(المغالطة الرابعة) إن نسخ الكتب المقدسة كانت منتشرة شرقاً وغرباً فلا يمكن التحريف لأحد كما لا يمكن في كتابكم (أقول): جوابها ظاهر على من طالع المقاصد الثلاثة وجواب المغالطة الأولى، فإذا وقع التحريف بالفعل بإقرارهم فأي محل لعدم إمكانه، وقياس هذه الكتب على القرآن المجيد قياس مع الفارق لأن هذه الكتب قبل إيجاد صنعة الطبع كانت قابلة للتحريف، وما كان اشتهارها بحيث يكون مانعاً عن التحريف، ألا ترى كيف حرف اليهود وملحدو المشرق على ما أقرت به فرقة البروتستنت وفرقة الكاثلك الترجمة اليونانية، مع أن اشتهارها شرقاً وغرباً كان أزيد من اشتهار النسخة العبرانية، وكيف أثر تحريفهم كما علمت في القول التاسع عشر من الهداية الثالثة من جواب المغالطة الأولى بخلاف القرآن المجيد فإن اشتهاره وتواتره كانا في كل قرن من القرون مانِعَيْن عن التحريف، والقرآن في كل طبقة كما كان محفوظاً في الصحائف فكذا كان محفوظاً في صدور أكثر المسلمين، ومن كان شاكاً في هذا الباب فليجرب في هذا الزمان أيضاً لأنه لو رأى المجرب في الجامع الأزهر فقط من جوامع مصر وجد في كل وقت أكثر من ألف شخص يكونون حافظين للقرآن كله على سبيل التجويد التام، ووجد كل قرية صغيرة من قرى الإسلام من مصر لا تخلو عن الحفاظ، ولا يوجد في جميع ديار أوربا في هذه الطبقة من المسيحيين مع فراغ بالهم وتوجههم التام إلى العلوم والصنائع وكونهم أكثر من المسلمين عدداً عدد حفاظ الإنجيل بحيث يساوي عدد الحفاظ الموجودين في الجامع الأزهر فقط، بل لا يكون عددهم في جميع ديار أوربا يبلغ عشرة، ونحن ما سمعنا أحداً أيضاً يكون حافظاً لجميع الإنجيل فقط في هذه الطبقة فضلاً أن يكون حافظاً للتوراة وغيره أيضاً، فجميع ديار أوربا من المسيحيين في هذا الباب ليسوا في مقابلة قرية صغيرة من قرى مصر، وليس الكبار من القسيسين في هذا الأمر خاصة في مقابلة الحمارين والبغالين من أهل مصر، وكان عُزَيْز النبي عليه السلام يُمْدَحُ بحفظ التوراة في أهل الكتاب، ويوجد في الأمة المحمدية في هذه الطبقة أيضاً مع ضعف الإسلام في أكثر الأقطار أزيد من مائة ألف من حفاظ القرآن في جميع ديار الإسلام، وهذا هو الفضل البديهي لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ولكتابهم، وهذا الأمر أيضاً معجزة لنبيهم ترى في كل طبقة من الطبقات.
(حكاية) جاء يوماً أمير من أمراء الإنكليز في مكتب في بلدة سهار تفور من بلاد الهند ورأى الصبيان مشتغلين بتعلم القرآن وحفظه، فسأل المعلم: أي كتاب هذا. فقال: القرآن المجيد، فقال الأمير: أحفظ أحد منهم القرآن كله؟، فقال المعلم: نعم، وأشار إلى عدة منهم فلما سمع استبعد فقال: اطلب واحداً منهم وأعطني القرآن أمتحن، فقال المعلم: اطلب أيهم شئت فطلب واحداً منهم كان ابن ثلاثة عشرة أو أربعة عشر وامتحنه في مواضع فلما تيقن أنه حافظ لجميع القرآن تعجب، وقال: أشهد أنه ما ثبت تواتر لكتاب من الكتب كما ثبت للقرآن، يمكن كتابته من صدر صبي من الصبيان مع غاية صحة الألفاظ، وضبط الأعراب.
وأنا أورد عليك أموراً يزول بها استبعاد وقوع التحريف في كتبهم :
(الأمر الأول) كان موسى عليه السلام كتب نسخة التوراة وسلمها إلى الأحبار وسائر كبراء بني إسرائيل وأوصاهم بمحافظتها ووضعها في جنب صندوق الشهادة وإخراجها إلى الناس بعد كل سبعة سبعة من السنين في يوم العيد لأجل سماع بني إسرائيل، فكانت هذه النسخة موضوعة في جنب الصندوق وكانت الطبقة الأولى على وصية موسى عليه السلام، فلما انقرضت هذه الطبقة تغير حال بني إسرائيل فكانوا يرتدون تارة ويُسْلمون أخرى، وهكذا كان حالهم إلى أول سلطنة داود عليه السلام، وحسنت حالهم في تلك السلطنة وصَدْرَ سلطنة سليمان عليه السلام وكانوا مؤمنين، لكن لأجل الانقلابات المذكورة ضاعت تلك النسخة الموضوعة في جنب الصندوق، ولا يُعْلم جزماً متى ضاعت ولما فتح سليمان الصندوق في عهده ما وجد فيه غير اللَّوْحين اللذين كانت الأحكام العشرة فقط مكتوبة فيهما كما هو مصرح في الآية التاسعة من الباب الثامن من سفر الملوك الأول وهي هكذا: "ولم يكن في التابوت إلا اللوحان الحجريان اللذان وضعهما موسى بحوريت حيث عاهد الرب بني إسرائيل وأخرجهم من أرض مصر" ثم وقع الانقلاب العظيم في آخر سلطنة سليمان عليه السلام على ما تشهد به كتبهم المقدسة بأن ارتد سليمان والعياذ باللّه تعالى في آخر عمره بترغيب الأزواج وعَبَد الأصنام وبنى المعابد لها، فإذا صار مرتد أو وثنياً ما بقي له غرض بالتوراة، وبعد موته وقع انقلاب أعظم وأشد من الأول بأن تفرق أسباط بني إسرائيل وصارت السلطنة الواحدة سلطنتين، فصارت عشرة أسباط في جانب والسبطان في جانب، وصار يوربعام سلطاناً على عشرة أسباط وسميت تلك السلطنة الإسرائيلية، وصار رحبعام بن سليمان سلطاناً على السبطين وسميت تلك السلطنة سلطنة يهودا، وشاع الكفر والارتداد بين السلطنتين لأن يوربعام بعد ما جلس على سرير السلطنة ارتد، وارتدت الأسباط العشرة معه، وعبدوا الأصنام، ومن بقي منهم على ملة التوراة من الكهنة هاجر إلى مملكة يهودا، فهذه الأسباط من هذا العهد إلى مائتين وخمسين سنة كانوا كافرين عابدين الأصنام ثم أبادهم اللّه بأن سلط الأسوريين عليهم فأسروهم وفرقوهم في الممالك، وما أبقوا في تلك المملكة إلا شرذمة قليلة، وعمروا تلك المملكة من الوثنيين فاختلطت هذه الشرذمة القليلة بالوثنيين اختلاطاً شديداً، فتزاوجوا وتناكحوا وتوالدوا وسميت أولادهم السامريين فمن عهد يوربعام إلى آخر السلطنة الإسرائيلية ما كان لهذه الأسباط غرض بالتوراة، وكان وجود نسخ التوراة في تلك المملكة كوجود العنقاء.هذا حال الأسباط العشرة والسلطنة الإسرائيلية.
وجلس على سرير سلطنة يهودا من بعد موت سليمان عليه السلام إلى ثلثمائة واثنتين وسبعين سنة عشرون سلطاناً، وكان المرتدون من هؤلاء السلاطين أكثر من المؤمنين، وشاع عبادة الأصنام في عهد رحبعام ، ووضعت تحت كل شجرة وعُبدت، وفي عهد آخذ بنيت المذابح للبعل في كل جانب وناحية من بلدة أورشليم، وسدت أبواب بيت المقدس وكان قبل عهده نهب أورشليم وبيت المقدس مرتين ففي المرة الأولى تسلط سلطان مصر ونهب جميع أثاث بيت اللّه وبيت السلطان، وفي المرة الثانية تسلط سلطان إسرائيل المرتد ونهب بيت اللّه وبيت السلطان نهباً شديدثم اشتد الكفر في عهد منسا حتى صار أكثر أهل تلك المملكة وثنيين وبنى مذبح الأصنام في فناء بيت المقدس، ووضع الوثن الذي كان يعبده في بيت المقدس، وهكذا كان حال الكفر في عهد آمون ابنه، ولما جلس يوشيا بن آمون على سرير السلطنة تاب إلى اللّه توبة نصوحاً، وكان هو وأراكينه متوجهين لترويج الملة الموسوية، وهدم رسوم الكفر والشرك في غاية الجد والاجتهاد، ولكنه مع ذلك ما رأى أحد ولا سمع وجود نسخة التوراة إلى سبع عشرة سنة من سني سلطنته، ثم ادعى حلقيا الكاهن في العام الثامن عشر من سلطنته أنه وجد نسخة التوراة في بيت المقدس وأعطاها شافان الكاتب، فقرأ على يوشيا فلما سمع يوشيا مضمونه شق ثيابه لأجل الحزن على عصيان بني إسرائيل، كما هو مصرح في الباب الثاني والعشرين من سفر الملوك الثاني، والباب الرابع والثلاثين والسفر الثاني من أخبار الأيام، لكن لا يعتمد على هذه النسخة، ولا على قول حلقيا لأن البيت نهب مرتين قبل عهد آخذ، ثم جعل بيت الأصنام وسدنة الأصنام كانوا يدخلون البيت كل يوم، وما سمع أحد إلى سبعة عشرة عاماً من سلطنة يوشيا أيضاً اسم التوراة، ولا رآه، مع أن السلطان والأمراء والرعايا كانوا في غاية الاجتهاد لاتباع الملة الموسوية، وكانت الكهنة يدخلون كل يوم إلى هذه المدة، فالعجب كل العجب أن تكون النسخة في البيت ولا يراها أحد، فهذه النسخة ما كانت إلا من مخترعات حلقيا فإنه لما رأى توجه السلطان والأراكين إلى اتباع الملة الموسوية، جمعها من الروايات اللسانية التي وصلت إليه من أفواه الناس سواء كانت صادقة أو غير صادقة، وكان إلى هذه المدة في جمعها وتأليفها، فبعد ما جمع نسب إلى موسى عليه السلام، ومثل هذا الافتراء والكذب لترويج الملة وإشاعة الحق كان من المستحبات الدينية عند متأخري اليهود وقدماء المسيحيين كما عرفت، لكني أقطع النظر ههنا عن هذا وأقول إنه وجدت نسخة التوراة في العام الثامن عشر من سلطنة يوشيا وبقيت معمولة إلى ثلاث عشرة سنة مدة حياته، ولما مات وجلس ياهوحاز على سرير السلطنة ارتد وأشاع الكفر وتسلط عليه سلطان مصر وأسره وأجلس أخاه على سرير السلطنة، وهو كان مرتداً أيضاً كأخيه ولما مات جلس ابنه على السرير وكان مرتداً كأبيه وعمه، وأسره بختنصَّر مع جم غفير من بني إسرائيل ونهب بيت المقدس، وكنز بيت الملك، وأجلس عمه على سرير السلطنة، وكان مرتداً أيضاً مثل ابن أخيه - فإذا علمت هذا فأقول: إن تواتر التوراة في اليهود عندي منقطع قبل زمان يوشيا والنسخة التي وجدت في عهده لا اعتماد عليها ولا يثبت بها التواتر، ومع ذلك ما كانت معمولة إلا إلى ثلاث عشرة سنة، وبعدها لم يعلم حالها. والظاهر أنه لما رجع الارتداد والكفر بين أولاد يوشيا زالت قبل حادثة بختنصر وكان وجودها بين أزمنة الارتداد كالطهر المتخلل بين الدمين، ولو فرض بقاؤها أو بقاء نقلها فالمظنون زوالها في حادثة بختنصَّر وهذه الحادثة هي الأولى.
(الأمر الثاني) لما بغى هذا السلطان الذي أجلسه بختنصر عليه فأسره وذبح أولاده قدام عينيه أولاً، ثم قلع عينيه وربطه بالسلاسل وأرسله إلى بابل وأحرق بيت اللّه وبيت الملك وجميع بيوت أورشليم وكل منزل جليل وجميع بيوت الكبراء أحرقها بالنار، وهدم سور أورشليم وأسر سائر شعوب بني إسرائيل وسباهم، وعمر تلك المملكة من مساكين الأرض وضعفائها كرّامين وفلاحين، وهذه هي الحادثة الثانية لبختنصر، وفي هذه الحادثة انعدم التوراة وكذا جميع كتب العهد العتيق التي كانت مصنفة قبل هذه الحادثة عن صفحة العالم رأساً، وهذا الأمر مسلم عند أهل الكتاب أيضاً كما عرفت مفصلاً في الشاهد السادس عشر من المقصد الأول.
(الأمر الثالث) لما كتب عزرا عليه السلام كتب العهد العتيق مرة أخرى على زعمهم ووقعت حادثة أخرى جاء ذكرها في الباب الأول من الكتاب الأول للمقابيين هكذا: "لما فتح انتيوكس ملك ملوك الفرنج أورشليم أحرق جميع نسخ كتب العهد العتيق التي حصلت له من أي مكان بعد ما قطعها وأمر أن من يوجد عنده نسخة من نسخ كتب العهد العتيق أو يؤدي رسم الشريعة يقتل، وكان تحقيق هذا الأمر في كل شهر فكان يقتل من وجد عنده نسخة من كتب العهد العتيق، أو ثبت أنه أدى رسماً من رسوم الشريعة وتعدم تلك النسخة" انتهى ملخصاً، وكانت هذه الحادثة قبل ميلاد المسيح بمائة وإحدى وستين سنة، وكانت ممتدة إلى ثلاث سنين ونصف كما فصلت في تواريخهم وتاريخ يوسيفس، فانعدمت في هذه الحادثة جميع النسخ التي كتبها عزرا كما عرفت في الشاهد السادس عشر من المقصد الأول من كلام جان ملنر كاثلك "لما ظهرت نقولها الصحيحة بواسطة عزرا ضاعت تلك النقول أيضاً في حادثة أنتيوكس" انتهى ثم قال جان ملنر: "فلم تكن شهادة لصداقة هذه الكتب ما لم يشهد المسيح والحواريون" (أقول) قد عرفت حال هذه الشهادة في جواب المغالطة الثانية.
(الأمر الرابع) وقعت على اليهود بعد هذه الحادثة المذكورة حوادث أخرى أيضاً من أيدي ملوك الفرنج انعدمت فيها نقول عزرا ونسخ لا تحصى، ومنها حادثة طيطوس الرومي وهي حادثة عظيمة وقعت بعد عروج المسيح بسبع وثلاثين سنة، وهذه الحادثة مكتوبة بالتفصيل التام في تاريخ يوسيفس وتواريخ أخرى، وهلك في هذه الحادثة من اليهود في أورشليم ونواحيه ألف ألف ومائة ألف بالجوع والنار والسيف والصلب، وأسر سبعة وتسعون ألفاً وبيعوا في الأقاليم المختلفة، وهلك جموع كثيرة في أقطار أرض اليهودية أيضاً.
(الأمر الخامس) أن القدماء المسيحيين ما كانوا ملتفتين إلى النسخة العبرانية من العهد العتيق بل جمهورهم كانوا يعتقدون تحريفها وكانت الترجمة اليونانية معتبرة عندهم سيما إلى آخر القرن الثاني من القرون المسيحية فإنه لم يلتفت أحد منهم إلى النسخة العبرانية، وكانت هذه الترجمة مستعملة في جميع معابد اليهود أيضاً إلى آخر القرن الأول فكانت نسخ العبرانية لهذا الوجه أيضاً قليلة، ومع كونها قليلة كانت عند اليهود كما ظهر لك في الهداية الثالثة من جواب المغالطة الأولى.
(الأمر السادس) إن اليهود أعدموا نسخاً كتبت في المائة السابعة والثامنة لأنها كانت تخالف مخالفة كثيرة للنسخ التي كانت معتمدة عندهم، ولذلك ما وصلت إلى مصححي العهد العتيق النسخة المكتوبة في هاتين المائتين فبعد ما أعدموا بقيت النسخ التي كانوا يرضون بها فكان لهم مجال واسع للتحريف كما عرفت في القول العشرين من الهداية المذكورة.
(الأمر السابع) كان في المسيحيين أيضاً في الطبقات الأول أمر موجب لقلة النسخ وإمكان تحريف المحرفين، لأن تواريخهم تشهد بأنهم إلى ثلثمائة سنة كانوا مبتلين بأنواع المحن والبلايا ووقع عليهم عشر قتلات عظيمة (الأول) في عهد السلطان نيرون في سنة 64 واستشهد فيه بطرس الحواري وزوجته، وقتل بولس أيضاً، وكان هذا القتل في دار السلطنة وإيالاته، وبقي الحال هكذا إلى حياة هذا السلطان وكان الإقرار بالمسيحية يُعَدُّ جرماً عظيماً في حق المسيحيين (والثاني) في عهد السلطان دومشيان وكان هذا السلطان مثل نيرون عدواً للملة المسيحية فأمر بالقتل فظهر القتل العام الذي حصل منه خوف استئصال هذه الملة وأجلى يوحنا الحواري وقتل فليوبس كليمنس (والثالث) في عهد السلطان ترجان وكان ابتداؤه سنة 101 وبقي الحال هكذا إلى ثماني عشرة سنة، وقتل فيه إكناسش أسقف كورنتيه، وكليمنت أسقف الروم، وشمعون أسقف أورشليم (والرابع) في عهد السلطان مرقس أنتونيس وكان ابتداؤه سنة 161 وبقي الحال هكذا إلى أزيد من عشر سنين، وبلغ القتل شرقاً وغرباً وكان هذا السلطان فلسفياً مشهوراً متعصباً في الوثنية (والخامس) في عهد السلطان سويرس وكان ابتداؤه سنة 202 وقتل ألوف في مصر وكذا في ديار فرانس وكارتهيج، وكان القتل في غاية الشدة بحيث ظن المسيحيون أن هذا الزمان زمان الدجال (والسادس) في عهد السلطان مكسيمن وكان ابتداؤه سنة 237 وصدر أمره وقتل فيه أكثر العلماء لأنه ظن أنه إذا قتل أهل العلم جعل العوام مطيعين في غاية السهولة، وقتل فيه البابا بونتيانوس والبابا انتيروس (والسابع) في عهد السلطان دي شس سنة 253 وأراد هذا السلطان استئصال الملة المسيحية، فصدر أوامره إلى حكام الإيالات وارتد في هذه الحادثة بعض المسيحيين، وكان مصر وأفريكا وإتالي والمشرق مواضع تفرج ظلمه (والثامن) في عهد السلطان ولريان سنة 257 وقتل فيه ألوف، ثم صدر أمره في غاية الشدة بأن يقتل الأساقفة وخدام الدين، ويذل الأعزة وتؤخذ أموالهم، فلو بقوا بعد هذا أيضاً مسيحيين يقتلون، وتسلب أموال النساء الشرائف ويجلين من الأوطان، ويؤخذ المسيحيون الباقون عبيداً ويحبسون ويلقى في أرجلهم سلاسل ويستعملون في أمور الدولة (التاسع) في عهد السلطان أريلين وكان ابتداؤه سنة 274 وصدر أمره لكن ما قتل فيه كثير لأن السلطان قد قتل (والعاشر) في سنة 302 وامتلأت الأرض شرقاً وغرباً في هذا القتل وأحرقت بلدة فريجيا كلها دفعة واحدة بحيث لم يبق فيها أحد من المسيحيين.
فهذه الوقائع لو كانت صادقة كما يدعون لا يتصور فيها كثرة النسخ ولا محافظة الكتب كما ينبغي ولا تصحيحها ولا تحقيقها، ويكون للمحرفين في أمثال هذه الأوقات مجال كثير للتحريف، وقد عرفت في جواب المغالطة الأولى أن الفرق الكثيرة المبتدعة من المسيحيين قد كانوا في القرن الأول وكانوا يحرفون.
(الأمر الثامن) أراد يوكليشين أن يمحو وجود الكتب المقدسة لهم عن صفحة العالم واجتهد في هذا الباب وأمر في سنة 303 بهدم الكنائس وإحراق الكتب وعدم اجتماع المسيحيين للعبادة فهدمت الكنائس وأحرق كل كتاب حصل له بالجد التام، ومن أبى أو ظُن أنه أخفى كتاباً عُذِّب عذاباً شديداً وامتنعوا عن الاجتماع للعبادة كما هو مصرح به في تواريخهم. وقال لاردن في الصفحة 522 من المجلد السابع من تفسيره: "صدر أمر يوكليشين في شهر مارج من السنة التاسعة عشرة من جلوسه أن يهدم الكنائس ويحرق الكتب المقدسة" ثم قال: "يقول يوسى بيس بالحزن التام إنه رأى بعينيه أن الكنائس هدمت والكتب المقدسة أحرقت في الأسواق" ولا أقول إن النسخ كلها بإعدامه انعدمت عن صفحة العالم، لكن لا شك أنها قلت جداً وضاعت من النسخ الغير المحصورة النفيسة الصحيحة، لأن كثرة المسيحيين وكثرة كتبهم كما كانت في مملكته ودياره ما كانت بمنزلة عشرها في غيرها، وانفتح باب التحريف ولا عجب أن انعدم بعض الكتب رأساً أيضاً، ويكون الموجود باسمه بعده جعلياً مختلقاً، لأن هذا الأمر قبل إيجاد صنعة الطبع كان أمراً ممكناً كما علمت في القول العشرين من الهداية الثالثة من جواب المغالطة الأولى أن النسخ المخالفة لنسخة اليهود انعدمت رأساً بإعدامهم بعد المائة الثامنة، وقال آدم كلارك في مقدمة تفسيره: "إن أصل التفسير المنسوب إلى تي شن انعدم، والمنسوب إليه الآن مشكوك عند العلماء وشكهم حق" وقال واتسن في المجلد الثالث من كتابه: "كان التفسير المنسوب إلى تي شن موجوداً في عهد تهيودورت، وكان يقرأ في كل كنيسة، لكن تهيودورت أعدم جميع نسخه ليقيم الإنجيل مقامه" انظروا كيف انعدم هذا التفسير عن صفحة العالم بإعدام تهيودورت وكيف اخترع واختلق المسيحيون بدله، ولا شك أن اقتدار ديوكليشين الذي ملك ملوك الفرنج أزيد من اقتدار اليهود، وكذا زمان إعدامه كان أقرب من زمان إعدامهم، وكذا اقتداره أزيد من اقتدار تهيودورت، فلا استبعاد أن ينعدم بعض كتب العهد الجديد بحادثة ديوكليشين والحوادث التي ظهرت في عهد السلاطين المذكورين الذين كانوا ملوك الملوك في عهدهم، ثم يكون الموجود باسمه مختلقاً كما سمعت في تفسير تي شن، والاهتمام إلى اختلاق بعض كتب العهد الجديد كان أهم عندهم من اختلاق التفسير المذكور، وكانت المقولة المقبولة عندهم التي مر ذكرها في القول السادس من الهداية الثالثة من جواب المغالطة الأولى حاكمة باستحسان هذا الاختلاق واستحبابه، ولأجل الحوادث المذكورة في هذه الأمور الثمانية المسطورة فقدت الأسانيد المتصلة بكتبهم ولا يوجد عندهم سند متصل لكتاب من كتب العهد العتيق والجديد لا عند اليهود ولا عند المسيحيين، كما عرفت نبذاً منه، وطلبنا مراراً من القسيسين العظام السند المتصل فما قدروا عليه واعتذر بعض القسيسين في محفل المناظرة التي كانت بيني وبينهم، فقال إن سبب فقدان الإسناد عندنا وقوع المصائب والفتن على المسيحيين إلى مدة ثلثمائة وثلاث عشرة سنة، ونحن تصفحنا كتب الإسناد لهم فما رأينا فيها غير الظن والتخمين، وبهذا القدر لا يثبت السند.