اسرار القران (125)

125)‏ فالتقمه الحوت وهو مليم‏*‏
‏(‏ الصافات‏:142)‏
بقلم الدكتور‏:‏زغـلول النجـار
هـــذه الآية الكريمة جاءت في أوائل العشر الأخير من سورة الصافات‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وعدد آياتها‏(182)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الاسم لاستهلالها بقسم من الله تعالي ـ وهو الغني عن القسم لعباده ـ وجاء القسم بملائكته الأطهار الذين وصفتهم السورة الكريمة بعدد من صفاتهم التي من أولاها أنهم لاينفكون عن عبادة ربهم‏,‏ ويصطفون في طاعته صفوفا منتظمة بأفضل مما يصطف كثير من عباد الله المكلفين‏.‏ ويأتي جواب القسم بقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏).‏

إن إلهكم لواحد‏*‏ رب السموات والأرض ومابينهما ورب المشارق‏*(‏ الصافات‏:5,4)‏
ويدور المحور الرئيسي للسورة الكريمة حول عدد من الركائز الأساسية للعقيدة الإسلامية وفي مقدمتها توحيد الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ توحيدا كاملا‏,‏ وتنزيهه عن كل وصف لايليق بجلاله من مثل نسبة الشريك‏,‏ أو الشبيه‏,‏ أو المنازع‏,‏ أو الصاحبة أو الولد لذاته العلية‏,‏ وهذه كلها من صفات المخلوقين والله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ منزه عن جميع صفات خلقه‏:‏

ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏*‏
‏(‏الشوري‏:11)‏
ومن ركائز العقيدة الإسلامية ـ أيضا ـ الإيمان بملائكة الله‏,‏ ورسله وباليوم الآخر وأهواله‏,‏ وبالوحي وحقيقته وضرورته‏,‏ وبالبعث وحتميته‏,‏ وبالخلود في الآخرة إما في الجنة أبدا أو في النار أبدا‏.‏
وللتدليل علي حقيقة هذه الركائز الإيمانية استشهدت سورة الصافات بالعديد من حقائق الكون وظواهره علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في الخلق‏,‏ وعلي أن الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ قادر علي إفناء خلقه‏,‏ وعلي بعثه من بعد إفنائه‏,‏ وكانت قضية البعث هي حجة الكافرين والمتشككين والضالين الفاسدين عبر التاريخ‏:‏

أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون‏*‏ أو آباؤنا الأولون‏*‏ قل نعم وأنتم داخرون‏*‏
‏(‏الصافات‏:16‏ ـ‏18)‏
كذلك وظفت سورة الصافات هذه الإشارات الكونية في تفنيد دعاوي المبطلين من أهل الكفر والشرك والضلال‏,‏ وفي تطهير عقولهم المتخلفة‏,‏ ونفوسهم المريضة من هذا الكم الهائل من الخرافات والأساطير التي عششت في أدمغتهم بغوايات من شياطين الإنس والجن‏,‏ وأطماعهم في استلاب شيء من حطام هذه الدنيا الفانية‏.‏
واستعرضت سورة الصافات سير عدد من الأنبياء والمرسلين الذين بعثوا قبل خاتمهم‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏)‏ منهم نوح‏,‏ ابراهيم‏,‏ اسحق‏,‏ موسي‏,‏ وهارون‏,‏ إلياس‏,‏ لوط‏,‏ ويونس‏(‏ علي نبينا وعليهم من الله السلام‏)‏ وعرضت لشيء من تفاعل أممهم معهم وكيف كان ثواب المصدقين وعقاب المكذبين من تلك الأمم‏.‏

كذلك عرضت السورة الكريمة لشيء من أحداث الآخرة ومواقف كل من المؤمنين المكرمين في الجنة‏,‏ والكافرين والمشركين المعذبين في النار‏.‏
وتشير سورة الصافات الي محاولات مردة الجن وشياطينهم من أجل استراق السمع علي أهل السماء‏,‏ وأكدت أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد سخر الشهب الثاقبة لتتبعهم ودحرهم‏,‏ وأنه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ قد توعدهم بعذاب شديد‏.‏

ثم توجه السورة الكريمة الخطاب إلي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بالأمر الإلهي أن يسأل منكري البعث‏,‏ المستبعدين لإمكانية وقوعه أن ينظروا في خلقهم من طين لازب‏,‏ وإلي ضعفهم وحاجتهم إلي رعاية ربهم‏,‏ وهم محدودون بحدود مكان كل فرد منهم في بقعة محددة من الأرض‏,‏ وبحدود زمانه‏(‏ أي عمره‏),‏ ومقارنة ذلك بخلق السماوات والأرض بأبعادهما المذهلة‏,‏ وأجرامهما اللا نهائية‏,‏ وأعمارهما المتطاولة‏(‏ إلي بلايين السنين‏)‏ فيدرك هؤلاء المنكرون للبعث أن الذي خلقهم من طين لازب‏,‏ وحددهم بحدود المكان والزمان‏,‏ وخلق الكون بهذا الاتساع الهائل‏,‏ وتلك الضخامة المذهلة قادر علي بعث آبائهم الأولين وهم أذلاء صاغرون‏.‏
ثم تعرض سورة الصافات لوصف موقف من مواقف الآخرة‏,‏ وقد أطلقت صيحة البعث‏,‏ والناس يخرجون من قبورهم مشدوهين‏,‏ مذعورين‏,‏ فزعين‏,‏ ومن بينهم الذين كانوا ينكرونه في الدنيا‏,‏ ويسخرون من إمكانية وقوعه ولسان حالهم يقول

‏..‏ ياويلنا هذا يوم الدين‏(‏ الصافات‏:20)‏
ويأتيهم الجواب الصادع‏:‏

هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون‏*‏ أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم وماكانوا يعبدون‏*‏ من دون الله فاهدوهم إلي صراط الجحيم‏*‏ وقفوهم إنهم مسئولون‏*‏
‏(‏الصافات‏:21‏ ـ‏24).‏

وتستطرد الآيات في إستكمال عرض هذا المشهد من مشاهد الآخرة‏:‏ والكفار والمشركون‏,‏ والعصاة الفاسدون‏,‏ والظلمة المتجبرون علي الخلق عاجزون كل العجز عن مناصرة بعضهم بعضا‏,‏ والذين اتبعوا والذين اتبعوا من المشركين ومن شركائهم يتلاومون‏,‏ ويتبادلون تهم الضلال والغواية فيما بينهم‏,‏ وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون‏*‏ إنا كذلك نفعل بالمجرمين‏*‏ إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون‏*‏ ويقولون أننا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون‏*‏ بل جاء بالحق وصدق المرسلين‏*‏ إنكم لذائقو العذاب الأليم‏*‏ وماتجزون إلا ماكنتم تعملون‏*‏
‏(‏الصافات‏:33‏ ـ‏39).‏

وفي قول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ في هذه الآيات الكريمات عن خاتم أنبيائه ورسله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ مانصه‏:‏ بل جاء بالحق وصدق المرسلين‏*(‏ الصافات‏:37)‏ فيه تأكيد من الله‏(‏ تعالي‏)‏ لنبوة سيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ ولصدق رسالته‏,‏ وبرهان من خالق السماوات والأرض علي وحدة رسالة السماء‏,‏ وعلي أخوة الأنبياء‏,‏ وهو في الوقت نفسه رد جازم‏,‏ قاطع من الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ علي الذين كذبوا ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏),‏ وعلي الذين تطاولوا في الماضي القريب والبعيد‏,‏ أو يتطاولون اليوم علي شخصه الكريم بألسنتهم البذيئة‏,‏ وأقلامهم المأجورة في محاولة يائسة للنيل من قدره وهو الذي شرفه الله‏(‏ تعالي‏)‏ فوق جميع خلقه‏,‏ وختم ببعثته الشريفة دعوة جميع أنبيائه ورسله‏,‏ وجعله مثلا أعلي للإنسانية في كمالها البشري‏,‏ ونموذجا يحتذي لمن أراد الجنة من إنسه وجنه‏.‏ وعلي الذين يقعون في هذه الخطيئة المنكرة‏,‏ ويتسترون خلف شاشات شبكة المعلومات الدولية او ما يعرف باسم الشبكة العنكبوتية كخفافيش الظلام‏,‏ التي تهاب النور‏,‏ ينفثون من خلال تلك الشبكة أحقادهم الدفينة‏,‏ وسمومهم البغيضة‏,‏ وأحكامهم الجائرة المنطلقة من جهلهم الفاضح بالدين‏,‏ وعلي هؤلاء أن يدركوا أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قادر علي أن يشل ألسنتهم‏,‏ وأن يجمد الدماء في عروقهم‏,‏ وأن يجعلهم عبرة للمعتبرين كما جعل من أمثالهم السابقين‏..‏ وهو سبحانه يمهل ولايهمل‏.‏

وتقارن الآيات في سورة الصافات بين إكرام الله‏(‏ تعالي‏)‏ لعباده المؤمنين في الآخرة بتنعيمهم في جنات الخلد‏,‏ وبالفوز العظيم برضاه‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وبين إذلاله للكفار والمشركين في نار جهنم‏,‏ وهم يصطلون بجحيمها‏,‏ ويأكلون من زقومها‏,‏ ويغرقون في شوب من حميم فيها‏.‏
وتستمر الآيات في سورة الصافات لتؤكد أن أكثر الأمم السابقة قد ضلوا ضلالا بعيدا علي الرغم من إرسال الأنبياء والمرسلين إليهم منذرين من مغبة الكفر بالله أو الشرك به‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ ومن مغبة معصيته والخروج عن المنهج الذي وضعه لاستقامة الحياة علي الأرض‏,‏ وفي إثبات ذلك استعرضت هذه السورة المباركة سير عدد من أنبياء الله ورسله مجلية معية الله‏(‏ تعالي‏)‏ لهم وللذين آمنوا معهم من عباده الصالحين‏,‏ ورحمته بهم‏,‏ وتعهده بنصرتهم علي أعدائهم‏,‏ ودحر الكفار والمشركين والتنكيل بهم في الدنيا قبل الآخرة‏,‏ وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏

ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين‏*‏ ولقد أرسلنا فيهم منذرين‏*‏ فانظر كيف كان عاقبة المنذرين‏*‏
‏(‏الصافات‏:71‏ ـ‏73)‏

وتعاود الايات توجيه الخطاب إلي خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏)‏ ليقوم بالرد علي عدد من الخرافات والأساطير التي ابتدعها أهل الزيغ والضلال من الكفار والمشركين‏,‏ والتي منها الإدعاء الباطل بوجود نسب بين الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وبين الجن‏,‏ وأنه بناء علي هذه العلاقة المختلقة الكاذبة كانت الملائكة الذين ادعي المبطلون عليهم كذبا بأنهم إناث‏,‏ وهم ليسوا كذلك‏....!!‏ وكذلك الادعاء الباطل علي الله‏(‏ تعالي‏)‏ بنسبة الصاحبة أو الولد إليه وهما من صفات المخلوقين‏,‏ والله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ منزه عن جميع صفات خلقه ولذلك قال‏(‏ عز من قائل‏):‏
فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون‏*‏أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون‏*‏ ألا إنهم من إفكهم ليقولون‏*‏ ولد الله وإنهم لكاذبون‏*‏ أصطفي البنات علي البنين‏*‏ مالكم كيف تحكمون‏*‏أفلا تذكرون‏*‏ أم لكم سلطان مبين‏*‏ فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين‏*‏ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون سبحان الله عما يصفون‏(‏ الصافات‏:149‏ ـ‏159).‏

وتكرر السورة الكريمة في خواتيمها وعد الله لأنبيائه ورسله ولجنده المؤمنين بالنصر والتمكين‏,‏ ووعد الله حق لايخلف‏,‏ ولذلك تطالب الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بإعتزال الكفار والمشركين لأنهم يستعجلون نزول عذاب الله‏,‏ وهو واقع بهم لامحالة‏,‏ وفي ذلك يقول الحق‏(‏ تبارك وتعالي‏):‏
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين‏*‏ إنهم لهم المنصورون‏*‏ وإن جندنا لهم الغالبون‏*‏ فتول عنهم حتي حين‏*‏ وأبصرهم فسوف يبصرون‏*‏ أفبعذابنا يستعجلون‏*‏ فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين‏*‏ وتول عنهم حتي حين وأبصر فسوف يبصرون‏*‏
‏(‏الصافات‏:171‏ ـ‏179).‏

وتختتم سورة الصافات بخطاب إلي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين‏),‏ وإلي كل مؤمن آمن به وبهم‏,‏ يؤكد تنزيه الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عن كل وصف لايليق بجلاله‏,‏ وإفراده‏(‏ جل شأنه‏)‏ بالربوبية المطلقة فوق جميع خلقه‏,‏ ويؤكد كذلك علي الأخوة بين جميع الأنبياء والمرسلين‏,‏ وعلي ضرورة الحمد لله رب العالمين الذي يقول في ختام هذه السورة المباركة مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله‏:‏
سبحان ربك رب العزة عما يصفون‏*‏ وسلام علي المرسلين‏*‏ والحمد لله رب العالمين‏*‏
‏(‏الصافات‏:180‏ ـ‏182).‏

نبي الله يونس في القرآن الكريم
سمي ربنا‏(‏ تبارك وتعالي باسم عبده ونبيه يونس‏(‏ عليه السلام إحدي سور القرآن الكريم‏,‏ وذكره ست مرات في هذا الكتاب المجيد‏:‏ وجاء ذلك باسمه الصريح في أربع منها‏(‏ النساء‏:163;‏ الأنعام‏:86,‏ يونس‏:98;‏ والصافات‏:139),‏ ومرة بكنيته‏:‏ ذا النون‏(‏ الأنبياء‏:87),‏ ومرة أخري بصفته‏:‏ صاحب الحوت‏(‏ القلم‏:48).‏
وهذا النبي الكريم عرفه لنا المصطفي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ باسم يونس بن متي وذلك بقوله الشريف‏:‏ لاينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متي
‏(‏ البخاري ومسلم‏)‏

ونبي الله يونس بن متي بعث إلي أهل نينوي وهي محافظة في الشمال من أرض العراق‏(‏ التي ندعو الله تعالي أن يطهرها من دنس الغزو الأنجلو أمريكي الصهيوني‏/‏ الصليبي الحاقد في أقرب وقت إن شاء الله تعالي‏).‏ وتعرف هذه المحافظة اليوم باسم محافظة الموصل‏.‏ ومدينة نينوي كانت عاصمة للإمبراطورية الآشورية بعد مدينة آشور‏,‏ ويرجع ذلك إلي الألف السادسة قبل الميلاد‏,‏ وإن لم تصل أوج ازدهارها إلا في النصف الأول من الألف الأخيرة‏,‏ قبل الميلاد ثم دمرت في سنة‏612‏ قبل الميلاد‏,‏ وبقيت أطلالها علي الضفة الشرقية من نهر دجلة في مقابلة مدينة الموصل تقريبا‏,‏ ولايفصلهما إلا النهر‏,‏ وعلي الرغم من تدمير المدينة إلا أن بعض القبائل العربية قد سكنتها حتي العصور الوسطي‏.‏
وكان أهل نينوي قد انتكسوا إلي عدد من الوثنيات القديمة فعبدوا الأصنام بعد أن كانوا علي التوحيد الخالص لله‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ فبعث الله إليهم نبيه يونس بن متي‏(‏ عليه السلام‏)‏ يدعوهم إلي الإسلام‏,‏ ويردهم إلي التوحيد من جديد‏,‏ وبعد أن أقام فيهم ردحا من الزمن يدعوهم عصوه وكذبوه‏,‏ فهددهم بعذاب الله‏,‏ وتوعدهم به‏,‏ ثم خرج غاضبا من بين ظهرانيهم قبل أن يأذن الله‏(‏ تعالي‏)‏ له بالخروج فلامه ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ علي ذلك بقوله‏(‏ عز من قائل‏):‏
وإن يونس لمن المرسلين‏*‏ إذ أبق الي الفلك المشحون‏*‏ فساهم فكان من المدحضين‏*‏ فالتقمه الحوت وهو مليم‏*‏ فلولا أنه كان من المسبحين‏*‏ للبث في بطنه إلي يوم يبعثون‏*‏ فنبذناه بالعراء وهو سقيم‏*‏ وأنبتنا عليه شجرة من يقطين‏*‏ وأرسلناه إلي مائة ألف أو يزيدون‏*‏ فآمنوا فمتعناهم إلي حين‏*‏
‏(‏الصافت‏:139‏ ـ‏148).‏

ومعني هذه الآيات المباركات أن يونس‏(‏ عليه السلام‏)‏ حين خرج من نينوي مغاضبا لقومه ركب البحر في محاولة للابتعاد عنهم‏,‏ ولكن ـ علي عادة القرآن الكريم الذي لايدخل في التفاصيل الدقيقة للحدث حتي لايصرف القاريء عن العبرة منه ـ لم يذكر لنا اسم البحر‏,‏ وهنا تساءل المفسرون هل وقع هذا الحدث التاريخي في إحدي البحيرات القريبة من نينوي مثل بحيرة إرميا في أقصي الشمال الغربي من إيران؟ أو في البحر الأبيض المتوسط ؟ أو في أي من بحر قزوين أو البحر الأسود؟ وهي البحار الكبري من حول نينوي؟
الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ وحده الذي يعلم حقيقة هذا البحر الذي التقم أحد حيتانه العملاقة نبي الله يونس‏(‏ عليه السلام‏)‏ الذي مع هول المفاجأة ظل يردد‏:‏ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجاب الله‏(‏ تعالي‏)‏ لإستغاثته‏,‏ وأمر الحوت أن يلفظه علي الشاطيء بعد هذه التجربة القاسية لعله يفهم العظة من الدرس الذي تلقاه والتي تتلخص في أنه‏(‏ عليه السلام‏)‏ ماكان له أن يتصرف في شأن من شئون الدعوة التي كلفه الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بها بغير إذن منه‏(‏ جل وعلا‏).‏

وتروي لنا الآيات بعد ذلك أن يونس الذي ألقي الحوت به علي الساحل وهو في حالة من الذهول والإعياء والهزال الشديد‏,‏ أنبت الله‏(‏ تعالي‏)‏ عليه شجرة من يقطين‏,‏ سترته‏,‏ وأظلته‏,‏ وربما تناول شيئا من ثمارها‏,‏ ولامست جسده أوراقها العريضة فعوفي من سقمه‏,‏ وغفر له ماتقدم من ذنبه‏,‏ ثم عاد إلي قومه الذين رأوا أن إرهاصات العذاب الذي توعدهم به نبيهم قد بدأت في الظهور فسارعوا بالتوبة الي الله‏(‏ تعالي‏),‏ وبالإنابة إليه حتي كشف عنهم العذاب‏,‏ وعادوا مسلمين موحدين لله‏(‏ تبارك اسمه‏),‏ مقيمين لشعائره‏,‏ نابذين لجميع ماسبق لهم أن عبدوه من أصنام وأوثان‏,‏ فسعد بهم يونس وسعدوا به‏,‏ وعاش بينهم داعيا إلي الله علي بصيرة حتي لقي ربه راضيا مرضيا بإذن الله‏.‏
وعاش أهل نينوي علي الإسلام الصافي لعدة قرون بعد نبيهم يونس بن متي‏(‏ عليه السلام‏)‏ ولكن بدأت الإنحرافات عن منهج الله تجتاح أهل هذه المحافظة بالتدريج حتي عادوا إلي وثنياتهم القديمة فضلوا‏,‏ وأضلوا‏,‏ وإن بقي بينهم بعض الأحناف الذين تمسكوا ببقايا الحق القديم‏,‏ وكان منهم عداس مولي ولدي ربيعة الذي لقيه رسول الله‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ في طريق عودته من الطائف إلي مكة المكرمة وشهد لسيدنا محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ بالنبوة وبالرسالة لمجرد تسميته باسم الله قبل تناول الطعام‏,‏ وذكره لنبي الله يونس بن متي‏.‏
ومع تفشي الشرك بالله‏,‏ والعودة إلي عبادة الأوثان والأصنام غضب الله علي أهل نينوي فسلط عليهم من دمر إمبراطوريتهم في حدود سنة‏612‏ ق‏.‏ م‏.‏ فأصبحت أثرا بعد عين‏...,‏ وأحاديث يرويها كل من المؤرخين‏,‏ والآثاريين‏,‏ ودروسا يعتبر بها أصحاب البصائر والعقول إلي يومنا الراهن وإلي أن يشاء الله‏.‏ وفي الترجمة الإنجليزية لسفر يونان من العهد القديم جاء ذكر أن الذي ابتلع يونس سمكة والذي أظله شجرة عنب وفي الترجمة العربية جاء ذكر الحوت وشجرة اليقطين والنشرة العربية صادرة عن دار‏(‏ الكتاب المقدس في الشرق الأوسط والانجليزية صادرة عن
‏Thompson Chain Reference Bible, NewInternational Version .1978‏

من ركائز العقيدة في سورة الصافات
‏(1)‏ الإيمان بالله‏(‏ سبحانه وتعالي‏),‏ وبملائكته‏,‏ وكتبه ورسله‏,‏ وباليوم الآخر‏,‏ وتوحيده‏(‏ جل شأنه‏),‏ وتنزيهه عن كل وصف لايليق بجلاله من نحو نسبة الشريك‏,‏ أو الشبيه‏,‏ أو المنازع‏,‏ أو الصاحبة أو الولد‏,‏ وكلها من صفات المخلوقين‏,‏ والله الخالق منزه عن جميع صفات خلقه‏,‏ فهو رب السماوات والأرض ومابينهما ورب كل شيء‏.‏
‏(2)‏ التسليم بحتمية البعث بعد الموت وأهواله‏,‏ رغم تكذيب المكذبين‏,‏ وإرهاصات الكافرين‏,‏ وتشكيك المتشككين ممن انحط مدلول الألوهية عندهم إلي البشرية الهزيلة‏,‏ فقاسوا علي الله‏(‏ تعالي‏)‏ بمقاييس البشر فاستحال عليهم فهم إمكانية البعث استحالة كاملة‏.‏

‏(3)‏ التصديق بأن مصير الكفار والمشركين وأعوانهم جميعا إلي نار جهنم‏,‏ وهم في العذاب مشتركون‏,‏ ومن هؤلاء من كان يستكبر في الدنيا علي كلمة التوحيد‏,‏ ومن تطاول علي خاتم الأنبياء والمرسلين‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وقد جاء بالحق وصدقهم أجمعين‏,‏ دون أدني تمييز أو تفريق‏,‏ ومنهم من كفر ببعثته الشريفة علي الرغم من وضوح حجته وضوح الشمس في رابعة النهار‏,‏ ومنهم من تطاول علي كتاب الله وهو الحق الوحيد الموجود بين أيدي الناس اليوم في قضية الدين‏.‏
‏(4)‏ الإيمان بأن عباد الله المخلصين سوف يكرمهم الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بإدخالهم في جنات النعيم‏,‏ والتسليم بكل صور التكريم التي وعدهم بها ربهم الكريم‏.‏

‏(5)‏ التصديق بكل صور العذاب الذي لحق بجميع الذين اتبعوا آباءهم علي ضلال فضلوا‏,‏ من الأمم السابقة التي جاءتهم رسلهم بالإنذار من رب العالمين فاستخفوا بهم وبرسالتهم ولذلك أصابهم العذاب الأليم‏.‏ والتصديق كذلك بكل صور التكريم التي كرم بها ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ عباده المخلصين من الأنبياء والمرسلين‏,‏ ومن تبعهم بإحسان في الدنيا قبل الآخرة‏,‏ وماجزاء الدنيا في الآخرة إلا قليل‏..‏ والإيمان بقصص الأنبياء وبجميع القصص الذي جاء بالقرآن الكريم‏.‏
‏(6)‏ الإيمان بتنزيه الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ عن كل وصف وصفه به أهل الكفر والشرك والضلال ممن جعلوا بينه وبين الجنة نسبا‏,‏ أو ادعوا له صحابة وولدا‏,‏ فالله‏(‏ جل شأنه‏)‏ لايوصف إلا بما وصف به ذاته العلية‏,‏ ومن ذلك مغايرته لجميع خلقه‏:‏
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏*‏
‏(‏الشوري‏:11).‏

‏(7)‏ اليقين بأن النصر في النهاية لعباد الله المخلصين‏,‏ وإن علا الباطل وزاد‏,‏ واستعلي وتجبر‏,‏ فالأمور كلها بيد الله يصرفها حسب مشيئته‏,‏ وهو‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لايرضي للكافرين أن يسودوا عباده المؤمنين‏.‏

من الدلالات العلمية لقول الحق تبارك وتعالي‏:‏
فالتقمه الحوت وهو مليم‏*‏
وردت لفظة‏(‏ حوت‏)‏ بالمفرد والجمع في القرآن الكريم خمس مرات بمعني صيد البحر‏,‏ وجاءت في أربع منها بمعني السمكة أو السمك‏,‏ وفي مرة واحدة جاءت بمعني أضخم حيوان بحري‏,‏ أو أضخم حيوان عمر الأرض علي الإطلاق وهو حيوان الحوت عديم الأسنان لكي يكون قادرا علي ابتلاع رجل كامل دون أن يؤذيه لضخامة فمه وانعدام أسنانه‏,‏ وضيق حلقه عن ابتلاعه في جوفه‏,‏ ووفرة الأكسجين في مجاري تنفسه‏.‏
والتعبير‏(‏ حوت‏)‏ يطلق علي ما عظم وما قل من صيد البحر لأنه مشتق من الفعل‏(‏ حاوت‏)‏ بمعني راوغ‏,‏ وأغلب الحياة البحرية تجيد المراوغة في محاولة للنجاة بنفسها من الافتراس أو الصيد‏,‏ ولذلك يطلق لفظ‏(‏ الحوت‏)‏ علي أغلب أنواع الحياة المتحركة في الأوساط المائية ومنها الأسماك والحيتان والدلافين وأشباهها‏.‏

والحيتان‏(Whales)‏ حيوانات بحرية‏,‏ ثديية‏,‏ لبونة‏,‏ ذات دم حار‏,‏ لكل فرد منها رئتان يتنفس بهما الهواء مباشرة وليست لها خياشيم كالأسماك‏.‏ والحيتان تلد‏,‏ وترضع الأنثي فيها صغارها‏,‏ وتضم الحيتان بمختلف أنواعها والدلافين‏(Dolphins)‏ أو الجوثيات في رتبة واحدة تعرف باسم رتبة الحوتيات‏(OrderCetacea).‏ ومن الحيتان ماله أسنان‏,‏ ومنها عديم الأسنان‏,‏ وتتميز الحيتان عموما بأجسامها الانسيابية التي ترق في اتجاه الذيل وبذلك تشبه أجسام الأسماك حتي تتواءم مع طبيعة حياتها البحرية‏,‏ وإن كانت أحجامها تفوق أكبر الأسماك حجما بأضعاف كثيرة‏.‏ ويساعد علي حركة أجسام هذه الحيتان العملاقة ذيل علي هيئة زعنفة أفقية‏(‏ بينما زعانف الأسماك رأسية‏),‏ ويغطي أجساد الحيتان طبقة سميكة من الدهن‏(5‏ سم ــ‏30‏ سم في السمك‏)‏ تعمل علي حماية جسم الحوت من البرد‏,‏ وتحفظ له درجة حرارة ثابتة‏.‏ وجسم الحوت نظيف من الطفيليات بصفة عامة‏,‏ فإن وجدت فتحيا حياة خارجية علي الزعانف والذيل‏.‏ وعلي الرغم من أن الحوت يسبح قريبا من سطح الماء في البحر حتي يتسني له رفع رأسه فوق سطح الماء للتنفس بالهواء الذي يعلوه كل‏(10)‏ إلي‏(15)‏ دقيقة إلا أن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد أعطاه القدرة علي الغوص إلي أعماق من البحار والمحيطات متوسطة‏(100‏ متر‏)‏ وعميقة‏(‏ أكثر من‏500‏ متر‏)‏ والحيتان لها قدرة علي الحركة حتي في تلك الأعماق من البحار والمحيطات والبقاء فيها من‏10‏ ــ‏15‏ دقيقة وبحد اقصي‏50‏ دقيقة ثم تصعد إلي السطح‏.‏ ومن أضخم أنواع الحيتان علي الإطلاق‏,‏ بل أضخم حيوان عاش علي أرضنا عبر تاريخها الطويل هو نوع من أنواع الحيتان عديمة الأسنان يعرف باسم الحوت الأزرق ويتبع رتيبة خاصة تعرف باسم رتيبة الحيتان عديمة الأسنان‏(SuborderMysticeti)‏ ويتميز هذا الحوت الأزرق العملاق
‏(TheBlueWhale=Balaenopteramusculus)‏

بلون جلده الأزرق المائل إلي الدكنة‏(‏ أو اللون الرمادي‏)‏ والمنقط بعدد من النقاط الأفتح قليلا في اللون‏,‏ وهو صاحب أضخم جثة لكائن حي عمر الأرض في القديم والحديث‏,‏ وصاحب أعلي نبرة صوت لكائن حي‏,‏ ويصدر عن الحيتان أصوات عميقة ومدوية ذات ذبذبات منخفضة تنتشر إلي مسافات بعيدة في الوسط المائي مما يمكنها من الاتصال ببعضها بعضا عبر مئات الأميال‏.‏ ويتراوح طول الفرد البالغ من الحيتان الزرقاء بين‏20‏ مترا‏,‏ و‏33‏ مترا‏,‏ ويتراوح وزنه بين‏90‏ طنا‏,‏ و‏180‏ طنا‏,‏ ويكون رأسه ربع طول جسده‏,‏ وجسمه الطويل يستدق في اتجاه الذنب وهذا العملاق الذي وهبه الله تعالي بسطة في الجسم‏(‏ لم يهبها لمخلوق آخر نعرفه‏)‏ يتميز بالهدوء الشديد‏,‏ وبالحياء والخجل‏,‏ وهو يسبح علي سطح مياه البحار والمحيطات بسرعة تتراوح بين‏20‏ كيلو متر‏/‏ ساعة و‏50‏ كم‏/‏ ساعة‏.‏ ويعيش في مجموعات صغيرة أو كبيرة‏,‏ ويتراوح عمر الفرد من أفراده بين‏30‏ و‏80‏ سنة‏.‏ وأنثي الحوت الأزرق أكبر حجما من الذكر‏,‏ مما يعينها علي حمل ورعاية صغارها‏,‏ وتبدأ الإناث في الحمل من سن‏(5)‏ ـ‏(10)‏ سنوات‏,‏ وتضع مولودا واحدا كل‏(2)‏ ـ‏(3)‏ سنوات‏,‏ بعد فترة حمل تطول من‏(10)‏ إلي‏(12)‏ شهرا‏.‏ وعجل الحوت الأزرق يرضع من أمه أكثر من خمسين جالونا من اللبن في اليوم الواحد‏,‏ ويزداد وزنه بمعدل عشرة أرطال في الساعة أي أكثر من‏200‏ رطل في اليوم وذلك في أسابيعه الأولي‏.‏ وعند مولده يصل طول عجل الحوت الأزرق إلي سبعة أمتار‏,‏ ووزنه إلي طنين‏,‏ وبعد سنة من العمر يصل طوله إلي‏18‏ مترا‏,‏ وتواصل الأم إرضاع صغيرها ما بين‏(7)‏ ـ‏(8)‏ شهور‏,‏ وبحد أقصي إلي سنة ثم يفطم‏.‏

وقد جارت شركات صيد الأسماك علي الحوت الأزرق طوال النصف الأول من القرن العشرين حتي كادت تفنيه‏,‏ ومثل صيده‏90%‏ من صناعة صيد الحيتان حتي وصل مجموع ما تم صيده في فصل واحد من فصول الصيد في سنة‏1931‏ م أكثر من ثلاثين ألفا من الحيتان الزرقاء فقط ونتيجة لذلك أخذت اعدادها في التناقص المستمر في مختلف البحار والمحيطات حتي أوشك هذا النوع العملاق علي الانقراض‏,‏ وليس أدل علي ذلك من أن الأعداد المتوقعة اليوم من هذا الحيوان العملاق لاتكاد تتعدي الأحد عشر ألفا من أصل يزيد علي المائتي ألف وذلك بفعل كل من الصيد الجائر والتلوث البيئي‏.‏
ويتميز الحوت الأزرق بأنه عديم الأسنان‏,‏ وعوضا عنها زوده الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بعدد من الألواح القرنية التي تتكون من مادة تعرف باسم الكيراتين‏(Keratin),‏ يتراوح بين الثلاثمائة والأربعمائة لوح تعرف باسم البالينات‏(Baleens)‏ وتتدلي من جانبي الفك العلوي‏,‏ ويخرج من كل واحدة من تلك الألواح شعيرات دقيقة في نهاياتها الداخلية باتجاه اللسان‏,‏ وهذه الألواح يبلغ طول الواحد منها أكثر من المتر ويتناقص إلي حوالي نصف المتر في اتجاه مقدمة الفم‏,‏ ويتسع فم الحوت الأزرق ليحتوي خمسين طنا من الماء في الرشفة الواحدة لأن الله‏(‏ تعالي‏)‏ قد زود جسمه بحوالي‏50‏ ــ‏70‏ طية تمتد من بداية الفك السفلي إلي منتصف أسفل الجسم‏(‏ السرة‏)‏ لتساعد علي الانتفاخ عند أخذ هذا الكم الهائل من مياه البحار والمحيطات‏,‏ وما بها من مختلف صور الحياة الهائمة‏(‏ الطافية‏)‏ والسابحة‏,‏ وفي مقدمتها صغار القشريات الشبيهة بالجمبري والتي تعرف باسم كريل‏(Krill).‏ وعند إغلاق الحوت الأزرق لفمه فإن الماء يطرد من خلال ألواح البالينات التي تمسك بما كان فيها من كائنات حية في جهة اللسان من أجل ابتلاعه‏,‏ ويخرج الماء الصافي من جانبي الفم لأن بوزه عريض جدا ومسطح علي هيئة حرف‏(U)‏ وبداخله حافة وحيدة عند مقدمة الفم‏.‏ وبذلك يمكن للفرد البالغ من الحيتان الزرقاء أن يأكل ما بين‏4‏ و‏6‏ أطنان من أحياء البحر الهائمة والسابحة في اليوم الواحد والتي يبلغ عددها في المتوسط أربعين مليونا من الكائنات الحية‏.‏

والحيتان الزرقاء تمضي فصلي الخريف والشتاء في كل من المناطق المعتدلة وشبه الاستوائية حيث تتكاثر‏,‏ وتنتقل في كل من الربيع والصيف إلي المناطق الباردة والقطبية حيث الوفرة في الغذاء الذي تحتاجه‏.‏ ولا يعرف أحد كيف تتوجه الحيتان في مياه البحار والمحيطات لمثل هذه المسافات الطويلة‏,‏ وربما تستخدم في ذلك المجال المغناطيسي للأرض‏,‏ أو الموجات الصوتية التي تحدثها في رسم خرائط طبوغرافية لقاع المحيط وتحديد المواقع عليها بدقة بالغة‏.‏
وللحوت الأزرق منخاران في قمة الرأس يستخدمهما للتنفس فوق سطح الماء‏,‏ ويندفع منهما الماء بشدة إلي أعلي لحوالي العشرة أمتار أثناء الزفير علي هيئة النافورة‏,‏ ويمكن أن يسمع صوت ذلك لعدة أميال‏.‏ ولبعض الحيتان منخار واحد فقط‏.‏ والعضلات القوية للحوت الأزرق التي أعطته اسمه العلمي‏,‏ خاصة عضلات زعانفه الذيلية تعينه علي المناورة بجثته الهائلة إلي أعلي أو إلي أسفل‏,‏ وكائن بهذا الحجم العملاق لو عاش علي الأرض لانسحق هيكله العظمي تحت وزنه الكبير‏,‏ ومن هنا كانت حكمة الله البالغة في جعل الحيتان كائنات بحرية حتي يحملها ماء البحار والمحيطات‏,‏ ولو قدر لكائن بهذا الحجم العملاق ان يحيا علي اليابسة ما كان ممكنا له أن يجد علي اليابسة طعاما يكفيه‏.‏

وكل شيء في الحوت الأزرق عملاق فمتوسط طول الفرد البالغ منه‏(25)‏ مترا للذكر‏,(29)‏ مترا للأنثي‏,‏ ومتوسط وزنه يتراوح بين‏150‏ و‏175‏ طنا‏,‏ مما يصل به إلي حجم الطائرة البوينج العملاقة‏,‏ وقلبه الذي يزن‏-45‏ كيلو جراما يصل إلي حجم سيارة من السيارات الصغيرة ويضخ‏(6400)‏ كيلو جرام من الدم إلي مختلف أجزاء الجسم‏,‏ ولسانه الذي يمتد لأكثر من سبعين مترا في المتوسط يتسع لخمسين رجلا بالغا للوقوف عليه‏,‏ وبلغ من ضخامة عروقه أن رجلا بالغا يمكن له أن يزحف في داخل أحد عروق الدم الرئيسية في جسمه مثل الأبهر‏(‏ الأورطة‏)‏ بمنتهي السهولة‏.‏
من هذا العرض يتضح أن الحوت الذي سخره الله‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ لابتلاع سيدنا يونس بن متي‏(‏ عليه السلام‏)‏ وبما كان من نوع الحوت الأزرق الذي كان يملأ بحار ومحيطات الأرض في عهده‏,‏ وإن كانت هذه معجزة‏,‏ والمعجزات لاتعلل لأنها خوارق للسنن‏,‏ إلا أن من رحمة الله بنا أن أبقي لنا الحيتان ــ بصفة عامة ــ والحيتان الزرقاء ــ بصفة خاصة ــ بضخامتها التي نشهدها‏,‏ وسعة أفواهها التي تتسع لأكثر من خمسين رجلا‏,‏ وانعدام أسنانها‏,‏ ومطاطية حلوقها‏,‏ وضيق بلاعيمها التي لاتتسع لابتلاع أكثر من الكائنات الدقيقة الهائمة أو السابحة في الطبقة العليا من مياه البحار والمحيطات‏,‏ واضطرارها للارتفاع برؤوسها فوق سطح الماء لكي تتنفس الهواء مرة كل‏(10)‏ إلي‏(15)‏ دقيقة‏,‏ ونظافة أجسادها من الطفيليات بصفة عامة‏,‏ وغير ذلك من الصفات التي اختص الخالق‏(‏ سبحانه وتعالي‏)‏ بها الحيتان الزرقاء‏,‏ لكي ييسر علي الإنسان فهم إمكانية حدوث تلك المعجزة فلا يستصعب حدوثها ــ ولو أن الله‏(‏ تعالي لايصعب شيء علي قدرته‏).‏ ومن الغريب أنه في الترجمة الانجليزية لسفر يونان جاءت الإشارة إلي أن الذي ابتلع يونس بن متي سمكة كبيرة‏,‏ وأن الذي اظلته شجرة عنب‏,‏ وفي
الترجمة العربية ابتلعه حوت وأظلته شجرة من يقطين‏(‏ يقطينة‏)‏ ولا نجد تفسيرا لهذا الاختلاف إلا النقل عن القرآن الكريم في الطبعة العربية‏.‏
والإشارة في الآية الكريمة التي نحن بصددها إلي الحوت ــ دون غيره من الحيوانات البحرية ــ للقيام بهذه المعجزة لمما يؤكد أن القرآن الكريم لايمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وخفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية‏,‏ في نفس لغة وحيه‏(‏ اللغة العربية‏)‏ علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد وإلي أن يرث الله‏(‏ تعالي‏)‏ الأرض ومن عليها‏.‏

فالحمد لله الذي أنعم علينا برسالته الخاتمة‏,‏ والحمدلله الذي أكرمنا ببعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ الذي جعل ربنا‏(‏ تبارك وتعالي‏)‏ منه مثلا أعلي للأنبياء‏,‏ وتجسيدا حيا للبشرية في كمالها الإنساني‏,‏ حتي تبقي سيرته العطرة علي مر التاريخ مثلا يحتذي‏,‏ ونورا يجتلي في فهم حقيقة رسالة الإنسان في هذه الحياة‏,‏ وفي معرفة كيفية تحقيق تلك الرسالة علي الوجه الذي يرتضيه الله‏,‏ فيفوز بخيري الدنيا والآخرة‏,‏ والحمدلله علي حفظ كتابه الخاتم وسنة نبيه الخاتم هذا الحفظ المعجز الذي أبقي تعاليم خاتم الأنبياء والمرسلين هادية للخلق أجمعين وكأنه لايزال ماثلا بين ظهراني الثقلين إلي يوم الدين‏,‏ يأمر بأوامر الله‏,‏ وينهي بنواهيه‏,‏ فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين والحمدلله رب العالمين حمد العابدين الشاكرين‏,‏ وهي آخر دعوي المحسنين‏.‏