الرد على السؤال رقم 16:جاء في سورة البقرة 31-34 " وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ... قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ... قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ... وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ " ... وجاء فى سورة الأعراف 11-13 " وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ... قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ... قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ " ... وجاء فى سورة الحجر 28-33 " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ... فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ... فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ... إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ... قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ... قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ " وجاء في سورة طه 116 وسورة الإسراء 61 ما في هذا المعنى.
والناقد يسأل: في أول الأمر علّم الله آدم الأسماء ثم عرضهم على الملائكة، فعجزوا عن التسمية واعترفوا بالعجز ... فكيف يمتحن الله الملائكة فيما لا يعرفونه، ويعطي الإجابات لآدم ليعلَم مالا يعلمون ؟؟؟ وكيف أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم ؟؟؟ وحاشا لله القدوس أن يأمر بالسجود لغير ذاته العلية !!! قال الله في سفر الخروج 34: 14 " لَا تَسْجُدُ لِإِلهٍ آخَرَ، لِأَنَّ الرَّبَّ اسْمُهُ غَيُورٌ ... إِلهٌ غَيُورٌ هُوَ "
الرد على سؤال السيد الناقد
إذا كان السيد الناقد يقول: " وحاشا لله القدوس أن يأمر بالسجود لغير ذاته العلية لأن الله قال " لَا تَسْجُدُ لِإِلهٍ آخَرَ، لِأَنَّ الرَّبَّ اسْمُهُ غَيُورٌ ... إِلهٌ غَيُورٌ هُوَ " سفر الخروج 34/ 14 ... " ... ونقول لسيادته: فلماذا سجد أنبياء الله إذن لغير الله كما ورد أدناه في الكتاب المقدس ؟؟؟ وهل عاتبهم الله على ذلك وبين ذلك العتاب في كتابه المقدس لأنهم سجدوا لغير ذاته العلية ؟؟؟
سفر التكوين 23/7" فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ وَسَجَدَ لِشَعْبِ الأَرْضِ، لِبَنِي حِثَّ. "
سفر الخروج 18/7" فَخَرَجَ مُوسَى لاسْتِقْبَالِ حَمِيهِ وَسَجَدَ وَقَبَّلَهُ ".
سفر صموئيل الأول 24/8" ثُمَّ قَامَ دَاوُدُ بَعْدَ ذلِكَ وَخَرَجَ مِنَ الْكَهْفِ وَنَادَى وَرَاءَ شَاوُلَ قَائِلاً: يَا سَيِّدِي الْمَلِكُ ... وَلَمَّا الْتَفَتَ شَاوُلُ إِلَى وَرَائِهِ، خَرَّ دَاوُدُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ وَسَجَدَ. "
سفر الملوك الأول 1/ 22-23 " وَبَيْنَمَا هِيَ مُتَكَلِّمَةٌ مَعَ الْمَلِكِ، إِذَا نَاثَانُ النَّبِيُّ دَاخِلٌ. فَأَخْبَرُوا الْمَلِكَ قَائِلِينَ: "هُوَ ذَا نَاثَانُ النَّبِيُّ ... فَدَخَلَ إِلَى أَمَامِ الْمَلِكِ وَسَجَدَ لِلْمَلِكِ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ.".
سفر التكوين 42/6 " فَأَتَى إِخْوَةُ يُوسُفَ وَسَجَدُوا لَهُ بِوُجُوهِهِمْ إِلَى الأَرْضِ. "
إن السجود في اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم من معانيه: التحية ... فإذا كان الأمر ذلك ... فلا يُحمل حينئذ على سجود العبادة فيقتضي الإشراك بالله ... هذا ولا يمكن أن يكون سجود العبادة لغير الله بأمر وتكليف من الله ... فلو كان سجود الملائكة لآدم عبادةً لغيرِ الله ... لما أَمَرَهم به الله سبحانَه وتعالى ... لأَنَّ اللهَ لا يكلف ولا يأذَنُ بالطبع لأَيّ مَخْلوق أَنْ يَعْبُدَ غيرَه ... هذا وقد ورد في معجم " لسان العرب " تحت عنوان (سجد): " ويكون السجود بمعنى التحية؛ وأَنشد: مَلِكٌ تَدِينُ له الملوكُ وتَسْجُدُ ... وفي قوله عز وجل: وخروا له سجداً ... هذا سجود تحية لا عبادة " ... انتهى ما ورد في لسان العرب
ولذلك فإن السجود بمفهومه الشامل يكون على وجهين:
الوجه الأول: سجود عباده وتعظيم وتقرب إلى من سُجد له ... وهذا لا يكون إلا لله وحده ... قال تعالى:
- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ...} الحج 77
- {... لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ ...} فصلت 37
- {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} النجم 62 ... {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ...} الرعد 15
الوجه الثاني: سجود تحية وتكريم :
وذلك كما ورد في تفسير الجلالين والتفسير الوجيز على سبيل المثال لآية: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} ... هذا وقد ورد في تفسير الوجيز: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} أي سجود تعظيمٍ وتسليمٍ وتحيَّةٍ ... وكان ذلك انحناءاً يدلُّ على التَّواضع ... " انتهى تفسير الوجيز
وهذا السجود هو الذي أمر الله به الملائكة لآدم فسجدوا له تكريماً واحتراماً لصنع الله الذي أتقن كل شيء ... وهذا السجود من الملائكة هو عبادة لله سبحانه وحده بطاعتهم له إذ أمرهم بسجود التحية والتكريم وليس سجود عبادة لآدم ...
وسجود التحية والتكريم كان جائزا في الشرائع السابقة نذكر منها: سجود أخوة يوسف عليه السلام له {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا ...}يوسف 100 ... أما في الشريعة التي جاء بها خاتم النبيين محمد – صلى الله عليه وسلم – فلا يجوز السجود فيها إطلاقا لغير الله ... هذا وقد سجد الأنبياء أيضاً في الكتاب المقدس لغير الله كما ذكرنا بعاليه ... لكن القرآن الكريم لم يذكر شيئاً عن ذلك السجود ...
إن سجود الملائكة لآدم عليه السلام وكما هو واضح ... كان بأمر من الله كما ذكرنا وطاعة له وتكريما لآدم ... فالامتثال لأمر الله بسجود التحية لآدم ... لا يعد شركاً بالله عز وجل بل هو طاعة وتسليم ... كما أنه تكريم وتشريف لآدم عليه السلام، واعترافاً من الملائكة بفَضْلِ آدَمَ عليهم ... لأَنَّ الله مَيَّزَهُ عليهم بالعِلم ... وفيه دلالة على أن الملائكة مسخرون لأمر الله رب العالمين كسائر المخلوقات في السماوات والأرض ... هذا ولا يمنع أن يأمر الله تعالى ملائكته بالسجود لآدم سجود تحية وتكريم وتشريف ... في الوقت الذى يسجدون لله سبحانه وتعالى سجود عبادة كما قال الله عنهم: " إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ " الأعراف 206 ... وبذلك اتضحت الصورة وهي بخلاف ما حاول الكاتب أن يوهم به القارئ السطحي تماماً ...
أما عن سؤال الناقد: " أنه في أول الأمر علّم الله آدم الأسماء ثم عرضهم على الملائكة ... فعجزوا عن التسمية واعترفوا بالعجز ... فكيف يمتحن الله الملائكة فيما لا يعرفونه، ويعطي الإجابات لآدم ليعلَم مالا يعلمون ؟؟؟ فنقول لسيادته:
لقد تعجبت الملائكة عندما أخبرهم الله في الآية السابقة ... أنه سيجعل في الأرض خليفة من البشر ليعمروها ... أي آدم وذريته ... هذا بالرغم مما قد يَصدُرُ من هؤلاءِ الخلفاءِ من إفسادٌ في الأَرضِ وسفَكٌ للدماء ... ولذلك طلب الملائكة من الله أَنْ يُخْبرَهم بحكمةِ استخلافِ آدَمَ وذريته في الأرض ... لأن ليس من طبيعة الملائكة أن يعرفوا ماذا سيفعل ذلك الإنسان الذي سيستخلفه الله في الأرض ... حيث أن مهمتهم تختلف عن مهمة الإنسان ... " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ... قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ... " البقرة 30
كان رد الله على سؤال الملائكة هو أنه يَعلمُ ما لا يعلمون ... " قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ " البقرة 30 ... فالله يَعلمُ أَنه لا يَصلحُ للخلافةِ في الأَرض إلَّا هذا الخليفة، وبما سيُزَوِّدُه الله بوسائلَ ومواهبَ وطاقاتٍ وقُدُرات، يتمكَّنُ بها من حُسْنِ الخلافةِ في الأَرض، وفي مقدمتِها العلمُ الذي وَهَبَهُ اللهُ إِياه، والنطقُ الذي مَكَّنَهُ منه، بحيثُ يَستطيعُ أَنْ يُعَبِّرَ عما في نفسِه، ويَرْمُزَ بالأَسماءِ للمسَمَّيات ... والملائكةُ المسَبِّحونَ لله لا يَستطيعونَ ذلك، فالعلمُ والنطقُ والتفكيرُ والتعبير أُمورٌ ضروريةٌ للخلافةِ في الأَرض ...
فعَلَّمَ اللهُ آدَم الأَسماءَ كُلَّها، وجَعَلَ فيه النطق، والقدرةَ على التعبيرِ عما في نفسِه، والرَّمْزِ بالأَسماءِ للمسَمَّيات، والملائكةُ لا يَعلمونَ ذلك، لأَنهم لا يَحْتاجونَ إِليه فِي مهمَّتِهم في عبادةِ اللهِ وتسبيحِه ... وبعد ذلك أَرادَ اللهُ أَنْ يُبَيِّنَ للملائكةِ الحكمةَ من استخلافِ آدم في الأرض ... وما خفى عليهم بأن الله سبحانه قد مَيَّزَهُ بالعلمِ والتعبير ... فالموضوعُ ليس موضوعَ امتحانِ الملائكة بما لا يَعرفون ... وتفضيل آدمَ بتقديمِ الإجاباتِ له قبلَ دُخولِه الامتحان، كما ادعى الناقد ... إنما الموضوعُ تَوجيهٌ وتَعليلٌ وبيانٌ للحكمةِ والعِلَّة ... وهذا ما فهمَته الملائكة ... ولذلك صَرَّحوا بعجْزِهم عن الجواب، لأَنَّ اللهَ لم يمنَحْهم ذلك العلم ... وقالوا: " سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ " البقرة 32 ... ولما أنبأَ آدَمُ الملائكة بالأَسماءِ المطلوبة ... عَرَفوا حكمةَ استخلافِه في الأَرض ... وذَكَّرَهم اللهُ بشمولِ عِلْمِه ... قال تعالى: " قَالَ (أي الله) يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ (أي أسماء كل ما خلق من المحدثات من إنسان وحيوان ودابة ... وطير ... وغير ذلك ) ... فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ (أي آدم) بِأَسْمَائِهِمْ ... قَالَ (أي الله للملائكة) أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ " البقرة 33
وفى هذا المقام نذكر ما ورد في تفسير الطنطاوي لتلك الآية:" وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ... " البقرة 31
في هذه الآية الكريمة أخبرنا الله تعالى أنه قد أذن لآدم في أن يخبر الملائكة بالأسماء التي فاتتهم معرفتها ليظهر لهم فضل آدم ... ويزدادوا اطمئنانا إلى أن إسناد الخلافة إليه ... إنما هو تدبير قائم على حكمة بالغة ...
ومن الفوائد التي تؤخذ من هذه الآيات ... أن الله تعالى قد أظهر فيها فضل آدم عليه السلام من جهة أن علمه مستمد من تعليم الله له ... فإن إمداد الله له بالعلم يدل على أنه محاط منه برعاية اضافية ... ثم إن العلم الذي يحصل عن طريق النظر والفكر قد يعتريه الخلل ... ويحوم حوله الخطأ ... فيقع صاحبه في الإِفساد من حيث إنه يريد الإِصلاح ... بخلاف العلم الذي يتلقاه الإِنسان من تعليم الله ... فإنه علم مطابق للواقع قطعاً، ولا يخشى من صاحبه أن يحيد عن سبيل الإِصلاح، وصاحب هذا العلم هو الذي يصلح للخلافة في الأرض، ومن هنا ... كانت السياسة الشرعية أرشد من كل سياسة، والأحكام النازلة من السماء أعدل من القوانين الناشئة في الأرض ... انتهى تفسير الطنطاوي
والله تعالى أعلم وأعظم
يتبع بإذن الله وفضله