د. راشد بن أحمد العليوي
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بالقصيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فللعلم بالشريعة المطهرة قدره ومنزلته التي عرفها سلف هذه الأمة المتقدمون. يقول معاذ بن جبل -رضي الله عنه- : "تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل أهل الجنة. وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء. والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتفي آثارهم ويقتدي بفعالهم وينتهي إلى رأيهم. ترغب الملائكة في خلتهم وبأجنحتها تمسحهم. يستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه. لأن العلم حياة القلوب من الجهل. ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة. التفكر فيه يعدل الصيام. ومدارسته تعدل القيام. به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال من
الحرام وهو إمام العمل والعمل تابعه. يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء" [أخرجه ابن عبد البر في كتاب العلم].
وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لكميل بن زياد: "العلم خير من المال. العلم يحرسك وأنت تحرس المال. العلم يكسب العالم الطمأنينة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته، مات خزّان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر. أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة".
فلا جرم -بعد هذه المنزلة للعلم- أن يكون العلماء نور الله في أرضه وهداته إلى سبيله وأمنائه في تبليغ دينه وإقامة العدل بين عباده )إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء(،)قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ(.
وقد فجعت بلادنا بل فجع العالم الإسلامي بأسره بوفاة إمام الأئمة وعالم الأمة شيخ الإسلام في العصر الحاضر. سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- وأسكنه فسيح جناته وأعلى في عليين درجاته وجزاه خير ما جزى عالماً عن قومه وخلف على الأمة خيراً منه إنه سميع مجيب.
وصدق الشاعر إذ يقول:
إذا ما مات ذو علم وتقوى
فقد ثلمت من الإسلام ثلمة
وموت العابد القوام ليلاً
يناجي ربه في كل ظلمة
وموت الحاكم العدل المولى
بحكم الأرض منقصة ونقمة
وموت فتى كثير الجود محل
فإن بقاءه خصب ونعمة
وموت الفارس الضرغام هدم
فكم شهدت به بالنصر عزمه
إنه أنموذج لعلماء السلف السابقين والأئمة المتقدمين جمع الله له من الفضائل والمكارم شيئاً عظيماً وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وضع الله له القبول في الأرض وذلك علامة القبول في السماء.
منهجه حنيفي ونهجه محمدي أحمدي وخلقه أريحي وكرمه حاتمي وأُفقه عالمي.. قدوة معاصرة لأنه اقتدى بالقدوة الأعظم والأسوة والأكرم e.
فعليه من خلق النبي دلالة
وعليه من نور الإله بهاء
للناس إجماع على تفضيله
حتى استوى اللؤماء والكرماء
وتجمعت فيه القلوب على الرضى
وتوافقت في حبه الأهواء
علمه مبني على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة مع أفق واسع وفهم شاسع يتجاوز المحلية الضيقة والإقليمية الحدودية فنفع الله بعلومه الجمة وفتاواه الهائلة وجهوده المباركة ومواقفه المتجردة فكان بحق فقيه الأمة بلا منازع، عني بمحاربة مظاهر الشرك في العبادة.
ومظاهر الشرك في مسألة الحاكمية، في وقت انتصرت فيه طائفة على هذه وطائفة على تلك والحق هو الجمع بينهما. كما كافح الإلحاد ونظرياته والعلمانية وانحرافاتها. وناصر قضايا المسلمين في كل مكان فلا توجد دعوة إصلاحية ولا حركة إسلامية صحيحة إلا ساندها وساعدها ولا يكاد يوجد مشروع إسلامي دعوي أو إغاثي أو علمي في الداخل أو الخارج إلا وله فيه سهم ظاهر وأثر وافر.
كان حريصاً على قضاء حاجة المحتاجين مناصحاً للمسؤولين بالحكمة والموعظة الحسنة شجاعاً في قول كلمة الحق زاهداً في حطام الدنيا وفي مراتبها فأتته وهي راغمة فكان حقيقاً بقول القائل:
أتته الإمامة منقادة
إليه تجرجر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له
ولم يك يصلحُ إلا لها
حمل على عاتقه مشكلات الأمة وقضاياها فواجهها بصبر وثبات وحكمة وحنكة. وقد صدق من قال فيه:
في الجود مدرسة في البذل مملكة
في العلم نابغة أستاذ أجيال
الحق مذهبه والنصح يعجبه
والذكر يطربه يحيى بنه سال
العلم مؤنسه والله يحرسه
ما كان مجلسه للقيل والقال
يا درة العصر يا بحر العلوم فما
رأت لك العين من ندٍّ وأمثال
حقاً فقد عرف التاريخ كوكبة
مضيئة من صناديد وأبطال
لكننا يا حبيب القلب نبصرهم
كأنما مثلوا في شخصك الغال
وقد أُلام على هذا الثناء وقد
ويقول بعض أناس مسرف غال
يا لائمي لا تلمني لم سماحته
سبا فؤادي واستولى على بالي
باز تصيد قلبي ثم طار به
إلى سماء الهوى فلترحموا حالي
بئس البيان الذي لم يكتسب حللاً
من مدح شيخ عظيم القدر مفضال
أنت الكفيف ولكن أبصرت أمم
بفيض علم نقي منك سلسال
رفعت للعلم أبراجاً مشيدة
تجلو صداه وتحيي رسمه البال
كم قلعة للّهدى والعلم شامخة
يطل منها سناكم خير إطلال
إن موت العلماء الربانيين والهداة الصادقين المخلصين رزية عظيمة ومصاب جلل وخسارة للأمة فادحة. ولكن إن العلماء إذا ذهبوا بذواتهم وأشخاصهم فعلومهم ومعارفهم موجودة فيما كتبوه وألفوه وسجلوه. فهذه كتب سماحته ورسائله وفتاواه تبلغ المجلدات الكثيرة فما أحرى شبابنا وأجيالنا وطلاب العلم فينا أن ينهلوا منها وأن يستفيدوا مما فيها ومع ذلك فنحن لا نغلوا به ولا ندع له العصمة، فقد أبى الله العصمة إلا لرسله فيما يبلغون عنه، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله e كما قال ذلك إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله، ولكن هذه كلمة وفاء وكلمة دعاء وكلمة حث ونداء
لمنهجه وأسلوبه وعلمه فرحمه الله رحمة واسعة وجبر مصابنا ومصاب الأمة المسلمة فيه، إنه على كل شيء قدير.
يا رب يا سامعاً صوتي ومسألتي
أدعوك يا رب في صدق وإجلال
أدعوك يا مبدع الأفلاك من عدم
وخالق الناس من طين وصلصال
يا واسع الفضل يا من لا شريك له
ويا مقدر أرزاق وآجال
يا رب واجعل جنان الخلد منزله
مع نبي الهدى والصحب والآل
وارحمه من كل سوء واحمه أبداً
من أي شر وآصار وأغلال
وزده خيراً ونوراً واحم طلعته
يوم القيامة من حرٍّ وأهوال
رحم الله سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز وتغمده بواسع فضله وألهم ذويه والمسلمين جميعاً الصبر والسلوان إنَّه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.