بقلم: عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف
أحد تلاميذ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله-
ماذا أقول وقد غاب كوكب منير من كواكب الدنيا؟ لقد أصابتني غصة، وفاضت دمعة حرى حينما سمعت نبأ انتقال والدنا وشيخنا الفاضل إلى دار البقاء إنه الشيخ العالم الجليل عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي وهب حياته وجاه وماله خدمة للعلم وتنويراً لطلابه وتبصيراً للعامة والخاصة وعوناً فيما يعتريهم من حيرة وحل مشاكل سواء دينية أو اجتماعية أو مادية، فوقته نهر جار يغترف منه القاصي والداني، أو غيمة ضافية تهمي على السهول والآكام:
كالبدر من حيث التفت رأيته
وضوؤه للعصبة السارين جدُ قريب
ومجلسه -رحمه الله- معمور بذكر الله وتلاوته ما ينفع المسلمين مع إفادة المسلمين السائلين منهم من فتاوى وإرشادات دينية ومسلكية لا تسمع تمجيداً للدنيا ولا لشيء من زخارفها في حضرته. فهو قمة في حفظ الوقت والزهد في الحطام الفاني، بيته مأوى للأضياف والفقراء ولطلاب العلم يشاركهم في تناول طعام الغداء والعشاء
وخاصة من الذين يفدون إلى هذه البلاد من أواسط وأطراف المعمورة، ولا سيما في مواسم الحج والعمرة يحدوهم الأمل في الالتقاء به ليزدهم تبصراً في دينهم وتصحيحاً لمعتقداتهم فأبوابه مفتوحة دائماً سواء على المستوى الرسمي أو الشخصي:
إذا جئته لم تلق من دون بابه
حجاباً ولم تدخل عليه بشافع!
والبعض يأتون إليه طمعاً في عطفه ومساعدته لهم والتعريف بحالهم لدى المحسنين وولاة الأمور الذي لا يردون طلباً ولا شفاعة من سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز لمثل هؤلاء المساكين بل إنهم يفرحون ويبذلون بيد سخية رغبة في المثوبة والأجر من الوالي وكأني بلسان حال الشيخ يخاطب الوالي بترديد هذين البيتين:
وأفضل الناس ما بين الورى رجلٌ
تُقضى على يده للناس حاجاتُ
واشكر فضائل صنع الله إذا جعلت
إليك لا لك عند الناس حاجاتُ
فالشيخ له مكانة عالية ومحبة صادقة في قلوبنا بل المسلمين عموماً، وقلَّ أن يجمع على محبة شخص، فنرجو أن يكون ذلك علامة رضا ومحبة من الله له:
تخالف الناس إلا في محبته
كأنما بينهم في وده رحم
ونحن نغبط على مثل هذا العالم الفذ -تغمده الله بواسع رحمته- ويحسن بنا أن نذكر هذا البيت كتهنئة لتلاميذه ومن تتلمذ عليهم:
سعدت أعيّن رأتك وقرت
والعيون التي رأت من رآكا
فتعدد محاسنه وفضائله ومكارم أخلاقه لا يسهل حصرها على مثلي، ولقد أحسن الشاعر ابن دريد حيث يقول:
لا يأمن العجز والتقصير مادحه
ولا يخاف على الإطناب تكذيباً
ودت بقاع بلاد الله لو جعلت
قبراً له فحباها جسمه طيباً
كانت حياتك للدنيا وساكنها
نوراً فأصبح عنها النور محجوباً
وسيظل النور نور العلم والمعرفة ساطعاً بحول الله وقدرته على تعاقب الدهور والأزمان وعزاؤنا في ذلك كله أنه خلف ذرية صالحة، وتلاميذ بررة من خيرة العلماء الأفاضل، ونحن على يقين أنهم سيحذرون حذوه برحابة الصدر والصبر على ثقل المسؤولية المنوطة بهم، والتضحية بالوقت وبالمال لمن يستحقه من أبناء المسلمين سواء من الداخل أو الخارج، ونذكرهم بقول طرفة بن العبد:
لعمرك ما الأيام إلا معارة
فما سطعت من معروفها فتزود
ونختم هذه الأسطر التي معظمها شواهد شعرية تنطبق على مثل شيخنا بهذين البيتين:
فرب ضرير قاد جيلاً إلى العلا
وقائده في السير عود من الشجر
وكم كم كفيف في الزمان مشهر
لياليه أوضاح وأيامه غررْ
)إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(.
(*) الرياض: الاثنين 2صفر 1420هـ 17 مايو 1999م - العدد: 1184.
بقلم: عبد العزيز بن عبد الرحمن المقحم
إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، الحمد لله الذي أكرمنا بابن باز وعسى الله أن يأجرنا في فقده ويجزيه عن المسلمين خيراً ويخلفهم خيراً..
الحزن ليس فيه مجاملات.. فحينما نبكي والد الجميع سماحة الشيخ ابن باز فلسنا نبكي رجلاً عادياً مات.. وحينما فقدنا ابن باز لم نفقد مجرد عالم نحتاج لعلمه.. وحينما نتذكر رحيل ابن باز نحسُّ بفراغ كبير لا ندري من يملؤه بعده!
لقد ضمت مقبرة العدل بمكة المكرمة في واحد من قبورها كفناً ملؤه العلم الصحيح والعمل الكثير والكرم العجيب والتواضع الجم ومحبة الخير للمسلمين -نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً-.
كان عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- رجلاً فوق العادة.. جمع الله له خصالاً من الخير قلَّ ما يدرك غيره ثنتين منها معاً، ولعل أبرزها أربع لا يماري فيها من عرف الشيخ، الأولى: علم غزير، حتى إن غيره لا يتقدم بين يديه في الحلال والحرام والصحيح والضعيف.
الثانية: كرم عجيب، قال عنه بعض من عرفه والله لو اجتمع ابن باز وحاتم الطائي لفاقه ابن باز في الكرم.
الثالثة: مشاركة على كل الأصعدة، فالناس العاديون يملون من الهاتف الواحد وهو يستقبل المكالمات من هاتفين بجانبه لا يكفا عن الرنين من هنا تبدأ مشاركته من تحت ركبته إلى أقاصي العالم الإسلامي، وإلى كندا وأستراليا حيث يرسل لهم الفتاوى والدعاة والتبرعات وبينهما مشاركات من كل نوع.. ردود.. ندوات.. محاضرات.. فتاوى.. دروس.. مساعدات.. شفاعات.. حتى يستطيع قائل أن يقول كان ابن باز قبلة في ذلك يؤمها من قدر، ويوصي بها من عجز.. قد يكون هناك من لا يعرف حجم مشاركة ابن باز لكن اسأل عنها المساجد والمشاريع والأيتام والعاملين في الحقل الدعوي والإغاثي.
الرابعة: لين جانب، لسان أرفق من يد الطبيب، ومنطق أرق من الديباج، لا يعرف الكلمة النابية ولا العبارة الفجة فضلاً عن العنف والمعاقبة حتى لم تنقل عنه كلمة واحدة يمكن أن تعد جارحة لمخطئ ولا لمصيب.. بل كان يقال له عن بعضهم إنهم وقعوا في عرضك يا شيخ ونالوا منك فلا يقول آتوني بهم، ولا يشنع بهم، ولا يدعو عليهم، ولا يسكت ويدعهم بل يقول: سامح الله الجميع.. سامح الله الجميع.. فأعجبُ كيف ينالون منه ثم يستغفر لهم!! سئل مرة في
الحلقة فانطلق يجيب فصاح به رجل من الحضور: لا تكلم يا شيخ.. لا تكلم، هذا سيكتب وسينقل!! وربما سئل ابن باز ذلك السؤال مراراً قبل أن يولد ذلك المعترض، فما زاد على أن استجاب وقال يحتاج الأمر إلى مراجعة.
كل واحدة من هذه الجزئيات التي ذكرت لو بسط نصيب الشيخ منها لملأ الأسفار، فلذلك نبكي والدنا الشيخ ابن باز لأنك متى تجد عالماً في معياره وأمثاله يعدون على أصابع اليد الواحدة من مليار مسلم، ثم إذا وجدت عالماً مثله فهل يكون لين الجانب بتلك الدرجة، ثم إذا وجدت عالماً كريماً ليناً فهل يكون مشاركاً للمسلمين بتلك الدرجة لقد كان ابن باز ذلك كله -رحمه الله-.
وفوق ذلك لم تكن فضائل سماحة الوالد تلك الأربع فقط بل كان -رحمه الله- فيما نحسب ولا نزكي على الله أحداً- يضم عباءتُه على العلم والدعوة والكرم واللين ومحبة الخير للمسلمين ومشاركتهم والذكر والصلاة والصيام والتواضع وغيرها من المعالي التي يلفها في عباءته وينشرها حية ملموسة عبر تسعين سنة كل يوم من حياته يزيد فيها ولا ينقص منها فوضع له في الأرض قبول لم نشهد مثله فيما نعلم.. حتى قال بعض الشعراء:
سبحان من جعل القبول منازلاً
وحبا ابن باز منه أعلى منزل
أفلا نبكي على رجل جمع الله له ذلك كله؟ أفلا نبكي من حمل لواء هذه المعالي كلها؟.
لكن مهما شق علينا فراق والدنا فلن نبرح قول ربنا سبحانه: )تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ([(141) سورة البقرة].. والذي يعنينا الآن هو أن نقول ما الذي بلغ ابن باز هذا؟ إنه العلم والعمل!! أفلا يكون فينا من يطمع لمثل ذلك مخلصاً لله وحده؟ أو يربي أبناءه على ذلك؟! والله لو كان ابن باز طبيباً حاذقاً أو مهندساً بارعاً أو مخترعاً عبقرياً أو أياً ما يكون رجلٌ من مواقع الدنيا لم يبلغ ما بلغه من محبة الناس له وجزعهم على موته وشعورهم بفقده.. لكن ورثة الأنبياء شيء آخر، فهكذا أحب الناس الإمام أحمد بن حنبل وحزنوا لموته، وابن تيمية وابن عبد الوهاب وأمثالهم -رحم الله الجميع- وجمعنا بهم في دار كرامته وأكثر في المسلمين أمثالهم وسلك بنا وبكم سبيل الصالحين المصلِحين المصلَحين وذرياتنا والمسلمين.
* الدعوة: العدد 1693 - 12 صفر 1420هـ، 27 مايو 1999م.