني الحب في قلبها وقالبها الأمر الذي جعل النسوة يقولون ما قد قالوه..
ومن هذا المعنى قول الشاعر: وتظنّ سلمى أنني أبغي بها...بدلاً أراها في الضلال تهيم
وحينما تناول المفسرون قوله تعالى واصفا نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)..قالوا كلاما لا يقنع ويسيء إلى النبي ص صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أحب أن اذكر ما قالوا هنا..ولكنني أقول بخلاف قولهم فقوله الله تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)..أي وجدك مَضْلُولاً عنك فهدى الخلق إلى الإقرار بنبوتك والاعتراف بصدقك..
وعليه فوجدك ضالا بمعنىمضلول كما قيل ماء دافق بمعنى مدفوق، وسر كاتم بمعنى كتوم..
ومع ذلك فالمدقق في الآيات وفروعها يجد معنى أعمق من ذلك بكثير..
أقول(كاتب المقال زهدي):
قال تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ).. يتفرع منه قوله: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)
فكان يتيما فآواه ومرتب عليه .. لا تقهر اليتيم
قال تعالى : (وَوَجَدَكَ عَائِلافَأَغْنَى)..يتفرع منه قوله : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاتَنْهَرْ)
وكان عائلا فأغناه ومرتب عليه.. لا تنهر السائل
قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّافَهَدَى).. يتفرع منه قوله : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)
فهل مرتب على من كان ضالا ..أن يحدث بنعمة ربه على ضلاله..مستحيل؟؟!!..إلا إذا كان المعنى بخلاف ذلك..
فالمعنى الذي أرتاح إليه هو أن الله سبحانه وتعالى وجدك يا محمد محباً له سبحانه وتعالى تبحث عن بُرهان ودليل على الوحدانيّة ـ فهداك إليه ـ فجعلك رسولا نبيّا..وتلك نعمة أيما نعمة.. (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) ..فكانمُنذ صِغره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حنيفا) .. مِثل أبيه إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا يعطينى معنى ومفهوم الضلال في آية الدين..
فقد تكون المرأة التي كانت تجلس وتشهد العقد الموقع بين اثنين أن يكون أحدهما قريبا لها وتحبه كأن يكون ابن أختها مثلاً وتضمر في نفسها رغبة لأن تزوجه ابنتها..وهو أمر وارد..مما يجعلها قد تخالف ضميرها عندما تحدث لائمة له فتدعي أنها قد نسيت..فتقول:
مش فاكره...فتذكرها الثانية وقد تكون ابنة أختها والتي قد لا ترضى باستعباط خالتها وهي تعلم تماما رغبة ابن أختها في بنتها وتتمناه لها وأن الولد قد ارتكب خطئاً كبيرا حينما تراجع عما قد ألزم نفسه بما هو مكتوب في العقد..فتقول لها:يا خالتي..يا خالتي.. يا خالتي ..بذمتك مش فاكره...فتبادرها خالتها لفورها قائلة: يوه؟!!..دانا نسيت..
الحب يعمل عمايله..
وما لنا نذهب بعيدا فلندقق جيدا في نفس الآية: ( وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى)..
إذا كانت الآية الكريمة على العموم بمعنى أن أحدهما قد تنسى فلماذا نفترض في الثانية أنها لا تنسى هي الأخرى؟..
صدقوني الآية بخلاف ذلك بكثير
محمد المبعوث للنــاس رحمـةً
يشيِّد ما أوهى الضلال ويصلـح
لئن سبَّحت صُمُّ الجبـال مجيبـةً
لـداود أو لان الحديـد المصفـح
فإن الصخور الصـمَّ لانت بكفـه
وإن الحصــا في كـفه ليُسَبِّـح
وإن كان موسى أنبع الماء بالعصا
فمن كفه قد أصبح المـاء يَطـفح
وإن كانت الريح الرُّخاءُ مطيعـةً
سليمان لا تألـو تروح وتسـرح
فإن الصبـا كانت لنصـر نبينـا
ورعبُ على شهر به الخصم يكلح
وإن أوتي الملكَ العظـيم وسخِّرت
لـه الجن تسعى في رضاه وتكدح
فإن مفاتيح الكنــوز بأسـرهـا
أتته فرَدَّ الـــزاهد المترجِّـح
وخص بالحوض الرَّواء وباللِّـوا
ويشفع للعـاصين والـنار تَلْفـح
وبالمقعد الأعلى المقـرَّب نــاله
عطـــاءً لعينيه أَقـرُّ وأفـرح
وبالرتبة العليـا الوسيـلة دونهـا
مراتب أرباب المـواهب تَلمــح
ولَهْوَ إلى الجـنات أولُ داخــلٍ
لــه بـابها قبـل الخلائق يُفْتَتح