ماذا عن تطبيق الشريعة الإسلامية
الآن، وليس قبل الآن
مع إننا لم نتصور تطبيقاً للشريعة إلا بعد تعديلات جذرية في مضمون وشكل الشريعة نفسها، وفى رؤية العقيدة أيضاً، وفى نشر هذه الرؤية الجديدة وتعميقها حتى تشمل أغلبية المواطنين، إلا أن هناك عقبات ومحاذير خارج إطار هذين ـ أي العقيدة والشريعة ـ يتعين علينا أن نحسب حسابها وأن يكون لدينا حلولاً لما تثيره من مشكلات وإجابات لما ستطرحه من تساؤلات.
من هذه العقبات والمحاذير
:عدم تهيؤ المجتمع لتقبل الشريعة الآن
هناك من يقول بمجرد أن يقرأ هذا العنوان إن تطبيق الشريعة مطلب شعبي وإن الشعب يطالب به من زمن وأنه مهيّأ لذلك من الآن، وإن الحكومات هي السبب في تأخيره، وليس أدلّ على ذلك من تقنين الشريعة في قوانين سنة 1987 وكان يمكن أن تعرض على مجلس الشعب وقتئذ وكان فيه مائة نائب معارض كلهم يناصرون الشريعة ولكن رئيسه العنيد رفعت المحجوب الذي كان أحد أقطاب الناصرية، احتفظ بها في درج مكتبه وأغلق عليها وقُتِلَ والمفتاح معه.
ففي الحقيقة أن المجتمع المصري ـ وهو ما ينطبق بصفة عامة على المجتمعات العربية الأخرى ـ تعرّض لمجموعة من التجارب السياسية والنظرية دون سابق استعداد أو دراسة أو اتفاق، فظهرت الأفكار اليسارية المصرية التي درست دراسات غربية وضاقت بوجوه النقص في الرأسمالية، ولكنها نقلتها كما عرضها ماركس ولينين، ومعظمها تبع الاتحاد السوفياتي، وقامت فيما بينهم منازعات وشقاقات مذهبية فرّقت شملهم، فضلاً عن أن ما قدّموه كان غريباً كل الغرابة على الأذن العربية، والقلب العربي فلم يظفروا إلا بأعداد قليلة من الناس ولكنهم وهم يسيطرون على الإعلام، استطاعوا أن يؤثّروا على مجموعات من الناس وعلى قدر من الرأي العام.
وبالطبع فإن الفكر الإسلامي كان أسبق الجميع، واكتسب الشارع المصري بفضل عبقرية ونبوغ حسن البنا وموهبته الفريدة في تنظيم الإخوان المسلمين وكان يرجى منها خيراً كثيراً، ولكن الإخوان خسروا مرشدهم عام 1949، ثم توالت الأحداث وقامت حركة 23 يوليو وحدث الصدام بينها وبين الإخوان، فصمت الإخوان حينا وحُظِرَ نشاطهم العلني بينما ظهرت الجماعات الإسلامية الشاردة التي كوّنت فكرها في سجون عبد الناصر وكردّ لتعذيبه المقيت. وككل الهيئات المتحمسة، دون دراسة عميقة، فقد ضلّلتها الشعارات والتصوّرات وألجأها حظر الحكومات لأن تلوذ بأسلوب العمل السرّي وانساقت في منزلقاته فأضاعت على نفسها ثلاثين عاماً قبل أن تتبيّن خطأ وضلال دعاوي "الحاكمية الإلهية".
وقبيل ذلك، سقط نظام عبد الناصر مع هزيمة 67 المروّعة وسقطت شعارات القومية العربية والناصرية المزعومة، وسمح المجال بقدر من الحرّية وللأخذ بالانفتاح الاقتصادي، فظهرت الرأسمالية المتطفّلة والسماسرة والانتهازيون الذين كوّنوا ثروات طائلة بوضع اليد على أراض "المدن الجديدة" أو بالعمولات أو بالغشّ والتزييف.
وتقبّل المجتمع المصري ذلك لأنه سمح لنفسه بفترة "استرخاء" بعد الحكم الحديدي الصارم لناصر، وتخبّط المجتمع المصري ما بين اقتصاد منفتح دون ضابط أثمر طبقة ثرية متخمة بثروات التطفّل والفساد الاقتصادي وبين نظام سياسي يتشبّث بالسلطة ويتمسّك بتراث عبد الناصر في الحزب الواحد والاستئثار بالسلطة وتقييد المعارضة وتزييف الانتخابات.
نتيجة لهذه التراكمات المتوالية التي كانت كلها تجارب فاشلة، فَقَدَ المجتمع ثقته في الجميع تقريباً، واستسلم واستسلمت المجموعات ذات المستوى الاقتصادي المرتفع للاسترخاء البرجوازي وانساقت وراء نزعة الاستهلاك والاستمتاع بما تقدمه "الفضائيات" من برامج تصل بعضها إلى إباحية الجنس الصريح وما تقدّمه "المول" والسوبر ماركت من سلع مبهرة بينما كان على الأغلبية أن تكدح حتى يمكن أن تكفل لنفسها بقاء وأصبحت تلهث وراء لقمة العيش.
من هنا نعرف أن المجتمع المصري لم يعد واثقاً، كما كان في الأوّل، في التوجّه الإسلامي وإن ظل موجوداً بل وأكثرها شيوعاً، ولكن على غير وضوح وتذبذب ما بين الاتجاهات الانفعالية المتحمسة وما بين الاتجاهات السلفية المحافظة وأن بقية فئات المجتمع لا تتحمس لدعوة تطبيق الشريعة، أو حتى لتقبلها، وقد تعارضها، وأصبح يغلب عليها الإحباط.
المجتمع المصري اليوم غير مهيّأ للتطبيق السليم للشريعة، فمعظم ذوي الاتجاهات الإسلامية هم من السلفيين، وفكرتهم عن الشريعة لا تصلح، وهم يظنّون مع هذا أنهم هم الذين يمثّلون الإسلام ويقاومون كل اتجاه للتجديد أو الإصلاح، أما بقية شرائح المجتمع فهي تتوزّع ما بين طبقه "الأثرياء الجدد" ومن حولهم، وقد كوّنوا لأنفسهم طوال العشرين عاماً الماضية، وجوداً وكيانا وهيمنة على الصحافة والإعلام، وما بين فلول الناصرية واليسارية والقومية ممن يعوّضون فشل نظرياتهم بالتعصّب والادّعاءات..
لهذا سيكون على الشريعة أن تسير طويلاً في دعوتها قبل أن تصل إلى مجموعات لها ثقل تؤمن بها. وأن تواجه صعوبات وعراقيل معارضة لأن هذه المهمّة هي في حقيقتها تجاوز الأطر السلفية إلى فهم جديد للعقيدة والشريعة، ومنظومة المعرفة الإسلامية، وليست هذه بالمهمة الهيّنة أو السريعة.
فإذا أريد تطبيق الشريعة فلا بدّ أولاً من تقديم الصورة السليمة لها والتي تختلف جذريا عما يقدمه الفقه السلفي بقدر ما تختلف عما تقدمه الانبعاثات الجهادية، ثم عليها بعد ذلك أن تسير طويلاً على طريق الدعاة لتكسب لفكرتها عن الشريعة جمهوراً له وزن وثقل ويعتدّ به كمّاً ونوعاً، وكما هو معروف فإن هذا ليس بالأمر الهين أو الذي يمكن إنجازه في وقت قصير.
فلابد من إيجاد دولة الإسلام أولاً في نفس كل فرد لتوجد بعد ذلك على أرض الواقع..وهذا ما فعله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مدى ثلاثة عشر عاماً هي عمر الدعوة في مكة.
الخوف دولياً ومحليا من الدولة الدينية
والدعوة إلى إقامة دولة مدنية
الخوف يوجد ـ ليس فحسب ـ على المستوى القومي، بل على المستوى الدولي خوف من إقامة دولة دينية في بلد مثل مصر أو سوريا أو العراق. وقد تقبّل المجتمع الأوروبي على مضض دولات دينية مثل إسرائيل وإيران والسعودية، وكان هناك في كل حالة من هذه الحالات ما يشفع لها أو يتقبلها قبول الأمر الواقع، ويغلب أن لو قامت في مصر دولة دينية، أن لا تتقبّل القوى الخارجية ذلك، وستكيد لها بحيث لا يستقرّ أمرها.
والحقيقة أن تطبيق الشريعة يمكن أن لا يؤدّي إلى إقامة الدولة الدينية، لأن الشريعة هي مجموعة الأحكام التي يقتضيها العدل ويسعى الشعب لتطبيقها بالوسائل المتاحة داخل النظام وفي الدولة المدنية.
ولكن هذه الحقيقة انسحقت تماماً تحت ضغط الفكرة المتأصلة لدى الجماعات الإسلامية عن أن الشريعة تساوي الدولة..وهذا خطأ جسيم بحيث أصبح هذا الخطأ هو الأمر المسلّم به من الجميع، أي من الجماعات الإسلامية وغيرهم.
ويتطلّب اقتلاع فكرة "الدولة الدينية" من الأذهان جهداً جباراً ومتّصلاً يقوم على مبدأين، أوّلهما أن تطبيق الشريعة في حدّ ذاته لا يعنى الدولة الدينية كما أشرنا، والمبدأ الثاني أن الدولة الدينية ليست من الإسلام أصلاً.