اقتباس:
فعلنا وقولنا كبشر ناتج عن أمرين :
أحدهما : القدرة
والثاني : الإرادة
فإذا كان فعل العبد ناتجاً عن إرادته وقدرته .... فيجب ألا ننسى أن الذي خلق هذه الإرادة وجعل قلب الإنسان قابلاً للإرادة هو الله عز وجل .... وكذلك الذي خلق فيه القدرة هو الله عز وجل
ومعلوم أن : (خالق المؤثر خالق للأثر)
فلولا الإرادة التى خلقها الله لم يفعل الإنسان شيئا
ولولا القدرة التى جعلها الله فيه لم يفعل الإنسان شيئا
لأنه إذا أراد وهو عاجز لم يفعل لعجزه عن الفعل .... وإذا كان قادرا ولم يرد لم يكن الفعل
فإذا كان الفعل ناتجا عن إرادة وقدرة .... فلا ننسى أن الذي خلق الإرادة والقدرة هو الله تعالى
وبهذا المنطق نعرف كيف يمكن أن نقول أن الله تعالى خالق لفعل العبد .... فالعبد هو الفاعل في الحقيقة .... فهو المتطهر وهو المصلي وهو المزكي وهو الصائم وهو الحاج وهو المعتمر وهو العاصي وهو المطيع .... لكن هذه الأفعال كلها كانت ووجدت بإرادة وقدرة مخلوقتين للبشر من الله عز وجل
فكل ما يحدث فى الكون مرهون بمشيئة الله عز وجل .... وهذا لا ينافى أن يضاف الفعل إلى فاعله من ذوى الإرادة
ولما كان العبد له إرادة وشعور واختيار وعمل صار الفعل ينسب إليه حقيقة وحكماً وصار مؤاخذا بالمخالفة معاقباً عليها .... لأنه يفعل باختيار ويدع باختيار
----------------------------------------
وأهل السنة والجماعة عقيدتهم ومذهبهم : (أن مشيئة الله تعالى مطلقة وتابعة لحكمته و أن الإنسان يفعل باختياره وأنه يقول كما يريد .... ولكن أرادته واختياره تابعان لإرادة الله تبارك وتعالى ومشيئته)
وهم يقولون بأن الأفعال التي يحدثها الله تعالى في الكون تنقسم إلى قسمين :
(أ) ما يجريه الله تبارك وتعالى من فعله في مخلوقاته .... فهذا لا اختيار لأحد فيه كإنزال المطر وإنبات الزرع والإحياء والإماتة والمرض والصحة وغير ذلك من الأمور الكثيرة التي تشاهد في مخلوقات الله تعالى وهذه بلا شك ليس لأحد فيه اختيار وليس لأحد فيها مشيئة وإنما المشيئة فيها لله الواحد القهار
(ب) ما تفعله الخلائق كلها من ذوات الإرادة فهذه الأفعال تكون باختيار فاعليها وإرادتهم لأن الله تعالى جعل ذلك إليهم : (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)
ومراتب الإيمان بالقضاء والقدر عند أهل السنة والجماعة أربع مراتب :
1- العلم : بأن يؤمن الإنسان إيمانا جازماً بأن الله تعالى بكل شي عليم وأنه يعلم ما في السماوات والأرض جملة وتفصيلاً سواء كان ذلك من فعله أو من فعل مخلوقاته وأنه لا يخفى على الله شي في الأرض ولا في السماء
2- الكتابة : بأن يؤمن الإنسان إيمانا جازماً بأن الله تعالى كتب عنده في اللوح المحفوظ مقادير كل شي .وقد جمع الله بين هاتين المرتبتين في قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) فبدأ سبحانه بالعلم ثم قال : (إن ذلك في كتاب) أي أنه مكتوب في اللوح المحفوظ كما جاء به الحديث عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم : (إن أول ما خلق الله القلم قال له اكتب قال رب ماذا أكتب ؟ قال اكتب ما هو كائن فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) .... ولهذا فعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عما نعمله أشي مستقبل أم شي قد قضي وفرغ منه ؟ قال : (إنه قد قضى وفرغ منه) وقال أيضا حين سئل : أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب الأول : (إعملوا فكل ميسر لما خلق له) ... فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : (فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى)
3- المشيئة : بأن يؤمن الإنسان إيمانا جازماً بأن الله تعالى شاء لكل موجود أو معدوم في السماوات أو في الأرض ... فما وجد موجود إلا بمشيئة الله تعالى وما عدم معدوم إلا بمشيئة الله تعالى
وقد أثبت الله تعالى مشيئته في فعله ومشيئته في فعل العباد فقال الله تعالى :
(لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ)
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)
فبين الله تعالى أن فعل الناس (كائن بمشيئته)
4- الخلق : بأن يؤمن الإنسان إيمانا جازماً بأن الله تعالى خالق كل شي ... فما من موجود في السماوات والأرض إلا الله خالقه حتى الموت يخلقه الله تبارك وتعالى : (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) .... فكل شيء في السماوات أو في الأرض فإن الله تعالى خالقه قال تعالى : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)
----------------------------------------
والإيمان بالقدر لا ينافي ما علم بالضرورة من أن الإنسان يفعل الشيء باختياره .... لأن ما يفعله الإنسان باختياره هو من قدر الله، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أقبل على الشام، وقالوا له : إن في الشام طاعونا يفتك بالناس، فجمع الصحابة وشاورهم، فقال بعضهم : نرجع. فعزم على الرجوع، فجاء أبو عبيدة عامر بن الجراح، فقال : يا أمير المؤمنين أفرارا من قدر الله ؟ فأجاب عمر : (نفر من قدر الله إلى قدر الله) يعني : أن مضينا في السفر فذلك بقدر الله ، ثم ضرب له مثلا، قال : أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له شعبتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة فبقدر الله، وإن رعيت الجدبة فبقدر الله ؟
----------------------------------------
وبالطبع لا يعنى هذا أن يكون الكافر والعاصي معذورا بمعصيته لأنه كفر وعصى بقدر الله .... فاحتجاج العاصي بالقدر باطل
فقد قال الله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) فهم قالوا هذا على سبيل الاحتجاج بالقدر على معصية الله، فرد الله عليهم بقوله : (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) ، ولو كانت حجتهم صحيحة ما أذاقهم الله بأسه، ثم قال تعالى : ( قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) ، وهذا دليل واضح على بطلان احتجاجهم بالقدر على معصية الله
وقال تعالى : (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) فأبطل الله الحجة على الناس بإرسال الرسل، ولو كان القدر حجة ما انتفت بإرسال الرسل؛ لأن القدر باق حتى مع إرسال الرسل
وهذا يدل على بطلان احتجاج العاصي على معصيته بقدر الله
----------------------------------------