هذا ما قاله شبيه الرجال، وهو عجيبٌ جِدُّ عجيبٍ! ذلك أن كل ما يؤمن به هو وأهل ملته تقريبا أو يفعلونه فى دينهم لا معنى له، إذ يقولون إنها أسرار، والأسرار لا تُفْهَم ولا تقبل الفهم، فكيف يعيب شيئا كهذا علينا، وما هو إلا قول عمر، وعمر ليس بالنبى؟ والمهم أنه لا عمر ولا غير عمر يتجه فى شعائر حجه إلى حجر أو خشب أو بشر، بل إلى المولى عز وجل. أما بالنسبة إلى الأضاحى، أليس عند اليهود هم أيضا أضاحٍ، ثم جاء المثلثة من النصارى فزعموا أن المسيح قدم نفسه أضحية تغنى عن كل الأضاحى، فلم يعد هناك معنى للتضحية بعده، بما يدل على أنهم مخلصون لشعيرة التضحية، لكن على أشنع صورة وأبشعها، فضلا عن قولهم عنه: "الخروف"؟ إذن فالتضحية شعيرة سماوية، وإن كانت فى اليهودية تُحْرَق ولا ينتفع بها أحد من البشر، على اعتبار أن الله يَسُرّه شَمُّ قُتَارِها، وكأنه بشر يتلذذ بالروائح! ويا ليته قد أحب رائحة طيبة بدلا من الدخان الذى يلوث كل شىء حوله! ولكن ما العجب فى هذا، وفى العهد القديم أنه سبحانه يأكل كما رأينا قبل قليل فى هذه الدراسة؟ فلا غرابة إذن أن يحب رائحة الشواء، إذ معروف أن الشرهين يَغْرَمون برائحة الشواء، الذى يُسِيل لعابهم ويثير عصافير بطونهم فيُقْبِلون من ثَمّ على الطعام وكلهم تشوق وتلذذ واشتهاء! أما البراهمة فإذا صح ما قاله الكندى عنهم يكونون قد أخذوا الأضحية من إحدى الديانات السماوية، أو كانت ديانتهم فى الأصل سماوية ثم دخل عليها التحريف والإفساد كما حصل فى اليهودية والنصرانية حسبما يوضح القرآن. وعلى أية حال فالعبرة بالنية والغاية، إذ قد يكون هناك عملان متشابهان أو متطابقان، لكن أحدهما من أعمال الوثنية، والآخر من أعمال التوحيد. لنأخذ الصلاة مثلا: فالمسلمون يتوجهون فيها لله سبحانه، والنصارى للمسيح يعبدونه ويؤلهونه. وذلك توحيد خالص، على حين أن هذا شرك ووثنية. وقد يخرج إنسانان الزكاة: أحدهما يتوخى بها رضا الله، والآخر السمعة والرياء، فتُقْبَل من الأول، وتُرَدّ على الثانى ويُقْذَف بها فى وجهه، وقد يَصْلَى بسببها نار الجحيم... ومن هنا فحتى لو كانت بعض مناسك الحج تتشابه مع بعض مناسك البراهمة، فالعبرة أن المسلمين لا يعبدون أصناما ولا أوثانا، بخلاف ديانة البرهمية وما تقوم عليه من وثنية وشرك وعبادة أصنام كما ذكر هو، على حين أنه لا موضع فى الإسلام بأى حال لصنم أو وثن أو تأليه بشر، إذ الإسلام يتشدد فى هذا إلى أبعد آماد التشدد! ثم إن الكاتب يتناقض فى كلامه عن مصدر الإسلام تناقضا بشعا يدل على أنه يتخبط ويكذب ويحاول التعلق بقشة كيلا يجرفه البحر الهادر العميق، وهيهات. أفلم يقل إن الرسول تعلم على يد النساطرة؟ فأين النساطرة من البراهمة؟ وكيف يا ترى عرف البرهمية؟ أكانت عنده مكتبة فى الأديان والمذاهب والشعائر؟ أم سيقولون إنه كان بين صحابته هنود برهميون هم الذين علّموه هذا؟ ألا لعنة الله على الكاذبين! كذلك فقوله إن العرب هى التى بنت البيت تخريف من التخريف، إذ بانيه هو إبراهيم وابنه إسماعيل. وإذا كانت هناك مَشَابِهُ فى شعائر الحج قبل الإسلام وبعده فهو أمر طبيعى، وكل ما هنالك أن العرب قد غيروا فى تلك الشعائر بعض التغييرات، فجاء النبى وأعاد الأمور إلى نصابها كما كانت فى دين الخليل صلى الله عليه وسلم. وهذا معنى قول الوغد إن النبى قد حذف من الحج ما كان فيه من شناعات. فكيف يجرؤ الكذاب الرذيل بعد هذا كله على اتهام الإسلام بدائهم هم؟ واضح أن ذلك الرجل، إن صح تسميته رجلا، قد فقد عقله وحياءه تمام الفقدان!
22- وفى كلامه التالى عن الطلاق برهانٌ على حقده وقلة أدبه، إذ قال: "وأقبح من هذا كله ما جاء في ذكر الطلاق ونكاح المرأة رجلاً آخر يسمى الاستحلال، وأن يذوق من عُسَيْلَتها وتذوق من عُسَيْلَته، ثم مراجعة الرجل الأول بعد ذلك. هذا، وقد يكون لها أولاد رجال نبلاء، وبنات كبار ذوات بيوت، والزوج الذي له الشرف النفيس والحسب الخطير، وتكون هي المرأة النبيلة في قومها. فهل تدعوني إلى مثل هذا الذي تستشنعه البهائم وتستقبح فعله؟". ومن الواضح التام الوضوح ما فى الكلام من خلط وتدليس مستشنَع، إذ كلنا نعرف أنه لا يوجد فى الإسلام محلِّل أبدا، وإنما المقصود هو أن الزواج مؤسسة لها احترامها وتوقيرها، وإن لم يمنع هذا من حصول التنافر الذى قد يكون من الصعب التغلب عليه، والذى حاول الإسلام أن يعالجه بوسائل شتى آخرها الطلاق الرجعى لعل الطرفين يتنبهان إلى قيمة ما بينهما من رباط فى فترة الانفصال، فيتراجعا مرة أخرى. فإن تكرر الطلاق ثلاثا فعنئذ يكون من الجلىّ أن هناك خللا شديدا فى العلاقة التى بينهما، وهو ما يعنى أنهما قد فشلا ولا يمكنهما الاستمرار فى تلك العلاقة، وعندئذ يجب أن ينفصلا انفصالا لا رجعة فيه، اللهم إلا إذا تزوجت المرأة من رجل آخر زواجًا عاديًّا لا نية فيه للعودة إلى زوجها الأول ثم طلّقها الزوج الجديد بعد ذلك لسبب من الأسباب التى تلجئ الزوجين فى الأحوال المعتادة إلى الطلاق، فحينذاك يحق لزوجها الأول أن يراجعها إن أحب. ومن ثم لا معنى للتهكم الذى يتهكمه غبينا الكندى. أما "المحلِّل" الذى يلمح إليه فهو مذموم فى الإسلام ذمًّا مستبشَعًا حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد سماه بـــ"التيس المستعار" ولعنه وبشّره بمصير حقير، إذ أُثِر عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: هو المحلِّل. لعن الله المحلِّل والمحلَّل له". فما المشكلة إذن؟ الحق أنه لا مشكلة ولا يحزنون إلا فى عقل صاحبنا التافه الذى يتظاهر بعدم الفهم. أما كلامه صلى الله عليه وسلم عن تذوق العُسَيْلة فمقصوده تنفير الزوجين من كثرة الخلاف وتكرر الطلاق حتى لا يجدا نفسيهما فى ذلك الموقف الذى لا يحبه أحد من خلق الله الكرام. أما التمحك فى أن الزوجة قد تكون سيدة نبيلة، ولها أولاد ذوو حيثية فى المجتمع، فهذا ذنبها هى، إذ كيف تكون نبيلة حقا، وهى لا تستطيع أن ترتقى فى مستوى سلوكها وتصرفاتها مع زوجها بحيث تنال احترامه وتقديره ولا يفكر فى تطليقها؟ وعلى أية حال فالتشريعات لا تعرف هذه الاعتبارات المنافقة، بل تعمل على معالجة المشكلة دون رياء أو تفيهقات! وعجيب أن يبدى ذلك المرائى امتعاضه من جواز الطلاق فى الإسلام، وهو الذى يعلم أفضل من سواه ما يؤدى إليه التضييق على الأزواج والزوجات فى هذه المسألة من انتشار الزنا وتعايش الزوجين تعايش الاضطرار والقهر على أساس الغش والدَّخَل والخداع وخيانة كل من الطرفين لصاحبه بمعرفته ورضاه، بل كثيرا ما يترك أحد الزوجين أو كلاهما النصرانية كى يستطيعا الاستمتاع بحياتهما بعيدا عن ذلك الإعنات المشقى لهما، فضلا عن الفضائح المجلجلة التى تنقضّ على رأس الأسرة كلها إذا ما وقع الطلاق فى النصرانية طبقا للنصوص التى ينسبونها إلى السيد المسيح، إذ إن قَصْر الطلاق لديهم على علة الزنا لن يكون له معنى عند الناس إلا أن الطرف الآخر زانٍ، وهو ما رأيناه غير بعيد حين عمدت إحدى نجمات المجتمع، صدقا أو كذبا، إلى اتهام نفسها بالزنى كى تفكّ نفسها من هذه اللزقة الأمريكانى التى لا تطلع ولا بالطبل البلدى، اللهم إلا إذا أخذت معها من الجلد حتة.
23- هذا، ومن الطريف عند تشنيعه على بركة البيت الحرام ومسجد رسول الله أنه لم يجد من يستشهد به إلا داود فى مزمورين من مزاميره تدليلا على أن تلك المواضع لا يمكن أن تكون مواضع مباركة، بخلاف المواضع النصرانية التى يُعْبَد الله فيها حق عبادته كما يقول والتى تظهر بركتها فى شفاء المصابين من أمراضهم وبَرَصهم وعماهم ومس الشيطان لهم حسبما يزعم، وكأن داود كان نصرانيا، أو كأنه عندهم رجلٌ تقىٌّ بارٌّ، وليس ذلك الـــ"داود" الزانى المجرم القرارى الذى لم يجد مؤلفو الكتاب المقدس ما يكتبونه عنه إلا ما يلى، وأستغفر الله من نقل هذا الكفر: "1وَكَانَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ، فِي وَقْتِ خُرُوجِ الْمُلُوكِ، أَنَّ دَاوُدَ أَرْسَلَ يُوآبَ وَعَبِيدَهُ مَعَهُ وَجَمِيعَ إِسْرَائِيلَ، فَأَخْرَبُوا بَنِي عَمُّونَ وَحَاصَرُوا رِبَّةَ. وَأَمَّا دَاوُدُ فَأَقَامَ فِي أُورُشَلِيمَ. 2وَكَانَ فِي وَقْتِ الْمَسَاءِ أَنَّ دَاوُدَ قَامَ عَنْ سَرِيرِهِ وَتَمَشَّى عَلَى سَطْحِ بَيْتِ الْمَلِكِ، فَرَأَى مِنْ عَلَى السَّطْحِ امْرَأَةً تَسْتَحِمُّ. وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ جَمِيلَةَ الْمَنْظَرِ جِدًّا. 3فَأَرْسَلَ دَاوُدُ وَسَأَلَ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ وَاحِدٌ: «أَلَيْسَتْ هذِهِ بَثْشَبَعَ بِنْتَ أَلِيعَامَ امْرَأَةَ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ؟». 4فَأَرْسَلَ دَاوُدُ رُسُلاً وَأَخَذَهَا، فَدَخَلَتْ إِلَيْهِ، فَاضْطَجَعَ مَعَهَا وَهِيَ مُطَهَّرَةٌ مِنْ طَمْثِهَا. ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا. 5وَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ، فَأَرْسَلَتْ وَأَخْبَرَتْ دَاوُدَ وَقَالَتْ: «إِنِّي حُبْلَى». 6فَأَرْسَلَ دَاوُدُ إِلَى يُوآبَ يَقُولُ: «أَرْسِلْ إِلَيَّ أُورِيَّا الْحِثِّيَّ». فَأَرْسَلَ يُوآبُ أُورِيَّا إِلَى دَاوُدَ. 7فَأَتَى أُورِيَّا إِلَيْهِ، فَسَأَلَ دَاوُدُ عَنْ سَلاَمَةِ يُوآبَ وَسَلاَمَةِ الشَّعْبِ وَنَجَاحِ الْحَرْبِ. 8وَقَالَ دَاوُدُ لأُورِيَّا: «انْزِلْ إِلَى بَيْتِكَ وَاغْسِلْ رِجْلَيْكَ». فَخَرَجَ أُورِيَّا مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ، وَخَرَجَتْ وَرَاءَهُ حِصَّةٌ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ. 9وَنَامَ أُورِيَّا عَلَى بَابِ بَيْتِ الْمَلِكِ مَعَ جَمِيعِ عَبِيدِ سَيِّدِهِ، وَلَمْ يَنْزِلْ إِلَى بَيْتِهِ. 10فأَخْبَرُوا دَاوُدَ قَائِلِينَ: «لَمْ يَنْزِلْ أُورِيَّا إِلَى بَيْتِهِ». فَقَالَ دَاوُدُ لأُورِيَّا: «أَمَا جِئْتَ مِنَ السَّفَرِ؟ فَلِمَاذَا لَمْ تَنْزِلْ إِلَى بَيْتِكَ؟» 11فَقَالَ أُورِيَّا لِدَاوُدَ: «إِنَّ التَّابُوتَ وَإِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا سَاكِنُونَ فِي الْخِيَامِ، وَسَيِّدِي يُوآبُ وَعَبِيدُ سَيِّدِي نَازِلُونَ عَلَى وَجْهِ الصَّحْرَاءِ، وَأَنَا آتِي إِلَى بَيْتِي لآكُلَ وَأَشْرَبَ وَأَضْطَجعَ مَعَ امْرَأَتِي؟ وَحَيَاتِكَ وَحَيَاةِ نَفْسِكَ، لاَ أَفْعَلُ هذَا الأَمْرَ». 12فَقَالَ دَاوُدُ لأُورِيَّا: «أَقِمْ هُنَا الْيَوْمَ أَيْضًا، وَغَدًا أُطْلِقُكَ». فَأَقَامَ أُورِيَّا فِي أُورُشَلِيمَ ذلِكَ الْيَوْمَ وَغَدَهُ. 13وَدَعَاهُ دَاوُدُ فَأَكَلَ أَمَامَهُ وَشَرِبَ وَأَسْكَرَهُ. وَخَرَجَ عِنْدَ الْمَسَاءِ لِيَضْطَجِعَ فِي مَضْجَعِهِ مَعَ عَبِيدِ سَيِّدِهِ، وَإِلَى بَيْتِهِ لَمْ يَنْزِلْ. 14وَفِي الصَّبَاحِ كَتَبَ دَاوُدُ مَكْتُوبًا إِلَى يُوآبَ وَأَرْسَلَهُ بِيَدِ أُورِيَّا. 15وَكَتَبَ فِي الْمَكْتُوبِ يَقُولُ: «اجْعَلُوا أُورِيَّا فِي وَجْهِ الْحَرْبِ الشَّدِيدَةِ، وَارْجِعُوا مِنْ وَرَائِهِ فَيُضْرَبَ وَيَمُوتَ». 16وَكَانَ فِي مُحَاصَرَةِ يُوآبَ الْمَدِينَةَ أَنَّهُ جَعَلَ أُورِيَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي عَلِمَ أَنَّ رِجَالَ الْبَأْسِ فِيهِ. 17فَخَرَجَ رِجَالُ الْمَدِينَةِ وَحَارَبُوا يُوآبَ، فَسَقَطَ بَعْضُ الشَّعْبِ مِنْ عَبِيدِ دَاوُدَ، وَمَاتَ أُورِيَّا الْحِثِّيُّ أَيْضًا. 18فَأَرْسَلَ يُوآبُ وَأَخْبَرَ دَاوُدَ بِجَمِيعِ أُمُورِ الْحَرْبِ. 19وَأَوْصَى الرَّسُولَ قَائِلاً: «عِنْدَمَا تَفْرَغُ مِنَ الْكَلاَمِ مَعَ الْمَلِكِ عَنْ جَمِيعِ أُمُورِ الْحَرْبِ، 20فَإِنِ اشْتَعَلَ غَضَبُ الْمَلِكِ، وَقَالَ لَكَ: لِمَاذَا دَنَوْتُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ لِلْقِتَالِ؟ أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُمْ يَرْمُونَ مِنْ عَلَى السُّورِ؟ 21مَنْ قَتَلَ أَبِيمَالِكَ بْنَ يَرُبُّوشَثَ؟ أَلَمْ تَرْمِهِ امْرَأَةٌ بِقِطْعَةِ رَحًى مِنْ عَلَى السُّورِ فَمَاتَ فِي تَابَاصَ؟ لِمَاذَا دَنَوْتُمْ مِنَ السُّورِ؟ فَقُلْ: قَدْ مَاتَ عَبْدُكَ أُورِيَّا الْحِثِّيُّ أَيْضًا».22فَذَهَبَ الرَّسُولُ وَدَخَلَ وَأَخْبَرَ دَاوُدَ بِكُلِّ مَا أَرْسَلَهُ فِيهِ يُوآبُ. 23وَقَالَ الرَّسُولُ لِدَاوُدَ: «قَدْ تَجَبَّرَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ وَخَرَجُوا إِلَيْنَا إِلَى الْحَقْلِ فَكُنَّا عَلَيْهِمْ إِلَى مَدْخَلِ الْبَابِ. 24فَرَمَى الرُّمَاةُ عَبِيدَكَ مِنْ عَلَى السُّورِ، فَمَاتَ الْبَعْضُ مِنْ عَبِيدِ الْمَلِكِ، وَمَاتَ عَبْدُكَ أُورِيَّا الْحِثِّيُّ أَيْضًا». 25فَقَالَ دَاوُدُ لِلرَّسُولِ: « هكَذَا تَقُولُ لِيُوآبَ: لاَ يَسُؤْ فِي عَيْنَيْكَ هذَا الأَمْرُ، لأَنَّ السَّيْفَ يَأْكُلُ هذَا وَذَاكَ. شَدِّدْ قِتَالَكَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَأَخْرِبْهَا. وَشَدِّدْهُ».26فَلَمَّا سَمِعَتِ امْرَأَةُ أُورِيَّا أَنَّهُ قَدْ مَاتَ أُورِيَّا رَجُلُهَا، نَدَبَتْ بَعْلَهَا. 27وَلَمَّا مَضَتِ الْمَنَاحَةُ أَرْسَلَ دَاوُدُ وَضَمَّهَا إِلَى بَيْتِهِ، وَصَارَتْ لَهُ امْرَأَةً وَوَلَدَتْ لَهُ ابْنًا. وَأَمَّا الأَمْرُ الَّذِي فَعَلَهُ دَاوُدُ فَقَبُحَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ" (صموئيل الثانى/ 11)، "1وَشَاخَ الْمَلِكُ دَاوُدُ. تَقَدَّمَ فِي الأَيَّامِ. وَكَانُوا يُدَثِّرُونَهُ بِالثِّيَابِ فَلَمْ يَدْفَأْ. 2فَقَالَ لَهُ عَبِيدُهُ: «لِيُفَتِّشُوا لِسَيِّدِنَا الْمَلِكِ عَلَى فَتَاةٍ عَذْرَاءَ، فَلْتَقِفْ أَمَامَ الْمَلِكِ وَلْتَكُنْ لَهُ حَاضِنَةً وَلْتَضْطَجعْ فِي حِضْنِكَ فَيَدْفَأَ سَيِّدُنَا الْمَلِكُ». 3فَفَتَّشُوا عَلَى فَتَاةٍ جَمِيلَةٍ فِي جَمِيعِ تُخُومِ إِسْرَائِيلَ، فَوَجَدُوا أَبِيشَجَ الشُّونَمِيَّةَ، فَجَاءُوا بِهَا إِلَى الْمَلِكِ. 4وَكَانَتِ الْفَتَاةُ جَمِيلَةً جِدًّا، فَكَانَتْ حَاضِنَةَ الْمَلِكِ. وَكَانَتْ تَخْدِمُهُ، وَلكِنَّ الْمَلِكَ لَمْ يَعْرِفْهَا" (ملوك الأول/ 1). والآن إلى ما استشهد به صاحبنا من كلام داود: "عَيْنَا الرَّبِّ نَحْوَ الصِّدِّيقِينَ وَأُذُنَاهُ إِلَى صُرَاخِهِمْ" (مزمور 34:15). و"الرَّبُّ قَرِيبٌ لِكُلِّ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ، الَّذِينَ يَدْعُونَهُ بِالْحَقِّ" (مزمور 145:18). والله فيك الخير يا داود! وكلامك كله حكم ومواعظ! وهنيئا للكندى، الذى لا يعرف شيئا اسمه الحياء ولا الخجل! وإلا أفكان يردد ما يقوله العوام البلهاء من مثل "ليس من مكروب ولا ملهوف ولا محزون ولا مريض ولا مستغيث يسأله بإيمان صحيح ونية صادقة وقلب سليم من أولياء المسيح باسم المسيح المقدس الطاهر، إلا فرّج عنه همه وغمه وكربه. فهذه الديارات العامرة بالبِيَع، وجميع المواضع التي يُذْكَر فيها اسم المسيح مخلِّص العالم ويأوي فيها الرهبان ممتلئة من هذه البركات تفيض على جميع من صار إليها وقصدها بإخلاص نيته، لا يطلب من أحد ثمنًا ولا مكافأة، ولا ينال على ذلك جزاءً ولا شكرًا، لأن المسيح مخلص العالم قال في إنجيله الطاهر: مَجَّانًا أَخَذْتُمْ مَجَّانًا أَعْطُوا. لا تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلا فِضَّةً" (متى10: 8- 9)؟ وهل هذا إلا ما يعتقده العوام البُلْه عندنا من مقدرة ضريح الشيخ الفلانى والولى الترتانى على تحبيل العاقر وإغناء المفلس، وهلم جرا؟ وبطبيعة الحال فإنه لا يوجد نصرانى يعرف المرضُ ولا الشقاءُ له "طريق جُرّة"، فكلهم والحمد لله لا يتعبون ولا يفتقرون ولا يقلقون، بل يلقَوْننا جميعا وكلهم صحة وعزم ونشاط، والفلوس تشخلل فى جيوبهم وأكياسهم ولا يستطيعون لها عَدًّا، والواحد منهم لا يحمل أى هَمٍّ للغد، إذ هم لا يحتاجون شيئا إلا قصدوا أقرب دير أو كنيسة وتمسحوا بالأركان، فإذا المال ينهمر عليهم انهمارا، وإذا الصحة بُمْب، والأشيا معدن. فماذا يريد الإنسان أكثر من ذلك؟ الحق أننى ما كنت أحسب أن الأمور بهذه البساطة والبركة والبحبحة فى النصرانية! صدق من قال: من يَعِشْ يا ما يشوف، ومن يقرأ المواقع التبشيرية والكتب الساذجة المتخلفة التى تنشرها يَشُفْ أكثر!
24- ثم يتحول صاحبنا الحمار إلى الجهاد فى الإسلام فيزعم أن فى القرآن تناقضا فى هذه القضية مضيفا قوله: "هل قرأتَ في شيء من الكتب المنزلة أن أحدًا من الدعاة استجلب الناس إلى مقالته ودعاهم إلى الإقرار بما جاء به قهرًا وكرهًا أو ضربًا بالسيف وتهديدًا بالسلب والسبي غير صاحبك؟ فقد عرفتَ قصة موسى وما أتى به من المعجزات، وقرأت قصص الأنبياء بعده وما فعلوا، وكان ذلك شاهدًا أن ما جاءوا به هو من عند الله. فهل تجد أحدًا من الدُّعاة الذين دَعَوْا إلى حقٍ أو باطلٍ إلا وقد جاء بحجَّة أو دليل صحيح؟ فحينئذ يتبيَّن عند العيان صحَّته من خُبثه. وكذلك فعل كل ذي دعوة بأهل دعوته، غير صاحبك، فإنّا لم نره دعا الناس إلا بالسيف والسلب والسبي والإخراج من الديار، ولم نسمع برجل غيره جاء فقال: من لم يقرّ بنبوَّتي وأني رسول رب العالمين ضربتُه بالسيف وسلبتُ بيته وسبيتُ ذريته من غير حجة ولا برهان. فأما المسيح سيد البشر ومحيي العالم فيتعالى ذكره ويجل قدره أن تُذْكَر دعوته في مثل هذا الموضع. وأنا أتلو كلام سيدي يسوع المسيح ليلي ونهاري، وهو شعاري ودثاري، وأسمعه يقول: تفضلوا على الناس جميعًا، وكونوا رحماء كي تشبهوا أباكم الذي في السماء، فإنه يشرق شمسه على الأبرار والفجّار ويمطر على الأخيار والأشرار (قارن متى 5/ 43- 48). فكيف يُظَنّ بمثلي، والمسيح يخاطبني بمثل هذه المخاطبة، أن يقسو قلبي حتى أصير في صورة إبليس العدو القاتل، فأضرب وأقتل أبناء جنسي وذرية آدم المجبول بيد الله وعلى صورته تعالى، والله جلَّت قدرته هو القائل: "لست أحب موت الخاطئ، لأنه اليوم في خطاياه، وغدًا يتوب، فأَقْبَله كالأب الرحوم"، سيَّما وقد شرَّف الله سبحانه النوع الإنساني بأن كلمته الخالقة تجسَّدت منه واتَّحدت به وأعطته ما لها من الربوبية والألوهية والسلطان والقدرة، فصارت الملائكة تسجد له وتقدّس اسمه وتسبّح ذكره كما يسبّح اسم الله وذكره، ولا تفرِّق في ذلك بينهما. ثم زيد نعمة إلى النعمة المتقدمة بأن أُعْطِيَ الجلوس عن يمين ذي العزة تشريفًا لذلك الجسد المأخوذ منا الذي هو من ذرية أبينا آدم، فهو مثلنا وأخونا في الطبيعة، وخالقنا وإلهنا باتحاد الكلمة الخالقة به بالحقيقة، ثم دفع إليه جميع السلطان في السموات والأرض، وخوَّله تدبير الخلائق وصيَّر البعث والنشور والدِّين إليه، وأن يحكم حكمًا نافذًا جائزًا على الملائكة والإنس والشياطين. أفتريد أن أضادّ أمر الله وأضربهم بالسيف وأسلبهم وأسبيهم؟ إن هذا لجورٌ على الله عز وجل، وعناد لأمره، وظلم لنعمته، وكفران لإحسانه. وأعوذ بالله من خذلان الله وغضبه".
والواقع أن أمر هذا الرجل كله كذب وتدجيل وافتراء، فلم يحدث أن قال الرسول عليه الصلاة والسلام يوما من الأيام: "من لم يقرّ بنبوَّتي وأني رسول رب العالمين ضربته بالسيف وسلبت بيته وسبيت ذريته من غير حجة ولا برهان" ولا طبّق ذلك الكلام قَطّ، بل استمر عليه السلام ثلاث عشرة سنة فى مكة يدعو الناس إلى التأمل فى الكون والتفكير فيما يقوله لهم ويقرؤه عليهم من آيات القرآن الكريم، لم يرفع فى وجههم سيفا ولا رمحا ولم يفوِّق فى نحورهم سهما ولا شتمهم ولا هددهم، بل عرض عليهم مبادئ دينه وعمل على تفتيح عيونهم وقلوبهم وعقولهم لما تحتويه من كنوز ودُرَر، وكانوا هم الذين يؤذونه هو وأصحابه ويضربونهم ويحاصرونهم ويقاطعونهم ويشنعون عليهم ويتآمرون ضدهم، وقتلوا بعضا منهم وخططوا لقتله هو أيضا، وذلك بعدما أعيتهم الحيل فى أن يسكتوه بوسائل الإغراء المختلفة من رياسة ومال وما إلى ذلك. فأين إذن التهديد والأذى الذى يقول حمارنا المدلس إنه عليه الصلاة والسلام كان يجرى عليه فى دعوته؟ فإذا ذكر هذا المفترى أن المسيح صبر ثلاثة أعوام لقد صبر الرسول الأكرم ثلاثة عشر عاما لا ثلاثة فحسب. كما أن المسيح لم يكفّ خلال ذلك عن لعن اليهود وسبهم، وكذلك اتهام حوارييه بضعف الإيمان ووسْم بطرس نفسه بالنفاق، وهو أكبرهم وأقربهم إليه، وتهديد بنى إسرائيل بالسيف وإثارة أفراد كل أسرة بعضهم على بعض، بالإضافة إلى ما أبداه من احتقار هائل للأمميين ناعتا إياهم بأنهم كلاب لا يحق لها أن تأكل مع أهل البيت، فما كان من المرأة الكنعانية إلا أن قالت له: إن للكلاب أيضا نصيبا فى الفتات. وهو ما أعجبه، وكأنه كان يتلذذ بإهانة الآخرين ويجد سعادةً مَرَضِيّةً فى رؤيتهم أذلاء أمامه لا حول لهم ولا طول. وطبعا نحن المسلمين لا نصدق بأن المسيح عليه السلام يمكن أن يجترح هذه الأعمال ولا أن يتفوّه بتلك الأقوال، فهو نبى مكرم اختاره الله على عينه ورقَّى أخلاقة ترقية عظيمة، بيد أننى إنما أجادل حمارنا بمنطقه وبنصوص كتابه! أما قوله إنه لا يريد أن يضادّ أمر الله ويضرب الأعداء بالسيف ويقتلهم ويسلبهم فليس لى من تعقيب عليه إلا أن أقول له: أمعقول أنك تجهل العهد القديم وما فيه من أمر باستئصال الآخرين وحرق بيوتهم وإبادة أولادهم ونسائهم وحيواناتهم؟ أم تقول إن هذا ليس كلام الله؟ إذن ففيم إيمانك به؟ أم تراك تقول إن الأنبياء الذين أَتَوْا بهذا الكلام قد أَتَوْا به من لَدُنْ أنفسهم؟ ولكن إذا كانوا قد أَتَوْا به من لَدُنْ أنفسهم، فلماذا ترك الله هذا الكلام فى كتابه؟ أم تراه لم يَرْضَه؟ فلماذا لم يأمرهم بحذفه ويعاقبهم على هذه المبادرة غير المطلوبة ولا الحميدة؟ أم ماذا؟ وعلى كل فإن عمر المسيح فى عالم الدعوة لم يتجاوز، كما قلنا، ثلاثة أعوام. ولا يستطيع أحد أن يزعم بأنه كان سيستمر على السكوت أمام أذى الأعداء لو أن عمره امتد وزاد أتباعه وأصبح مسؤولا عن هؤلاء الأتباع وعن نظام حياتهم وعن توفير الأمن والأمان والغذاء والكساء لهم، وإلا كان مقصّرا غاية التقصير فى ذات حقهم، وبخاصة أنه أعلن أنه ما جاء إلا بالسيف وبإثارة البيت الواحد بعضه على بعض!
وهذا كله لو كان القرآن كما يقول عنه الأخرق الأحمق! أمّا، وكتاب الله الكريم يقول شيئا مغايرا تماما لما يدعى ذلك المنافق، فمعنى هذا أنه يردد أكاذيب ومفتريات لا صلة بينها وبين الواقع الذى يفقأ عينه ودبره المنتن. وإلى القراء الأعزاء البيان بحكم القرآن فى قضية الجهاد: ونبدأ بالنظر فى معنى كلمة "الجهاد"، ففى "لسان العرب" مثلا أن "الجَهْد والجُهْد: الطاقة. تقول: اجْهَدْ جَهْدَك. وقيل: الجَهْد المشقة، والجُهْد الطاقة. الليث: الجَهْدُ ما جَهَد الإِنسان من مرض أَو أَمر شاق. الأَزهري: الجَهْد بلوغك غاية الأَمر الذي لا تأْلو على الجهد فيه. تقول: جَهَدْت جَهْدي واجْتَهَدتُ رأْيي ونفسي حتى بلغت مَجهودي. قال: وجَهَدْت فلانا إِذا بلغت مشقته وأَجهدته على أَن يفعل كذا وكذا. ابن السكيت: الجَهْد الغاية. قال الفراء: بلغت به الجَهْد أَي الغاية، وجَهَدَ الرجل في كذا، أَي جَدَّ فيه وبالغ. والاجْتِهاد والتجَاهُد: بذل الوسع والمجهود، وهو افتعال من الجهد. والجهاد: المبالغة واستفراغ الوسع في الحرب أَو اللسان أَو ما أَطاق من شيء". وواضح أن الجهد هو المشقة، وأن الجهاد هو أن يشق الإنسان على نفسه ويبذل كل ما فى طاقته لا يدخر وسعا. هذا هو المعنى اللغوى، وهو لا ينحصر فى شىء بعينه كما ترى، بل يعم كل ما يؤديه البشر من أعمال، فهل فى القرآن أو فى أحاديث النبى محمد ما يدل على أن الجهاد فى الإسلام ينحصر فى القتال وأن الغاية منه هى إكراه الآخرين بقوة السيف على الدخول فيه رغم أنوفهم وعكس اقتناعهم؟
لننظر أولا فى القرآن المجيد، فماذا نجد؟ لقد ورد "الجهاد" فى عدد من السياقات والمعانى المختلفة: فمنها مثلا قوله تعالى فى سورتى "العنكبوت" و"لقمان" على التوالى يوصى المسلم بأبويه خيرا ويشدد عليه فى الإحسان لهما حتى لو حاولا بكل ما عندهما من جهد أن يصداه عن دينه ويعيداه إلى الشرك الذى لا يقبله عقله ولا يرتاح إليه ضميره: "وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)"، "وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)". ولا أظن أن هناك عاقلا يقول إن "الجهاد" هنا هو قتال غير المسلم لإكراهه على ترك دينه والتحول عنه إلى دين محمد عليه الصلاة والسلام، أو إنه قتال الوالدين لابنهما بالسيف كى يترك الإسلام ويرتد إلى الكفر والعياذ بالله، بل المعنى فى الآيتين هو بذل الوالدين كل ما عندهما من جهد فى التأثير على ابنهما وصَدِّه عن دين الله. وصيغة "فاعَلَ" هنا تعنى أن كلا الطرفين يبذل جهده فى مواجهة الآخر: المشرك لفتنة المسلم عن دينه، والمسلم للاستمساك بدينه والحفاظ عليه وعدم الضعف أمام ضغط والديه، مع إحسان صحبتهما رغم ذلك كله. والآيات السابقة على آية سورة "العنكبوت" مباشرة تشير إلى مدى النَّصَب والمعاناة اللذين كان المسلمون يتعرضون لهما آنذاك: "الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)". والمعنى أن للإيمان ضريبته المكلفة، وأن الأمر ليس مجرد شقشقة باللسان، بل هناك الفتن الفادحة. والمؤمن الحقيقى هو الذى يصبر ويجاهد ويتمسك بإيمانه لا يفرّط فيه مهما تكن شدة تلك الفتن.
وفى سورة "العنكبوت" أيضا نقرأ قول الحق تبارك وتعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)". وهذه السورة، كما هو معلوم، سورة مكية. أى نزلت قبل أن يكون هناك قتال بين المسلمين والكفار، ومن ثم فالجهاد هنا لا يعنى إلا صبر المسلم على ما كان يلقاه على أيدى المشركين من أذى وضر، والاستمساك بدينه فى وجه هذا البلاء وعدم التفريط فيه تحت أى ظرف من الظروف. وكثيرا ما كان الصحابة يشكون للنبى ما ينزل بهم من جهد، يريدون أن يردّوا على الإساءة بمثلها، لكنه صلى الله عليه وسلم كان ينصحهم بالصبر والتحمل إلى أن يجعل الله لهم من ذلك العناء فرجا ومخرجا. ومن نفس الوادى الآية الثانية والخمسون من سورة "الفرقان": "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)... وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) ... وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)".
وواضح هنا أيضا أن الجهاد لا يعنى القتال، إذ "الفرقان" هى إحدى سور القرآن المكى، ولم يكن المسلمون قد سُمِح لهم بَعْدُ أن يردّوا العدوان بمثله، بل كان الشعار آنذاك هو الصبر والإغضاء على الأذى كما تَقَدَّم بيانه. لكن لما زاد الأمر عن حده ولم يعد هناك مفر من المواجهة بعد أن قدّموا كل ما يمكنهم تقديمه من التسامح والعفو ولم يأت شىء من ذلك بثمرة، كان لا بد لهم من قتالِ مَنْ قاتلهم وضَرْبِ من يضربهم، فالعين بالعين، والسن بالسن، والبادئ أظلم. وهذه هى الحياة، وإلا أكل القوىُّ الوقحُ الحيىَّ المسالم. لكن ليس فى القرآن أى كلام عن إجبار الآخرين على اعتناقه، فالإسلام لم يعرف ما عرفته الكنيسة من التسلط على العقول وترويع الآخرين والتفتيش فى ضمائرهم وتعذيبهم وتحريقهم حتى يدخلوا فى دينها، وذلك رغم ما تتشدق به الكنيسة من كلام جميل عن التسامح المطلق الذى يوجب على صاحبه أن يدير خده الأيسر لمن يصفعه على خده الأيمن... إلى آخر هذا الكلام الذى لا يصلح لدنيا البشر إلا لوقت معلوم وفى ظروف خاصة، ويقتصر على خلافات الأفراد داخل المجتمع الواحد، وإلا كانت كارثة. وفى القرآن آيات متعددة توصى بالصبر وعدم الرد على السيئة بمثلها، وآيات أخرى تخير المسلم بين الرد والعفو، مع تحبيب الأخير له. وهو ما يدل على أنه لا فرق بين الإسلام والنصرانية فى تحبيب العفو إلى البشر، ولكن إلى حين. ومرة أخرى ينبغى ألا ننسى أن المسيح عليه السلام لم يمكث بعد أن جاءه الوحى أكثر من ثلاث سنوات، على حين أن نبينا صلى الله عليه وسلم قد مكث فى مكة يصبّر أتباعه لا ثلاث سنوات وحسب، بل ثلاثَ سنواتٍ وفوقها عَشْر. كما أن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يكن حاكما على دولة ولا تحت يده أمة هو مسؤول عنها وعن مصيرها مثلما حدث مع النبى بعد الهجرة إلى المدينة، وإلا أفيستطيع أحد أن يزعم أنه كان سيجرى على هذه السنّة إلى أبد الآبدين؟ فمن الذى قال إذن: ما جئت لأُلْقِىَ سلاما بل سيفا؟ إنه المسيح نفسه وليس أحدا آخر سواه.
وعلى هذا فإن قوله عز شأنه فى آخر سورة "الحج": "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)" لا يمكن أن يكون معناه شيئا آخر غير بذل الوسع لإرضاء الله فى كل أمر يستطيعه الإنسان. والأمور التى يستطيعها الإنسان ويرضى ربه بها لا تنتهى، لأنها تشمل كل أمور الحياة من زراعة وتجارة وصناعة وتعليم ودراسة وقراءة وكتابة وسياسة وسفارة وطِبَابة ونجارة وسباكة وخراطة وحدادة، وكذلك قتال العدو المغير بطبيعة الحال كأمريكا وبريطانيا ودول الغرب التى تعاونهما الآن. فعلى المسلم أن يجاهد فى ترقية حياته وحياة أمته وحياة الإنسانية كلها. ولا شك أن كسل المسلم الآن وعدم تنبهه إلى قيمة الجهاد هو الذى أدى به إلى هذا المأزق العسير المؤلم الذى يئنّ منه فى هذه الأيام النَّحِسات، وهو يستحقه إلى حد كبير لأنه أضاع الفرصة تلو الفرصة على مدى قرون كاملة حتى انتهى به الأمر إلى وضعه البائس الحالى الذى جَرّأ عليه أعداءه تلك الجرأةَ المهينةَ التى نبلوها ونذوق كأسها المرة كاملة كل يوم والتى سيكون حساب الأمة عنها فى غاية العسر يوم القيامة، ولاتَ ساعةَ مَنْدَم.
فإذا تحولنا بوجوهنا إلى أحاديث سيد المرسلين ألفينا النصوص الشريفة التالية: ففى صحيح البخارى نقرأ هذا الحديث الذى يجيب فيه الرسول الكريم على سؤال لعائشة يتعلق بحكم اشتراك النساء فى القتال مع الرجال: "قلت: يا رسول الله، ألا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال: لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج، حج مبرور. فقالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم". فها هنا نراه صلى الله عليه وسلم يعد الحج من الجهاد، بل أحسن الجهاد وأجمله. وفى صحيح البخارى أيضا: "قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أجاهد؟ قال: لك أبوان؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهِدْ". وهنا كذلك يعدّ النبى عليه السلام قيام الابن بحاجة والديه جهادا فى سبيل الله. وفى مسند أبى دواود: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم"، وهو ما يدل على أن جهاد الأعداء لا يكون بالقتال فقط، بل بالمال وبالكلمة أيضا كالذى كان يفعله حسان بن ثابت، فإنه كان يجاهد بشعره وفنه. وفى ابن عساكر: "قيل لابن عباس: قد قَدِم حسّان اللعين. قال ابن عباس: ما هو بلعين! قد جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ولسانه". أى أن ما يفعله واحد مثلى الآن بقلمه (أو بالأحرى: بــ"كاتوبه"، إذ لم أعد أكتب بالقلم بل بالكاتوب مباشرة)، يدخل فى باب الجهاد، وإن كان الأجر متوقفا على أن أكون مخلصا فى علمى لا أبتغى فيه السمعة ورئاء الناس وأن أكون قد بذلت أقصى جهدى حتى تبين لى أن هذا الأسلوب هو الأسلوب السليم وليس مجرد حماسة هوجاء لا عقل لها ولا هدف واضح أمامها، وهذا أمر لا يبت فيه إلا الله سبحانه. وفى صحيح الترمذى: "المجاهد من جاهد نفسه"، أى كف عن الشهوات وقام بواجب الطاعة لله سبحانه وبذل وسعه فى عمله وشمر عن ساعد الجِدّ فى ساح العمل والإنتاج، ولم يركن إلى الكسل أو الغش أو الاحتكار أو أسلوب سلق البيض، بل صبر على تكاليف الإتقان والتدقيق والإبداع والسعى فى طلب العلم، فإن كل هذه مشقات تكرهها النفس عادة ولا تريد أن تتجشم فيها شيئا من التعب لو أمكن، فبيّن النبى عليه السلام أن الجهاد الحقيقى هو جهاد النفس بصَبْرها على تأدية الواجب، ومَنْعها من مقارفة المعصية، وما أكثر الواجبات، وما أكثر المعاصى! ومما رواه ابن تيمية من الأحاديث الشريفة قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، والمهاجر من هجر السيئات، والمجاهد من جاهد نفسه لله". فقد جعل النبى الجهاد هو جهاد النفس، وهذا هو ما قلناه ونقوله، وهو لا يلغى الجهاد الذى هو قتال العدو بالسيوف والبنادق والمدافع والصواريخ والدبابات وما أشبه، بل يشمله فيما يشمل، إذ هو لون من مجاهدات النفس قد يكون أفضلها فى بعض الأحيان، وقد يكون غيره أفضل منه، وقد تكون ألوان الجهاد كلها متساوية، وكل ذلك حسبما تقتضيه الظروف، إلا أنه ليس اللون الوحيد على أية حال. ومثله ما رواه الحافظ العراقى من قوله عليه السلام: "المهاجر من هجر السوء، والمجاهد من جاهد هواه". وفى الصحيح الجامع للألبانى: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسُنّته ويتقيدون بأمره. ثم إنها تَخْلُفُ من بعدهم خُلُوفٌ يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". وفى صحيح الترمذى: "إن من أعظم الجهاد كلمةَ عدلٍ عند سلطانٍ جائر"، وهو مما ينقص أمة الإسلام اليوم إلى حد كبير، إذ كلنا (إلا من رحم الله، وقليل ما هم) نخشى السلطان الجائر، وكثير منا ينافقونه ويُورِدونه ويُورِدون أنفسَهم والأمةَ كلها معهم موارد الهلكة كالذى نحن فيه الآن.
إذن فالجهاد ليس هو القتال ضربة لازب، كما أنه لا يعنى قتال الآخرين بغية إكراههم على اعتناق الإسلام، والدليل على هذا هو قوله سبحانه وتعالى من سورة "البقرة": "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)". فمن البيّن الذى لا يمكن الجدال فيه أن الإسلام لا يقرّ العدوان من جانب المسلمين أبدا، بل يقيم تعامله مع المشركين على أساس من مواقفهم: فإن قاتلوا المسلمين فعلى المسلمين مقاتلتهم، وإن كفوا أيديهم عنهم سكت المسلمون كذلك... وهكذا. وفى قوله جل جلاله من سورة "الأنفال": "إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)" نبصر بكل وضوح واطمئنان أن المشركين إذا غدروا بالمسلمين ولم يوفوا بما عقدوه معهم من عهد كان للمسلمين أن يقاتلوهم ويقتلوهم، فإذا جنحوا للسلم وجب على المسلمين الجنوح إليها والتوكل على الله، وإذا شعروا أن هناك نية غدر فأقصى ما يستطيعونه أن يعالنوهم بأنه لا معاهدة بينهم منذ اليوم: هكذا بكل وضوح، ودون مبادلةٍ لغَدْرهم بغَدْرٍ مثله.