الرد على سؤالهم كيف تقولون بتواتر القرآن رغم أن أسانيد قراءات القرآن تنتهى عند القراء العشر ؟
ادعى المغرضون أن القرآن غير متواتر مستدلين بأن أسانيد قراءات القرآن تنتهي عند القراء العشر و كأنهم فهموا من انحصار أسانيد قراءات القرآن إلى عدد معين أن القرآن لم يجيء عن غيرهم ، و هذا ينم عن جهلهم بعلوم القرآن خاصة علم القراءات .
و القرآن الكريم رواه جمع عن جمع يستحيل العادة تواطؤهم على الكذب فقد رواه عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مئات الصحابة و رواه عن مئات الصحابة آلاف التابعين و هكذا إلى أن وصل إلينا ، و أسانيد القراءات القرآنية ما هي إلا غيض من فيض من الأسانيد .
وقد اشتهر بإقراء الناس القرآن، وتعريفهم أوجه قراءته طائفة من الصحابة قد احتجزوا عن الخروج إلى ميادين الفتح؛ ليعلموا الناس ويفقهوهم في دينهم، ويقرئوهم القرآن الكريم .
ومن هؤلاء عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب فارس الإسلام، احتجز عن الجهاد بالسيف؛ ليكون له جهاد العلم والقرآن, وأُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء .
وعن هؤلاء أخذ كثيرون من الصحابة والتابعين، وأقرءاهم القرآن بوجوه القراءات، وكلها يتفق مع المكتوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولما أخذ المقرئون للقرآن من الصحابة ينقرضون حمل التابعون ذلك العبء الكريم، فقاموا بحقه، ويظهر أنَّ المقرئ كان يقرئ طالب القرآن القراءات كلها، ويختار منها ما يطوع له لسانه من غير إعوجاج، فكان الصحابة وكبار التابعين يقرءون بالأوجه كلها، ولكن يختار المستحفظ ما يقوى عليه لسانه .
وفي آخر عصر التابعين خلَّف من بعد قراء الصحابة والتابعين خلف طيب، وجد التخصص في قراءة من القراءات أولى من حفظ جميعها، فإنه إذا كان ذلك في طاقة الصحابة ومن داناهم من كبار التابعين، فمن وراءهم دون ذلك؛ إذ أخذت الطبيعة العربية تضعف عن حمل العبء كاملًا، فعني من أفاضل القراء من صغار التابعين، وتابعي التابعين برواية كلِّ واحد منهم قراءة واحدة؛ ليسهل عليه نطقها، ورووها متواترة، فكانت الرِّحَال تشَدُّ إليهم يتلقَّون عنهم، ويأخذون بما يقرئه كل واحد .
واشتُهِر من هؤلاء الذين خلفوا عهد الحفاظ من الصحابة الذين كانوا يقرئون الناس من صحابة وتابعين - اشتهر سبعة كانوا من بعد أئمة القراء .
وهم : عبد الله بن عامر المتوفَّى سنة 118هـ، وعبد الله بن كثير المتوفَّى سنة 120هـ، وعاصم بن مهدلة الأسدي المتوفَّى سنة 128هـ، وأبو عمرو بن العلاء شيخ الرواة المتوفَّى سنة 154هـ، وحمزة بن حبيب الزياد العجلي المتوفَّى سنة 156هـ، ونافع بن نعيم المتوفَّى سنة 169هـ، وعلي بن حمزة الكسائي إمام الكوفيين المتوفَّى سنة 159هـ، وقراءات هؤلاء السبعة هي المتفق عليها التي نالت الإجماع، ولكل واحدة منها سندها المتصل المتواتر، وطريقه، وهو محفوظ في علم القراءات، وأجمع المسلمون على التواتر فيها .
وقد ألحق علماء القراءات وأهل الخبرة فيها ثلاثة غيرهم صحت قراءتهم، وثبت تواترها، وهم: أبو جعفر يزيد بن القعقاع المتوفَّى سنة 132هـ، ويعقوب بن إسحاق الحضري المتوفَّى سنة 185هـ، وخلف بن هشام .
وقراءات هؤلاء بإضافتها إلى القراءات السبع تكون عشرة كاملة[1] .
و تواتر قراءات العشرة ليس عن طريق ما دوّن في الأسانيد، لأنها ترجع إلى عدد محصور، ولكن إذا نظرت إلى أن هذا العدد المحصور لم يختص بها، بل كانت روايته هذه يقرأ بها غيره ممن لا حصر لهم- غاية الأمر أن المدوّنين اقتصروا على هؤلاء ليضبطوا ما دوّنوه ويحرروه- فإنك تعلم قطعا أنها كانت متواترة ولا تزال متواترة .
فليست القراءات كالحديث مخرجها كمخرجه إذا كان مدارها على واحد كانت آحادية- ليس الأمر كذلك- ولكنها إنما نسبت إلى ذلك الإمام اصطلاحا، وإلا فأهل كل بلدة كانوا يقرءونها أخذوها أمما عن أمم، ولو انفرد واحد بقراءة دون أهل العلم بالقراءات لم يوافقه على ذلك أحد، بل كانوا يجتنبونها ويأمرون باجتنابها [2].
و لنضرب مثلا رواية حفص عن عاصم عن أبي عبد الرحمن السُلمي عن عبد الله ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ليس معنى هذا السند تفرد حفص بالرواية عن عاصم فقد روى عن عاصم خلق كثير ،و ليس معنى هذا السند تفرد عاصم بالرواية عن أبي عبد الرحمن السُلمي فقد أقرأ أبو عبد الرحمن السُلمي خلق كثير ،و ليس معنى هذا السند تفرد أبي عبد الرحمن السُلمي بالرواية عن ابن مسعود فقد أقرأ ابن مسعود خلق كثير .
و قال ابن الجزري – رحمه الله - : « إِضَافَةُ الْحُرُوفِ وَالْقِرَاءَاتِ إِلَى أَئِمَّةِ الْقِرَاءَةِ وَرُوَاتِهِمُ الْمُرَادُ بِهَا أَنَّ ذَلِكَ الْقَارِئَ وَذَلِكَ الْإِمَامَ اخْتَارَ الْقِرَاءَةَ بِذَلِكَ الْوَجْهِ مِنَ اللُّغَةِ حَسْبَمَا قَرَأَ بِهِ، فَآثَرَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَدَاوَمَ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُ حَتَّى اشْتَهَرَ وَعُرِفَ بِهِ، وَقُصِدَ فِيهِ، وَأُخِذَ عَنْهُ ; فَلِذَلِكَ أُضِيفَ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ إِضَافَةُ اخْتِيَارٍ وَدَوَامٍ وَلُزُومٍ لَا إِضَافَةَ اخْتِرَاعٍ وَرَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ »[3] .
و قال شهاب الدين الدمياطي – رحمه الله - : « فإن قيل : الأسانيد إلى الأئمة وأسانيدهم إليه - صلى الله عليه وسلم- على ما في كتب القراءات أحاد لا تبلغ عدد التواتر؟ أجيب بأن انحصار الأسانيد المذكورة في طائفة لا يمنع مجيء القراءات عن غيرهم, وإنما نسبت القراءات إليهم لتصديهم لضبط الحروف وحفظ شيوخهم فيها, ومع كل واحد منهم في طبقته ما يبلغها عدد التواتر »[4] .
و قد حكى ابن الجزري – رحمه الله – عن شمس الدين محمد بن أحمد الخطيب بيبرود الشافعي– أنه قال : « معذور أبو شامة حيث إن القراءات كالحديث مخرجها كمخرجه إذا كان مدارها على واحد كانت آحادية وخفي عليه أنها نسبت إلى ذلك الإمام اصطلاحا وإلا فكل أهل بلدة كانوا يقرؤنها أخذوها أمما عن أمم ولو انفرد واحد بقراءة دون أهل بلده لم يوافقه على ذلك أحد بل كانوا يجتنبونها ويأمرون باجتنابها » .
ثم قال ابن الجزري – رحمه الله – : « صدق ومما يدل على هذا ما قال ابن مجاهد قال لي قنبل قال لي القواس في سنة سبع وثلاثين ومائتين: الق هذا الرجل -يعني البزي- فقل له: هذا الحرف ليس من قراءتنا يعني "وما هو بميت" [إبراهيم: 17] مخففا وإنما يخفف من الميت من قد مات ومن لم يمت فهو مشدد, فلقيت البزي فأخبرته فقال لي: قد رجعت عنه.
وقال محمد بن صالح؛ سمعت رجلا يقول لأبي عمرو: كيف تقرأ ﴿ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾ [الفجر: 26] فقال: لا يعذب بالكسر. فقال له الرجل: كيف وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم- "لا يعذب" بالفتح؟ فقال له أبو عمرو: لو سمعت الرجل الذي قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم- ما أخذته عنه، وتدري ما ذاك؟ لأني أتهم الواحد الشاذ إذا كان على خلاف ما جاءت به العامة.
قال الشيخ أبو الحسن السخاوي : وقراءة الفتح أيضا ثابتة بالتواتر. قلت: صدق لأنها قراءة الكسائي.
قال السخاوي: وقد تواتر الخبر عند قوم دون قوم وإنما أنكرها أبو عمرو لأنها لم تبلغه على وجه التواتر .
قلت : وهذا كان من شأنهم على أن تعيين هؤلاء القراء ليس بلازم ولو عين غير هؤلاء لجاز، وتعيينهم إما لكونهم تصدوا للإقراء أكثر من غيرهم أو لأنهم شيوخ المعين كما تقدم ومن ثم كره من كره من السلف أن تنسب القراءة إلى أحد، روى ابن أبي داود عن إبراهيم النخغي قال: كانوا يكرهون سند فلان وقراءة فلان »[5] .
[1]- المعجزة الكبرى القرآن ص 26
[2] - الموسوعة القرآنية المتخصصة ص 318
[3] - النشر في القراءات العشر لابن الجزري 1/52
[4] - إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربعة عشر لشهاب الدين الدمياطي ص 9
[5] - منجد المقرئين ومرشد الطالبين لابن الجزري ص 79