الجـــــــــــــــــزء الثاني من
النقد رقم 10 :زعم التناقض بين قوله تعالى" وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى "
النازعات 40 – 41 ... حيث تضمن ذلك النهى عن الهوى ... بينما أباح القرآن الكريم الهوى فيما نوجزه فيما يلي ونفصله فيما بعد:
أولاً: الغارات الدينية والدخول على الأسيرات دون تطليقهن من أزواجهن.
ثانياً: اباحة زواج النبي محمد بأي من تهواه ويهواها بلا قيد أو شرط فوق زوجاته العديدات وفوق ما ملكت يمينه
.
ثالثاً: جعل نكاح النساء أمل المستقبل في الجنة.
ثانياً: الرد على اباحة زواج النبي محمد بأي من تهواه ويهواها بلا قيد أو شرط فوق زوجاته العديدات وفوق ما ملكت يمينه ... قال تعالى " وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ " الأحزاب 50
§ بداية يجب أن نقرأ ونفهم الآية رقم 50 من سورة الأحزاب التي استدل الناقد بجزء منها حيث نصت هذه الآية الكريمة في بدايتها على فئات النساء اللاتي حُدد و حُلل للرسول الزواج من بينهن وليس لإلزامه بالزواج بهن كلهن ... قال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ الَّلاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ... وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ ... وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ ... وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ ... الَّلاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ... وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ { ... فما تفسير ذلك حسب ما ورد في تفسير المنتخب ؟؟؟ أي ... " يا أيها النبي: إنا أبحنا لك أزواجك اللاتي أعطيتهن مهورهن ... وأبحنا لك ما ملكت يمينك من الإماء مما أنعم الله به عليك ... وأحللنا لك التزوج من بنات عمك وبنات عماتك ... وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك ... وأحللنا لك امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها لك بلا مهر (أي تتزوجه متنازلة عن مهرها)، وأنت تريد نكاحها (زواجها) وترغب فيها ". انتهى تفسير المنتخب
§ إن القارئ الذكي سيلحظ ضرورة تنوع الفئات التي سُمح للنبي اختيار زوجة من بينهن ... فقد سُمح له التزوج مثلاً من بين بنات عمه وبنات عماته، وبنات خاله وبنات خالاته اللاتي هاجرن معه (أي وليس من بين من لم يهاجرن معه) ... وهو بالطبع لن يتزوج بكل هؤلاء ... ولكن حُدد وأتيح له الاختيار من بينهن إذا رغب هو في ذلك أيضاً ...
§ وأيضاً من ضمن فئات النساء اللاتي حُدد وحُلل للرسول اختيار زوجة من بينهن ... فئة مشروطة بشرطين ... الشرط الأول هو رغبة امرأة مؤمنة بالله وبرسوله محمد وبمحض إرادتها الخالصة ... الزواج منه " إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ " . .. و مشروطة أيضـا برغبته هو و قبوله الزواج منها بالطبع " إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا " ... فما المانع حينئذ في إتمام هذا الزواج الذي تلتقي فيه إرادة طرفين متكافئين و مؤهلين للزواج ويرغب كل منهما في الارتباط بالآخر وبأسلوب شرعي لا يحل حراما و لا يحرم حلالا ... بل وحددته السماء للأرض " وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ " الأحزاب 50 ... ولذلك كنا لا نحب أن نسمع من أحدٍ من اتباع السيد المسيح عليه السلام تهكماً بعبارة " زواج النبي محمد بأي من تهواه ويهواها " لأن شريعة السيد الناقد لا تفرض أن يكون الزواج ممن تكرهه ويكرهها
§ ولكن لماذا ترغب امرأة في الزواج من النبي محمد وهو لم يكن ثريا ولا من أرباب الأموال والأملاك ... بل كانت حياته بسيطة لدرجة التقشف ... وكان كل طعامه التمر والماء ... وهو الذي لم يكن توقد في بيته نار لمدة تصل إلى ثلاثة شهور .... فما الذي يجعل امرأة ترضى وترغب أن تعيش معه حياة التقشف تلك .... انه لشرف عظيم لأي امرأة تكون من أزواج النبي ... ولماذا ... لأنها ستكون بالقرب من رحمة الله للعالمين " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ " الأنبياء 107 ... وستكون زوجة لصاحب الخلق العظيم " وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ "القلم 4 ... وسَتُرتفع بهذا الزواج إلى مرتبة أمهات المؤمنين والذين يكن زوجات له في الآخرة ... " وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ " الأحزاب 6 ... فلا يهم بعد هذا الشرف أن تكون الحياة بسيطة أو متقشفة ... فبالقرب من الحبيب تهون كل المتاعب والصعاب ... ولذلك سمى الله المرأة التي تريد الزواج من النبي " مؤمنة " ... تملك هي الدنيا لا تملِكها الدنيا ..." وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ... " الأحزاب 50
§ لقد شرع الله للبشر أسلوبا ترجم فيه رغبة التقاء خليقته (الذكر والأنثى) تحت مظلة ورباط حلال ...... وسمى ذلك الأسـلوب " الزواج " ... وحرم أي أسلوب آخر للالتقاء بين الذكر والأنثى وسماه " الزنا "... مثل الأسلوب الذي نسبه الكتاب المقدس مثلا إلى نبي الله داود عليه السلام (حاشاه بالطبع) عندما زنى بامرأة جاره " اوريا الحثى " بعد أن تلصص عليها وتمعن فيها وهى تستحم فاشتهاها لأنها كانت جميلة المنظر جدا ... ثم بعد أن حملت منه سفاحاً دبر مؤامرة وقتل زوجها المسكين ليواري سوءته ... ثم تزوجها بعد جريمة القتل تلك كما ورد في سفر صموئيل الثاني الاصحاح 11... وحرم أيضاً أسلوب زنى المحارم الذي نسبه سفر التكوين الاصحاح 19 إلى لوط عليه السلام -حاشاه -عندما زنى مع ابنتيه فحبلت ابنتا لوط من ابيهما.
§ ولا أدرى إذا ما كان السيد الناقد قد اطلع على ما ورد في كتابه المقدس حيث سيجد سيادته أن أنبياء الله الكرام في الكتاب المقدس كان لهم العديد من الزوجات والسراري بلا قيد أو شرط (على النحو الذى أنتقد فيه سيادته زواج النبي محمد) ... فإبراهيم -عليه السلام -كان متزوجا من ثلاث زوجات (سارة و هاجر و قطوره) و لم ينكر الله سبحانه وتعالى هذا التعدد على إبراهيم ولم يعتبره خطيئة في حقه -عليه السلام -بل إن الله سبحانه وتعالى جعل إبراهيم خليله (أش 8:41) وأنه -عليه السلام -مات بشيبة صالحة (تكوين 8:25) ... و نبي الله موسى عليه السلام تزوج صفوره (خروج 21:2) امرأة كوشية (عدد1:12) ... أما يعقوب فكان متزوجا من الأختين (ليئة و راحيل) و الأمتين (زلفة و بلهة) سفر التكوين 29 ... و يذكر الكتاب المقدس أيضاً أن داود كان له تسع زوجات ( سفر صموئيل الأول و الثاني ) و الله لم ينكر هذا التعدد على داود -عليه السلام - بل و لم يعتبره خطيئة في حقه ... حيث قال عن داود " لأَنَّ دَاوُدَ عَمِلَ مَا هُوَ مُسْتَقِيمٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ وَلَمْ يَحِدْ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا أَوْصَاهُ بِهِ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِهِ ... إِلاَّ فِي قَضِيَّةِ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ " ...سفر الملوك الأول 5:15
§ أما سليمان ابن داود عليهما السلام فقد ... " َكَانَتْ لَهُ سَبْعُ مِئَةٍ مِنَ النِّسَاءِ السَّيِّدَاتِ، وَثَلاَثُ مِئَةٍ مِنَ السَّرَارِيِّ، فَأَمَالَتْ نِسَاؤُهُ قَلْبَهُ ... وَكَانَ فِي زَمَانِ شَيْخُوخَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّ نِسَاءَهُ أَمَلْنَ قَلْبَهُ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ كَامِلاً مَعَ الرَّبِّ إِلهِهِ " سفر الملوك الأول 11: 3 ... أي 700 زوجة + 300 من السراري = 1000 امرأة ... وإذا كانت نِسَاءَهُ أَمَلْنَ قَلْبَهُ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ كَامِلاً مَعَ الرَّبِّ إِلهِهِ ... فكيف نقل وحي السماء للأرض وقلبه مائلاً وراء آلِهَةٍ أُخْرَى ... بل وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ كَامِلاً مَعَ الرَّبِّ إِلهِهِ ... هذا في الوقت الذي كانت فيه لزوجات محمد صلى الله عليه وسلم ( اللائي لا يصل عددهن إلى نسبة 1% من نساء وسراري سليمان الألف) رساله وغاية سنوجزها فيما بعد.
§ وعندما اُرسل الرسول كان تعدد الزوجات هو أمر موجود عند العرب وعند الأنبياء السابقين (كما ذكرنا) فأراد الله أن يحدد هذا التعدد ... فنزلت آية سورة النساء والتي جعلت الحد الأقصى للأزواج أربعة ... " فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ " ... وكان في عصمته صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت تسع نساء تزوج كل منهن لمعنى خاص وكن أصبحن أمهاتا للمؤمنين ... " النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ " الأحزاب 6
§ واستثنى الرسول من قيد العدد حينئذ لأنه لو كان قد سرح أحد من نسائه آنذاك – وهي في منزلة أم للمؤمنين – فأنها لن تتزوج بعده بسبب هذه المنزلة ... وهذا بخلاف الحال مع باقي المؤمنين آنذاك في حالة تسريحهم ما زاد عن الأربعة نساء لديهم لأنهن سيتزوجن بآخرين ولا مشكلة لهن حينئذ.
§ وإذا كان الرسول قد استثنى من قيد العدد لهذا الغرض النبيل فإنه قد ضيق عليه – بالمقارنة بباقي المؤمنين – بقيد المعدود أي بهؤلاء اللاتي كن في حوزته فقط بدون زيادة أو استبدال في حالة الوفاة أو الطلاق " لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ " الأحزاب 52 ... هذا ولم يتزوج النبي بعد هذه الآية بامرأة قط.
§ وإذا درسنا زيجاته صلى الله عليه وسلم بعمقٍ ووعي وبنظرة شمولية ووضعناها تحت المجهر ... فإننا سنلاحظ ما يلي:
1. تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة وكان عمرها وقت الزواج أربعين سنة وعمره خمسـاً وعشرين سنة، فعاشا معاً لخمس وعشرين سنة بعد زواجهما (منها خمسة عشر سنة قبل بعثته) إلى أن توفيت وكان عمره خمسون سنة، هذا ولم يتزوج عليها في حياتها أحداً .... مع أن تعدد الزوجات كان مألوفاً لدى الناس آنذاك كما ذكرنا.
2. أن أكثر زوجاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك كنّ إما مطلقات، أو ارامل ... فلو كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهتم بأمور الجنس، لكان باستطاعته أن يتزوج خيرة الفتيات الابكار، ولوجد أولياءهن يفتخرون بمصاهرته.
3. لقد رفض صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عروض قريش عليه التزويج بأي النساء شاء ... في مقابل أن يلين في موقفه ويخفف من مواجهته لآلهتهم وعقائدهم ... هذا فضلا على أنه كان مثالا للعفاف والطهر البالغ ... بل ولم يلوث نفسه بأيٍ عمل قبيح مما كانت الجاهلية تبيحه، وتشيع في مجتمعه ممارسته، ولم يستطع أحد من أعدائه أن يصمه بشيء من ذلك.
4. إن الزواج لم يكن هو شغله الشاغل صلى الله عليه وسلم بالطبع بدليل ان زيجاته لم تشغله عن تبليغ آخر رسالة للسماء للأرض ... بل أعانته زوجاته على ذلك ( وكما سيرد فيما بعد) ... و بدليل أيضاً أنه استطاع في فترة ثلاثة وعشرين سنه فقط وهى فتره وجيزة في عمر الزمان ... أن يحول من بعث إليهم من رعاة للغنم إلى ساده للأمم ... وأن يمتد دينه ومنهجه في فترة عشرين سنه لاحقه بعد موته ليشمل بقاع الأرض من الصين شرقا إلى باريس غربا ... ولما وجدنا اليوم ما يزيد عن مليار ونصف مسلم في مشارق الأرض ومغاربها ... بل ونرى المشرق والمغرب يتحدون على مدار العصور على محاربة الإسلام ( وعلى سبيل المثال لا الحصر الحروب الصليبية الأولى / والثانية في عهد جورج بوش ..... ) لإخراج المسلمين من إسلامهم ... وبالرغم من ذلك نجد أن الإسلام باق وشامخ ... بل هو الآن أسرع الديانات انتشارا حالياً في البلاد الصليبية ... أي في أوربا وأمريكا ...
الرابط:
ولكن من الجدير بالذكر انه كانت هناك مصالح واهداف وحكم وراء زيجات النبي صلى الله عليه وسلم نذكر منها:
أولاً: المصالح التعليمية
§ لما كانت السنة المطهرة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام (أي بعد القرآن الكريم) وتشتمل على أقوال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعماله وتقريره ولذلك لا يمكن لأحد أن يعرف ما صدر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قول أو عمل أو تقرير إلا أن يكون معه في جميع الأوقات ... حتى خلال أوقات فراغه ومتابعاً لكافة حالات فرحه وغضبه ويسره وعسره ويصاحبه في كل أمور حياته مهما كانت هامة أو بسيطة عامة أو شخصية ... وهذا الشرف لم يقدره اللّه سبحانه وتعالى إلا لزوجاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللاتي ظللن يصحبنه طوال حياته إلى لحظة انتقاله إلى الرفيق الأعلى ... فلهذا نرى أن كبار الصحابة رضوان اللّه عليهم أجمعين كانوا يستفتون أمهات المؤمنين ـ رضي اللّه تعالى عليهن أجمعين ـ فيما يعن من أمور هامة في حياة المسلمين العامة والخاصة.
§ ولما كانت المرأة نصف المجتمع لذلك كان لابد للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يهيئ معلمات ومفتيات لتبصير نساء المسلمين بأمور دينهن ... لأنه ما كان يمكنه أن يرد على كل سؤال يوجه إليه من جانب النساء بكل صراحة لاسيما في أحكام خاصة مثل الحيض والنفاس والجنابة وغيرها ... فكان يجيب بأسلوب الكناية أو يستعين بإحدى أزواجه في حياته ... وبعد وفاته استكملن هن ذلك.
§ ولذلك عرفنا مثلا أن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها ظلت تدرّس وتبلغ تعاليم الإسلام وتفتي في الكثير من المسائل الهامة ثماني وأربعين سنة بعد وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... وانتقل ربع الأحكام الشرعية إلى الأمة الإسلامية من خلال توجيهاتها ومساعيها.
ثانياً: المصالح التشريعية
§ كما تزوج رسول اللّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتحقيق بعض الغايات التشريعية (بالأسوة والقدوة الفعلية وليست القولية) ومنها إبطال بعض العادات التي سادت زمن الجاهلية مثل التبني والتآخي ... حيث كان بعض الناس من العرب يتخذ شخصا وكأنه ابنه الحقيقي من صلبه ويكون له حكم الأبناء من النسب في جميع الأحوال، في الزواج والطلاق ومحرمات النكاح ومحرمات المصاهرة والميراث ... وكان من العرب أيضا من يتخذ شخصا كأنه أخاً حقيقيا له وبنفس الطريقة وكان يحل له كل ما يحل للأخ الحقيقي ويحرم عليه كل ما يحرم على الأخ الحقيقي أيضا.
§ فأبطل الله سبحانه وتعالى عادة التبني بتزويجه رسول اللّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مطلقة متبناه زيد وهي أم المؤمنين السيدة زينب بنت جحش ... وبالمثل فقد أبطل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عادة التآخي بزواجه بأم المؤمنين السيدة عائشة لأنها ابنة أخيه في الإسلام سيدنا أبي بكر الصديق، ففرق رسول اللّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين التآخي في الإسلام والأخوة على أساس النسب.
§ ومن المعروف أن تجارة الرقيق وأسرى الحروب كانت عملة اقتصادية معقدة مثلها مثل الإتجار في الخمور والتعامل بالربا ... والرق كان موجوداً قبل الإسلام ولا سبيل للحرية إلا بإرادة السيد ... وحينما جاء الإسلام أبطل كل منابع الرق المتعددة ولم يبق إلا منبعاً واحداً وهو الحرب المشروعة أي لرد العدوان والتي فيها معاملة المثل بالمثل، كتبادل الأسرى ... فاذا وقعت امرأة محاربة ومعتدية أسيرة (أي حُقن دمها فلم تقتل) ورفض قومها مبادلتها بما لديهم من أسرى المسلمين فستصبح أَمةً.
§ وكان من ضمن تجارة الرقيق أن السيد إذا وطأ أمته فإن أولادها يصبحون عبيداً عند سيدهم ... الأمر الذي كان يشجعه على وطئ الإماء حتى يتسنى له الإنجاب والاتجار في الرقيق والتربح من وراء ذلك ... فلما جاء الإسلام جعل صورة من صور تجفيف منابع الرق أن الأمة إذا انجبت من سيدها وولدت له فإنها تصبح بهذا الولد حرة بعد موت سيدها ... كما يكون ابنها حراً بمجرد ولادته وله كافة حقوق البنوة من أصالة النسب والمصاهرة والميراث ... لذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن السيدة مارية فور أن أنجبت ابنه إبراهيم: أعتقها ولدها. الراوي: عبد الله بن عباس المحدث: ابن الملقن المصدر: خلاصة البدر المنير الصفحة أو الرقم: 3/464 خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح
§ ورأينا أن الإسلام يلجأ أيضاً إلى عدة أساليب اخرى لتجفيف منابع الرق ... فيجعل تحرير الرقبة كفاره لبعض الذنوب وأيضاً مصرفاً من مصارف الزكاة ... وكان من ضمن مصارف تحرير الرقيق " نظام المُكَاتَبةَ " مثل ما حدث مع السيدة جويرية بنت الحارث بعد اسرها خلال الحرب مع قومها بني المصطلق ... حينما قال لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُؤدِّي عنكِ كتابتَكِ وأتزوجُكِ ... فقالت : نعم ، ففعل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، فبلغ الناسَ أنه قد تزوجَها ... فقالوا: أصهارُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأطلقوا ما كان في أيديهم من اسرى من بني المُصطلِقِ ، وبهذا الزواج أُعتِقَ بها مائةُ اسير من أهلِ بيتٍ بني المُصطلِقِ ، فما أعلمُ امرأةً أعظمَ بركةً منها على قومِها ... المصدر: السنن الكبرى للبيهقي الصفحة أو الرقم: 9/74
ثالثاً: المصالح الاجتماعية (البيت النبوي)
§ إن اتجاه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مصاهرة أبى بكر وعمر بزواجه من ابنيتهما عائشة وحفصة ... وكذلك تزويجه ابنته فاطمة لعلى بن أبى طالب رضي الله تعالى عنه ... وتزويجه ابنته رقية ثم أم كلثوم بعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ... يشير إلى انه يبغى من وراء ذلك توثيق الصلات بالرجال الأربعة الذين عرف فداءهم للإسلام في الأزمات التي مرت به، وشاء الله أن يجتازها بسلام لتبليغ رسالة السماء الأخيرة للأرض.
§ ولقد كان من تقاليد العرب احترام المصاهرة فقد كان الصهر عندهم بابا من أبواب التقرب بين القبائل والبطون المختلفة وكانوا يرون أن محاربة الأصهار سبة وعارا على أنفسهم، فأراد رسولنا الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بزواجه من عدة من أمهات المؤمنين أن يكسر حدة عداء القبائل للإسلام وذلك على النحو التالي: ـ
§ السيدة أم سلمة: من بني مخزوم ـ حي أبى جهل وخالد بن الوليد ـ فلما تزوجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقف خالد من المسلمين موقفه الشديد بأحد، بل أسلم بعد مدة غير طويلة طائعا راغبا.
§ السيدة أم حبيبه: بنت أبى سفيان عندما تزوجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يواجهه أبو سفيان بأي محاربة.
§ السيدة جويرية: من قبيلة بني المصطلق فبعد زواج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها لم يواجه منهم بأي استفزاز وعداء بل كانت السيدة جويرية أعظم النساء بركة على قومها، فقد أطلق الصحابة سراح مائة أسير من قومها حين تزوجها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: أصهار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
§ السيدة صفيه: كانت من بني النضير وبعد زواجها من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يواجه الإسلام بأي عداء من قومها.
وهكذا وبهذه الزيجات استطاع رسول اللّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يربط أهم وأبرز أعضاء الأمة الإسلامية بعضهم ببعض عن طريق المصاهرة ... وهكذا صار سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي من أعاظم الرجال وأتقاهم وأقربهم إلى قلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... كما استطاع أن يجنب المسلمين الكثير من الأذى الذي كان يمكن أن يلحق بهم.
رابعاً: المصالح السياسية
§ لقد تحققت من وراء زيجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكثير من المصالح السياسية ... فمثلا زواجه بالسيدة جويرية بنت سيد بني المصطلق ترتب عليه عتق قومها من أسرى بني المصطلق فأسلموا وتخلوا عن أعمال قطع الطريق وتوقفت غاراتهم ومؤامراتهم ضد المسلمين بعد هذا الزواج ...
§ وكذلك خفف زواجه بالسيدة صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني قريظة بل قضى على موقف العداء الذي وقفه اليهود ضد الإسلام كما وضع حداً لمؤامرتهم ضد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد هذا الزواج.
§ ونفس الحال كان زواجه بالسيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان سيد قريش والذي كان ألد أعداء الإسلام قبل إسلامه، قد أصبح خفيفا غير ممعن في عداوته ضد الإسلام بعد هذا الزواج ... حتى انه جاء إلى المدينة المنورة يلتمس تجديد عقد صلح الحديبية ولم يأتي اليها محارباً بأحزابه.
خامساً: المصالح الإنسانية
§ ولقد كان هناك المصالح الإنسانية أيضا وراء بعض زيجاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... فقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعض النساء رأفة بهن بسبب ظروفهن الخاصة ... فقد كانت هناك بعض النساء العجائز اللاتي مات عنهن أزواجهن فلم يبق لهن سند أو معين في الحياة ... أو أمهات افتقدن الكفيل لهن ولأطفالهن وأيضاً كانت هناك بعض الأرامل اللاتي لو رجعن إلى أهلهن لعذبن عذاباً شديدا ولفتن فتونا كبيراً ... فتزوج رسول اللّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بين هؤلاء صيانة لهن ورعاية لإنسانيتهن ... فمنهن السيدة سودة ـ رضي اللّه عنهاـ (عمرها 55 سنة وقت الزواج) ... والسيدة زينب بنت خزيمة (كان عمرها 65 سنة آنذاك) ... والسيدة أم سلمة ـ رضي اللّه عنها ـ (كان عمرها حوالي 60 سنة آنذاك).
§ إن زواج الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثل هؤلاء النسوة ليبرهن بالطبع على منتهى الإيثار والتضحية وتكريم الإنسانية ... وليس السعي وراء شهوات أو ملذات غريزية ... الأمر الذي حاول السيد الناقد أن يخدع به القارئ السطحي !!!
سادساً: تقرير مبدأي العدل والمساواة عند الزواج بأكثر من واحدة
لا يخفى على الجميع كيف كانت معاملة رسول الله الراقية لزوجاته ومدى التزامه بالعدل، والإحسان النادر بينهن هذا مع اختلاف طباعهن، وأساليب حياتهن، ومواطن إقامتهن، وطريقة تربيتهن ... ولذلك كان عليه الصلاة والسلام، صورة واضحة للأسلوب العالي، الذي ينبغي أن يعامل به كل رجل أهل بيته من النساء ... وأن يسوي بينهن بعقله الراجح وفكره السديد ... فهذه التجربة فرضت ضرورة اقتداء المسلمين بذلك مع زوجاتهم ... قال تعالى " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا "الأحزاب 21
سابعاً: تبليغ الثقافات المختلفة
§ لما كان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مأموراً بإبلاغ رسالة السماء الأخيرة للأرض وبتزكية وتثقيف قوم بدو يسكنون الصحراء القاحلة ولا يعرفون شيئا عن الثقافة والآداب والحضارة وغيرها ... ولما كانت المبادئ والأعراف السائدة عند هؤلاء القوم لا تسمح للرجال أن يختلطوا بالنساء ... اذن فكيف تصل تلك الرسالة لهؤلاء النساء وهن نصف المجتمع ... بل ويربين المجتمع كله ... فالأم مدرسة إذا اعددتها ... اعددت شعباً طيب الأعراق ...
§ لذلك فلم يكن للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أن يختار من النساء المختلفة الأعمار والمواهب ما يكفي لهذا الغرض فيزكيهن ويربيهن ويعلمهن الشرائع، والأحكام ويثقفهن بثقافة الإسلام حتى يعدهن لتربية البدويات العجائز منهم والشابات، فيكن سفراء له عندهن فيكفينه مؤنة تبليغ نصف المجتمع وهن النساء.
§ فكانت الحكمة أن تبلغ كل واحدة منهن ما سمعت عن رسول الله، وما رأت من تصرفاته ... بأسلوبها وطريقتها، قياماً بواجب التبليغ للرسالة المحمدية، مصداقا لقوله تعالى: " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ " الأحزاب 34
§ ولقد كان لأمهات المؤمنين (زوجات النبي) فضل كبير في ابلاغ رسالته وأيضاً نقل سنته وأحواله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنزلية للناس خاصة أنهن كن يمثلن ثقافات مختلفة، وقدرات متفاوتة، في فهم ما يصدر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأمور التي لم يطلع عليها سوى نسائه ... فها هي عائشة التي طالت حياتها منهن بعده فروت الكثير من أفعاله وأقواله ...
مما سبق نستطيع أن نخلص إلى أن مراحل حياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرت بثلاث مراحل:
§ المرحلة الأولى: من بدء حياته إلى الخامس والعشرين كان وردة في الصحراء، وقد عصمه الله تعالى شابا، والشباب صورة للإنسان تكشف معدنه.
§ المرحلة الثانية: من الخامس والعشرين حتى الثالث والخمسين (أي لمدة 28 عاما متصلة)، وكان فيها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوجاً لامرأة واحدة، كانت تكبره بخمسة عشر عاماً ـ حسب الروايات المعتمدة ـ وتزوجها ثيباً، ومع ذلك لم يتزوج عليها، ولما ماتت ظل سنتان بدون زواج فانتهت مرحلة الشباب والكهولة والرجولة.
§ المرحلة الثالثة: من الثالثة والخمسين إلى الثانية والستين... هاجر إلى المدينة ... وفيها فرض الجهاد المقدس ... وأضيفت إلى أعباءه حملاً ثقيلاً ... إنه قيادة جيش ومستقبل دعوة، ليله صلاة وعباده، ونهاره صيام وجهاد ودعوة وتسيير شؤون الدولة الداخلية والخارجية فيعقد المعاهدات ويؤمن مستقبل الدعوة بالجهاد في سبيل الله.
في هذه المرحلة فرض الله عز وجلّ عليه الجهاد المقدس وتعدد الزوجات، وذلك ليكون العمل السياسي والعسكري ليس بمعزل عن العمل الاجتماعي وعن المصالح والأهداف والحكم وراء زيجاته على النحو الذي ذكرناه ... فلما وضعت الحرب أوزارها أو كادت حرم الله تعالى على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنشاء زواج جديد، ولذلك فقد كان زيجاته لرسالة، فلما تحققت نزل قوله تعالى: " لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ " الأحزاب 52
والله أعظم وأعلم
يتبع بإذن اللـــــــــــــه وفضله
يتبع بالجزء الثالث إن شاء الله