طوال 13 سنة من الدعوة فى مكة
ماذا نال رسول الله :salla-s: من الدعوة ؟
هل مثلا تبعه الناس فأصبح لهم ملكا و حاكما ؟
هل جمع مالا كثيرا من دعوته ؟
أم أنه :salla-s: لم ينله إلا الأذى و التكذيب ؟
لنقرأ معا من كتب السيرة
نقرأ من كتاب نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين
و لاقى أتباع النبي محمد :salla-s: اضطهادا عنيفا حتى هاجروا للحبشة مرتيناقتباس:
ولما جهر رسول الله عليه الصلاة والسلام بالدعوة سَخِرت منه قريش واستهزؤوا به في مجالسهم فكان إذا مرَّ عليهم يقولون: هذا ابن أبي كبشة يُكلَّم من السماء، وهذا غلام عبد المطلب يُكلم من السماء لا يزيدون على ذلك، فلما عاب آلهتهم، وسَفّهَ عقولهم وقال لهم: «والله يا قوم لقد خالفتم دين أبيكم إبراهيم»، ثارت في رؤوسهم حمية الجاهلية غَيْرَةً على تلك الآلهة التي كان يعبدها آباؤهم، فذهبوا إلى عمه أبي طالب سيد بني هاشم الذي أخذ على نفسه حمايته من أيدي أعدائه، فطلبوا منه أن يُخلي بينهم وبينه أو يكفّه عمّا يقول، فردّهم ردّاً جميلاً فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله لما يريده لا يصده عن مراده شيء، فتزايد الأمر، وأضمرت قريش الحقد والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحث بعضهم بعضاً على ذلك. ثم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى وقالوا له: إن لك سناً وشرفاً ومنزلة منّا، وإنّا قد طلبنا منك أن تنهى ابن أخيك فلم تَنْهَهُ عنّا، وإنّا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه عقولنا، وعيب آلهتنا. فإنهم كانوا إذا احتجوا بالتقليد في استمرارهم على عدم اتّباع الحق ذمّهم لعدم استعمال عقولهم فيما خُلقت له. قال تعالى في سورة البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَآءنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ(170) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ(104) وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(21) قَالَ مُتْرَفُوهَآ
إِنَّا وَجَدْنَآ ءابَآءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (الزخرف: 23). ولما شبّههم بمن قبلهم من الأمم في هذه المقالة الدّالة على التعصب والعناد قال: {قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءابَآءكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(24)
الإيذاء
ورأى رسول الله من المشركين كثير الأذى وعظيم الشدّة، خصوصاً إذا ذهب إلى الصلاة عند البيت، وكان من أعظمهم أذًى لرسول الله جماعة سمّوا لكثرة أذاهم بالمستهزئين.
فأوّلهم وأشدّهم: أبو جهل عمروبن هشامبن المغيرة المخزومي القرشي، قال يوماً: يا معشر قريش إِنَّ محمداً قد أتى ما ترون من عيب دينكم وشتم آلهتكم، وتسفيه أحلامكم، وسبّ آبائكم، إني أُعاهد الله لأجلسنّ له غداً بحجر لا أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته رضَختُ به رأسه فأَسْلِمُوني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، فلما أصبح أخذ حجراً كما وصف، ثم جلس لرسول الله ينتظره، وغدا عليه الصلاة والسلام كما كان يغدو إلى صلاته، وقريش في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعِل، فلما سجد عليه الصلاة والسلام احتمل أبو جهل الحجر وأقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه من الفزع ورمى حجره من يده. فقام إليه رجال من قريش فقالوا: ما لكَ يا أبا الحَكَم؟ قال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم، فلما دنوت منه عرض لي فحل من الإبل والله ما رأيت مثله قطّ هَمَّ بي أن يأكلني، فلما ذُكر ذلك لرسول الله قال: ذاك جبريل ولو دنا لأخذه. وكان أبو جهل كثيراً ما ينهى الرسول عن صلاته في البيت فقال له مرة بعد أن رآه يصلي: ألم أنهك عن هذا؟ فأغلظ له رسول الله القول وهدده، فقال: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً؟ فأنزل الله تهديداً له في آخر سورة اقرأ: كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ(15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ(16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ(17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ(18) كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب نَادِيَهُ(19)
ومن أذيته للرسول ما حكاه عبد اللهبن مسعود من رواية البخاري قال: كنا مع رسول الله في المسجد وهو يصلي، فقال أبو جهل: ألا رجل يقوم إلى فَرْث جزور بني فلان فيلقيه على محمد وهو ساجد؟ فقام عقبةبن أبي مُعَيطبن أبي عمروبن أميةبن عبد شمس، وجاء بذلك الفرث، فألقاه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فلم يقدر أحد من المسلمين الذين كانوا بالمسجد على إلقائه عنه لضعفهم عن مقاومة عدوهم، ولم يزل عليه الصلاة والسلام ساجداً حتى جاءت فاطمة بنته فأخذت القذر ورمته. فلما قام دعا على مَنْ صنع هذا الصنع القبيح فقال: «اللهمّ عليك بالملأ من قريش» وسمّى أقواماً، قال ابن مسعود: فرأيتهم قُتلوا يوم بدر.
ومما حصل لرسول الله مع أبي جهل أن هذا ابتاع أجمالاً من رجل يقال له الإراشي فمطله بأثمانها فجاء الرجل مجمع قريش يريد منهم مساعدة على أخذ ماله، فدلّوه على رسول الله ليُنصفه من أبي جهل استهزاء لما يعلمونه من أفعال ذلك الشقي بالرسول، فتوجه الرجل إليه وطلب منه المساعدة على أبي جهل فخرج معه حتى ضرب عليه بابه فقال: مَنْ هذا؟ قال: محمد، فخرج منتقعاً لونه فقال له الرسول: أعطِ هذا حقه، فقال أبو جهل: لا تبرحْ حتى تأخذه، فلم يبرح الرجل حتى أخذ دَيْنه، فقالت قريش: ويلك يا أبا الحكم ما رأينا مثل ما صنعت قال: ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب عليَّ بابي حتى سمعت صوته فملئت منه رعباً، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسي فحلاً من الإِبل ما رأيت مثله.
ومن جماعة المستهزئين: أبو لهببن عبد المطلب، عمّ رسول الله كان أشدّ عليه من الأباعد، فكان يرمي القذر على بابه لأنه كان جاراً له، فكان الرسول يطرحه ويقول: يا بني عبد مناف أيُّ جوار هذا؟ وكانت تشاركه في قبيح عمله زوجه أُمّ جميل بنت حرببن أمية، فكانت كثيراً ما تسبّ رسول الله، وتتكلم فيه بالنمائم، وخصوصاً بعد أن نزل فيها وفي زوجها سورة أبي لهب.
ومن المستهزئين: عُقبةبن أبي مُعيط كان الجار الثاني لرسول الله، وكان يعمل معه كأبي لهب، صنع مرة وليمة ودعا لها كبراء قريش وفيهم رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: «والله لا آكل طعامك حتى تؤمن بالله»، فتشهَّد فبلغ ذلك أُبيّبن خلف الجُمحي القرشي، وكان صديقاً له فقال: ما شيء بلغني عنك؟ قال: لا شيء، دخل منزلي رجل شريف فأبى أن يأكل طعامي حتى أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يَطعم فشهدت له. قال أُبيّ: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً فلم تطأ عنقه، وتبزق في وجهه، وتلطم عينه، فلما رأى عقبة رسول الله فعل به ذلك فأنزل الله فيه في سورة الفرقان: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً(27) ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً(28) لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً(29) أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِن رَّبّكُمْ} (غافر: 28).
ومن جماعة المستهزئين: العاصبن وائل السهمي القرشي والد عمروبن العاص، كان شديد العداوة لرسول الله، وكان يقول: غرَّ محمد أصحابه أن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر، فقال الله ردّاً عليه في دعواه في سورة الجاثية: {وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ(24) أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً(77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَانِ عَهْداً(78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً(79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً(80)
ومن جماعة المستهزئين: الأسودبن عبد يغوث، الزهري، القرشي، من بني زهرة، أخوال رسول الله، كان إذا رأى أصحاب النبي مقبلين يقول: قد جاءكم ملوك الأرض، استهزاءً بهم لأنهم كانوا متقشفين، ثيابهم رثّة، وعيشهم خشن، وكان يقول لرسول الله سخرية: أما كُلِّمْتَ اليوم من السماء؟
ومنهم: الأسودبن عبد المطلب الأسدي، ابنُ عم خديجة، كان هو وشيعته إذا مرّ عليهم المسلمون يتغامزون وفيهم نزل في سورة المطفِّفِيْن: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ(29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ(30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ(31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَآلُّونَ(32)
ومنهم: الوليدبن المغيرة، عم أبي جهل، كان من عظماء قريش وفي سعة من العيش، سمع القرآن مرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لقومه بني مخزوم: والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنَّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمُثمر، وإن أسفله لمُغدق، وإنه يعلو وما يُعلى، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، لتصبأنَّ قريش كلها، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه. فتوجه وقعد إليه حزيناً وكلّمه بما أحماه، فقام فأتاهم فقال: تزعمون أن محمداً مجنون فهل رأيتموه يُهوِّس؟ وتقولون: إنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن؟ وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قطّ؟ وتزعمون أنه كذَّاب، فهل جرّبتم عليه شيئاً من الكذب؟ فقالوا في كل ذلك: اللهمّ لا، ثم قالوا: فما هو؟ ففكَّر قليلاً ثم قال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ فارتجّ النادي فرحاً فأنزل الله في شأن الوليد في سورة المدّثر مخاطباً لرسوله: ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً(11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً(12) وَبَنِينَ شُهُوداً(13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً(14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ(15) كَلاَّ إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً(16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً(17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20) ثُمَّ نَظَرَ(21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23) فَقَالَ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24) إِنْ هَاذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ(25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26)
وأنزل فيه أيضاً في سورة ن: ولا تطع كل حلاف} كثير الحلف وكفى بهذا زاجراً لمن اعتاد الحلف مَهِيْنٍ} حقير وأراد به الكذاب لأنه حقير في نفسه هَمَّازٍ} عيّاب طعان مَشَّاءٍ بنَمِيْمٍ} بنقل الأحاديث للإفساد بين الناس مَنَّاعٍ لِلخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثيْمٍ عُتُلَ} غليظ جاف بَعدَ ذَلك زَنِيْمٍ} دخيل أَنْ كانَ ذَا مَالٍ وَبَنينَ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آيَاتُنا قَالَ أَساطِيْرُ الأَوَّليْنَ، سَنَسِمُهُ على الخُرطُومِ} كناية عن الإذلال والتحقير لأن الوجه أكرم عضو والأنف أشرف ما فيه، ولذلك اشتقوا منه كلَّ ما يدل على العظمة، كالأنفة وهي: الحمية. فالوسم على أشرف عضو دليل الإذلال والإهانة.
ومن المستهزئين: النضربن الحارث العبدري من بني عبد الداربن قصي. كان إذا جلس رسول الله مجلساً للناس يحدّثهم ويذكرهم ما أصاب مَنْ قبلهم، قال النضر: هلمّوا يا معشر قريش فإني أَحْسَنُ منه حديثاً ثم يحدِّث عن ملوك فارس، وكان يعلم أحاديثهم، ويقول: ما أحاديث محمد إلا أساطير الأوّلين وفيه نزل في سورة لقمان: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ(6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(7) } الْمُسْتَهْزِءينَ(95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ(96)
اقتباس:
وكما أُوذي الرسول عليه الصلاة والسلام، أُوذي أصحابه لاتّباعهم له، خصوصاً من ليس له عشيرة تحميه، وتردّ كيد عدوه عنه، وكل هذا الأذى كان حلواً في أعينهم ما دام فيه رضاء الله، فلم يفتنوا عن دينهم بل ثبتهم الله حتى أتمّ أمره على أيديهم، وصاروا ملوك الأرض بعد أن كانوا مستضعفين فيها، كما قال جلّ ذكره في سورة القصص: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الاْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(5)
ومن الذين أُوذوا في الله: بلالبن رباح كان مملوكاً لأميّةبن خلف الجمحي القرشي، فكان يجعل في عنقه حبلاً ويدفعه إلى الصبيان يلعبون به، وهو يقول: أَحَدٌ أَحَدٌ. لم يَشْغَلْهُ ما هو فيه عن توحيد الله. وكان أمية يخرج به في وقت الظهيرة في الرمضاء ــــ وهي الرمل الشديد الحرارة لو وضعت عليه قطعة لحم لَنَضجَتْ ــــ ثم يؤمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزّى، فيقول: أحد أحد. مرَّ به أبو بكر يوماً فقال: يا أمية أما تتقي الله في هذا المسكين، حتى متى تعذبه؟ قال: أنت أفسدته فأنقذْه مما ترى. فاشتراه منه وأعتقه فأنزل الله فيه وفي أمية في سورة الليل: فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى(14) لاَ يَصْلَاهَآ إِلاَّ الاْشْقَى(15) الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى(16) وَسَيُجَنَّبُهَا الاْتْقَى(17) الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى(18) وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَى(19) إِلاَّ ابْتِغَآء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى(20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى(21) } (الليل: 14 ــــ 21) بما يعطيه الله في الأخرى جزاء أعماله. وقد نبّه الله جلّ ذكره على أن بذل الصديق ماله في شراء بلال وعتقه لم يكن إلا ابتغاء وجه ربه، وكفى بهذا شرفاً وفضلاً للصدّيق رضي الله عنه وأرضاه، وقد أعتق غير بلال جماعة من الأرقاء أسلموا فعذبهم مواليهم.
ومنهم: حَمَامَةُ أُم بلال، وعامربن فُهَيرة كان يعذب حتى لا يدري ما يقول، وأبو فُكَيهة، كان عبداً لصفوانبن أميةبن خلف.
ومنهم امرأة تسمى زنيرة عذّبت في الله حتى عميت فلم يزدها ذلك إلا إيماناً، وكان أبو جهل يقول: ألا تعجبون لهؤلاء وأتباعهم؟ لو كان ما أتى به محمد خيراً ما سبقونا إليه أفتسبقنا زنيرة إلى رشد؟ فأنزل الله في سورة الأحقاف: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ(11)
وممّن عُذب في الله: عماربن ياسر، وأخوه، وأبوه، وأمه، كانوا يعذبون بالنار فمرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «صبراً آل ياسر فموعدكم الجنة، اللهمّ اغفر لآل ياسر وقد فعلت». أما أبو عمار وأمه فماتا تحت العذاب رحمهما الله، وأما هو فثقل عليه العذاب فقال بلسانه كلمة الكفر، فإن أبا جهل كان يجعل له دروعاً من الحديد في اليوم الصائف ويلبسه إيّاها، فقال المسلمون: كفر عمار، فقال عليه الصلاة والسلام: «عمارٌ ملىء إيماناً من فرقه إلى قدمه» وأنزل الله في شأنه استثناءً في حكم المرتد، فقال جلّ ذكره في سورة النحل: مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(106)
وممّن أوذي في الله: خبَّاببن الأرَتِّ، سُبي في الجاهلية فاشترته أُم أنمار، وكان حداداً وكان النبي يألفه قبل النبوّة، فلما شرّفه الله بها أسلم خباب، فكانت مولاته تعذبه بالنار فتأتي بالحديدة المحمّاة فتجعلها على ظهره ليكفر فلا يزيده ذلك إلا إيماناً. وجاء خباب مرة إلى رسول الله وهو متوسد بُرْدَة في ظل الكعبة، فقال: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟ فقعد عليه الصلاة والسلام محمرّاً وجهه فقال: «إنه كان مَنْ قبلكم ليمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، ويوضع المنشار على فرق رأس أحدهم فيشقّ، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليظهرن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئبَ على غنمه». قال ذلك عليه الصلاة والسلام وهو في هذه الحال الشديدة التي لا يتصور فيها أعقل العقلاء، وأنبل النبلاء، قوة منتظرة أو سعادة مستقبلة، اللهمّ إلا أن ذلك وحي يوحى إليه، ثم أنزل الله تعالى تثبيتاً للمؤمنين أول سورة العنكبوت: الم(1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ(2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ :3 } (العنكبوت: 1 ــــ 3).
وممّن أُوذي في الله: أبو بكر الصديق، ولما اشتد عليه الأذى أجمع أمره على الهجرة من مكة إلى جهة الحبشة، فخرج حتى أتى برْكَ الغِماد فلقيه ابن الدُّغُنَّة (وهو سيد قبيلة عظيمة اسمها القَارَةُ) فقالَ: إلى أين يا أبا بكر؟ فقال: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، فقال ابن الدغنة: مِثْلُك يا أبا بكر لا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتَصِل الرَحم وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، فارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل ابن الدغنة معه، وطاف في أشراف قريش، فقال لهم: أبو بكر لا يُخْرَجُ مثله. أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويُعين على نوائب الحق؟ فلم تُكذِّب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا له: مُرْ أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصلِّ فيها ما شاء، وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن، فإِنّا نخشى أن يفتِن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بِفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه. وكان رجلاً بكَّاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا: إنّا كنّا قد أجَرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجداً بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإِنّا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فإن أحبّ أن يقتصر على أن يعبد ربه بفناء داره فعل، وإن أبي إلاّ أن يعلن ذلك فَسَلْه أن يردّ إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نُخْفِرَكَ ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان. فأتى ابن الدغنة أبا بكر، فقال: لقد علمتَ الذي عاقدتُ لك عليه. فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن تُرْجع إليّ ذمتي، فإني لا أُحب أن تسمع العرب
أني أُخْفِرْتُ في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أردّ عليك جوارك وأرضى بجوار الله. رواه البخاري. وكان ذلك سبباً لإيصال أذى عظيم إلى أبي بكر رضي الله عنه.
وبالجملة فلم يخل أحد من المسلمين من أَذِيّةٍ لحقته، ولكن كل ذلك ضاع سدًى تلقاء ثباتهم وعظيم إيمانهم، فإنهم لم يسلموا لغرض دنيوي يرجون حصوله فيسهل إرجاعهم، ولكن وفقهم الله لإدراك حقيقة الإيمان فرأوا كل شيء دونه سهلاً.