(20)
في يوم من الأيام .. عام 1909 ..
والأسرة الصغيرة في حياتها الوادعة ..
على مقربة من السجن ..
والوقت بعد الظهيرة ..
والحر قائظ ..
والطبيب قد أنهى عمله .. وعاد إلى داره ..
وإذا بواحد من مساعديه .. يصعد الدرج مسرعاً ..
ويقترب منه ..
ويهمس في أذنه كلاماً ..
وبدا على وجه الطبيب أنه لا يصدق ما سمع ..
ورفع الطبيب صوته قائلاً:
وأين هو الآن .. ؟
قال إنه يقف بباب الدار ,,
ونزل الطبيب الشاب مسرعاً من فوره ..
وعاد ومعه ضيف من القاهرة ..
كان هذا الضيف هو الخواجة إبراهيم .. والد الطبيب ..
وقد وصل فجأة .. بعد قطيعة تامة ومتصلة ..
منذ كان ولده في فترة الامتياز بالقصر العيني ..
فانسحبت الزوجة والمربية والطفلان إلى داخل الدار ..
وبقي الطبيب وولده .. لا يجدان عندهما ما يقال ..
بعد أن كانا قد تبادلا التحية والمجاملة في اقتضاب ..
قال الطبيب:
كيف أنت يا أبي .. وكيف حال أمي وإخوتي ..
وإذ هم الوالد بالجواب .. احتبست الألفاظ في صدره ..
واعتمر رأسه بين يديه لحظة ..
ثم انهارت بقية المقاومة .. التي كان يعانيها منذ وقت طويل مضى ..
فانفجر ينتحب كالثاكلات ..
ولم يحاول ابنه أن يمنعه ..
بل تركه برهة .. وأخلى له المكان حتى يفرج عن نفسه وهمومه ..
وأقبل عليه حين عاوده الهدوء ..
وقال ماذا بك يا أبي ..
وكيف أمي وإخوتي ..
قال:
إنهم بخير نحمد الرب ..
ولكن أباك هو الذي على حافة الهاوية ..
قال: هون عليك وأشركني فيما يؤودك حمله ..
لعلي أكون في عونك ..
قال: لهذا جئت إليك ..
ولا أخفي عنك أنني ما سعيت إليك ..
إلا بعد أن انسدت الدنيا كلها في وجهي ..
وكادت الفضيحة أن تحطم حياتي ..
ثم سكت لحظة .. عاد بعدها يقول .. وقد تهدج صوته من جديد ..
يا عبده ..
إن البيت الذي ولدت فيه ونشأت ...
حتى أتممت معظم دراسة الطب ..
هذا البيت الذي يؤوينا ويتسع لأسرتنا كلها ..
سيباع في غد بأبخس الأثمان ..
أمام دائرة البيوع بالمحكمة ..
وفاء لدين كان للبنك صغيراً ..
ولكن الفوائض ضاعفته ولله الأمر ..
وأختك يا عبده .. أختك ماريبوه .. ابنتي الكبرى ..
سيكون زواجها بعد أسبوع واحد ..
ولا أعلم كيف أواري فضيحتي المالية ..
وطردي من بيتي عن أصهاري الذين يحسنون بي الظن ..
ومن أجل ذلك جاءوا للمصاهرة ..
وأي مصير سيواجه شقيقاتك الأخريات ..
إذا ما خاب زواج الأولى بسبب إعلان إفلاسي ..
وأظلمت الدنيا في وجهه .. وخارت قواه ..
فعاد يبكي وينتحب .. في مرارة شديدة ..
وسأله ابنه: كم تبلغ القيمة ..
قال: ثمانمائة جنيه ..
والبيت كما تعلم يساوي أضعاف هذه القيمة ..
ولكن جو البيع يسوده ألوان من المناورات والاحتكار البشع ..
وإن موظفي البنك أنفسهم يحيطون هذه البيوع بإجراءات جهنمية ..
تضمن لهم تسيير البيوع على هواهم ..
قال الطبيب: إن هذا لعجيب ..
أو ليست المحاكم تقوم من اجل العدل ..
قال أبوه :
يا بني .. إنك تعيش في برجك العادي بعيداً عما يدور في الأسواق من ظلم وفساد ..
إن الدين يا بني يكفي للإطاحة بثروة كبيرة ..
وبخاصة إذا مال الأمر لدائرة البيوع ..
ومن حوله زبانية يتسمعون الأخبار .. و يتحايلون على كل واحد في المزاد حتى ينسحب ..
قال الطبيب :
لماذا لا ندفع جزءاً من الدين .. ثم نفكر كيف نتدبر أمر التصفية الشاملة ..
قال الوالد :
يا بني يا عبده ..
قلت لك أن هذا كله قد فات أوانه ..
إنني أواجه حكماً بنزع الملكية وفاءً لدين مقداره كذا وكذا ..
عفواً يا بني ..
لقد أفسدت عليك وقت الراحة ..
والجو شديد الحرارة ..
ولكن العذر واضح لك ..
ولي معك كلمة أخيرة ..
أقولها وأنا واثق من أن جميع إخوتك ..
يؤيدونها راضين ..
وأنت يا عبده أولى من الغريب ..
فتعال معي في جلسة البيوع .. واشتر أنت البيت .. قبل جلسة المزاد ..
لقاء دفع قيمة الحكم كاملة ..
فلا يضع الغريب يده على دارنا ..
ويسيء إلى أبيك وسائر أفراد أسرتك ..
وأنت لن تلقي بأهلك إلى الطريق ..
إن قصروا في دفع الإيجار ..
قال الطبيب : لا عليك ..
اصبر يا والدي .. وائذن لي بتركك برهة صغيرة ..
ودخل إلى حجرته الخاصة ..
ثم عاد يحمل شيئاً في يده ..
ودفعه إلى أبيه .. وقال هذه ثمانمائة جنيه ذهباً ..
هي لك يا أبي فتصرف فيها كيف تشاء ..
دهش الوالد من هذا التحول من الجدال إلى الفعل الناجز ..
وسأل في تكرار ..
والدار؟ متى تحضر لإكمال اجراءات نقل ملكيتها إليك؟
قال: لا حاجة لي بها ..
إلا أن تبقى داراً لك انت ..
أنت والد الجميع .. ومن مركزك في الظاهر وفي الجمالية ..
تستمد الأسرة كلها تقدير الناس ..
وإني ليسرني ان تبقى محل ثقة الناس واحترامهم ..
وضع الوالد كيس المال بجواره على الأريكة ..
وأطرق وهو يقلب عصاه بين يديه ..
ويقول في صوت خافت تتجاوب فيه أصداء من الشعور بالخجل والصغار:
ماذا صنعت بك وأنا قادر عليك ..
وماذا صنعت معي وأنت قادر علي ..
وتساقط الدمع من عينيه في صمت ذليل ..
حتى رق له قلب ولده فبكى لبكائه ..
وانصرف الخواجة إبراهيم بالمال ..
ونجا من ضائقة كادت تعصف به ..
وعاد الطبيب إلى داره بعد فترة قصيرة ..
قضاها في وداع أبيه إلى أن تحرك القطار ..
كان الطبيب منهكاً وهو يعود إلى بيته ..
وفي الطريق كان يمني نفسه بساعة من نوم عميق ..
ولكنه أخطأ الحساب وأسرف في الأمل ..
فما إن دخل داره التي تركها من برهة قصيرة ..
وغادرها وهي هادئة ساكنة ..
حتى سارت مسرحاً لأحداث غريبة تجري سراعاً ..