العلم الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن
من إعجاز القرآن في أعجمي القرآن
العلم الأعجمي في القرآن مفسراً بالقرآن
المؤلف/رؤوف أبو سعدة
******
طرق تفسير الأعلام الأعجمية في القرآن
****
للقرآن في تفسير علمه الأعجمي طرائق شتى، وقع لي بفضل من الله ونعمة استظهار ست منها وهي :
1- التفسير بالتعريب (ومثاله” ميكال”)
2– التفسير بالترجمة (ومثاله “ذو الكفل”)
3– التفسير بالمرادف( ومثاله “موسى”)
4- التفسير بالمشاكلة (ومثاله “زكريا”)
5- التفسير بالمقابلة (ومثاله” عاد”)
6- التفسير بالسياق العام( ومثاله “لوط”).
وقد تجمتع في تفسير علم واحد أكثر من أداة ، فيفسر مرة بالترادف، ويفسر أخري بالسياق العام، الخ .، بنفس المعني أو بقريب منه.
*****
أما التفسير بالتعريب فهو تعريب العلم الأعجمي علي وزن عربي يفيد بذاته أصل معناه في لغته.
من ذلك أن القرآن في “ميكائيل” (وتنطق كافها في العبرية خاء لتقدم الياء عليها كما مر بك) لا يعربها علي “مكئال”، ولا علي “مكئيل” ولا علي “مئكال” ، وإنما يعربها علي “ميكال”، فيصيب التعريب ويصيب المعني في آن واحد ، كما ستري. وشرط إمكان التفسير بالتعريب، اتحاد الجذر في اللفظين ، الأعجمي والمعرب. ولا يتسنى هذا إلا في لغتين من نفس الأسرة اللغوية، كما هو الحال في اللغتين العربية والعبرية.
ويتعين التنبيه إلي أن “التفسير بالتعريب” ليس هو التفسير بالترجمة: التعريب كما مر بك هو استبقاء اللفظ الأعجمي في صورته الأعجمية بعد تهذيبه علي مقتضي مخارج أصوات العربية وأوزانها ، من مثل “جيورجيوس” التي عربت إلي “جرجس” ، باستبقاء أحرف الاسم الصحيحة (ج- ر- ح- س) والاستغناء عما عداها، فاستقام نطقه علي وزن عربي، أي أصبح الاسم الأعجمي عربيا بصورته، وإن بقي أعجميا بمعناه ، إذ لا معني للفظ “جرجس” في العربية، لأن اللغتين اليونانية والعربية ليستا من نفس الأسرة اللغوية، فلا تفهم معني “جرجس” إلا أن يقال لك إن أصلها في اليونانية “جيورجيوس” وأن معني “جيورجيوس” هذه في اليونانية “الحارث” ، أعني أنك في التعريب تبقي محتاجا إلي من “يترجم” لك، أما إن ترجمت الاسم العلم إلي معناه في لغتك ، غير عابئ بأصل صورته في لغته، كأن تسمي “جيورجيوس” باسم “الحارث” مباشرة فقد أصبت “المعنى” وفاتك” المبنى”، وينتج عن هذا أن من يسمعك تقول “الحارث” لا يدري إن كنت تقصد رجلا عربيا اسمه الحارث، أم تقصد رجلا يونانيا اسمه “جيورجيوس” ترجمت أنت معناه إلي “الحارث”.
من ذلك في القرآن “ذو الكفل” ، الذي لا خلاف علي عربيته مبني ومعني ولا مجال لاشتقاقه من العبرية أو الآرامية ، فتتوقف فيه : هل هو نبي عبربي لم تتحدث عنه التوراة ، أم هو علم من أعلام التوراة، نص القرآن علي معناه، ولم ينص علي مبناه، وسيأتي.
أما لماذا يعمد القرآن أحيانا إلي التفسير بالترجمة ويهمل التعريب ، فهذا إعجاز من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول “العلم”، أصل كل إعجاز في القرآن،
والوجه الثاني تحاشي التعريب حين تفيد الصورة التي يعرب عليها الاسم عكس معناه في لغته، مثل “يشوع” بمعني “الناجي” في العبرية (عيسى في القرآن) المعدول عن تعريبها “يسوع” (كما فعل المترجم العربي في الأناجيل اليونانية) لأن “يسوع” معناها في العربية “الهالك”.
وأما الوجه الثالث فهو خصيصة من خصائص لغة القرآن : تحاشي الوحشي وتحري الجمال. ولو علمت أصل “ذي الكفل” في التوراة لأدركت ما أعني، ولما جوزت فيه إلا الترجمة . وسيأتي.
التفسير بالتعريب والتفسير بالترجمة ، هو كما تري متضمن في بنية الاسم ذاته، معرباًَ أو مترجما، لا يحتاج من ثم إلي مزيد بيان، فلا يفسر بغيرهما من أدوات التفسير الست في القرآن: الترادف، والمشاكلة ، والمقابلة ، والسياق العام.
أما التفسير بالمرادف، فهو الإتيان بالعلم الأعجمي علي التجاور مع مرادف له في العربية يفيد معناه في لغة المتسمي به، كما رأيت من قبل في “ملك/رسول” وكما رأيت في “شيطان/عدو”. ولا يشترط في المرادف العربي أن يأتي علي صيغة إسمية تفسر معني العلم الأعجمي ، كما في “موسى” ، ومعناها في المصرية القديمة “وليد” ، تجدها في : {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} (18) سورة الشعراء، وإنما قد يأتي المرادف أيضا علي صيغة جملة إسمية أو فعلية، كما في: { لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا َ} (9) سورة القصص، والمقصود في الحالتين “موسى” ، المحذوف لدلالة السياق عليه . وسيأتي . من ذلك أيضا “إسحاق” في قوله عز وجل : {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ } (71) سورة هود،
وفي ميلاد مريم عليها السلام: { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } (36) سورة آل عمران.
وكما في قوله عز وجل : {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ } (43) سورة آل عمران وسيأتي بيان هذا كله في موضعه إن شاء الله .
وليس التفسير بالمرادف كالتفسير بالترجمة كما لعلك حدست: في التفسير بالمرادف يظهر العلم الأعجمي إلي جوار مرادفه العربي الدال علي معناه. أما في التفسير بالترجمة فالعلم الأعجمي يختفي تماما في كل القرآن، ولا يظهر في القرآن إلا باسمه العربي ترجمة، كما ستري في “ذي الكفل”.
أما التفسير بالمشاكلة، فهو ذلك الجناس المعجب الذي مر بك من قبل في قوله عز وجل : {كهيعص
ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} (1) سورة مريم ، بين “زكر” العبرية ، “ذكر “العربية ، لا فرق بينهما إلا إبدال الزاي العبرية ذالا، مع اتحاد المعني. إنه فرع من التفسير بالمرادف ، ولكنه ليس هو ، لاتفاق المرادف العربي مع مرادفه العبري في اللفظ والمعني، لا في المعني فقط. والتفسير بالمشاكلة ليس هو أيضا التفسير بالتعريب، لأن المفسر بالتعريب لا يظهر في القرآن إلا بصورته المعربة، كما في “ميكال”، أما المفسر بالمشاكلة، مثل “زكريا” فيظهر بصورته المعربة هذه، مفسرا بغيرها.
وأما التفسير بالمقابلة - والمقابلة هي “الطباق” عند أهل البديع- فهي الاتيان بالعلم الأعجمي مقابلا بعكس معناه، أي أنها عكس الترادف تماما. من ذلك في القرآن “عاد” قوم هود، وهي في العبرية- الآرامية من “الأبد” ، “الخلود” ، و” عدني” عبرياُ بمعني ما زلت وما أزال. ولكن القرآن يقول: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} (51:50) سورة النجم، أي أنه سبحانه أزال الباقية الخالدة التي لا تزول ، فيفسرها بما آلت اليه . وسيأتي.
أما التفسير بالسياق العام فهو أنك تستخلص من سياق الآيات وصفا لبطل الحدث المروي في القرآن، يلابسه ويلازمه حتي تكاد تسميه به، وإذا هو نفسه معني اسمه العلم في التوراة.
من ذلك اسم “لوط” ومعناه بالعبرية “محجوب”، الذي تجده مفسراُ بالمقابلة في قوله عز وجل: {وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ} (67-68) سورة الحجر.
ولكنك تجده أيضا مفسراً بالسياق العام أو الجو العام الذي توحي به إليك الآيات التي تصور لك لوطاً وهو “يراود” عن ضيفه ولا يملك ما يدافع به إلا أن يفتدي ببناته فلا يقبل منه، ويهمون به ليبطشوا به إلا أن يخلي بينهم وبين ضيفه هؤلاء ليفعلوا بهم ما أرادوا، ويجزع لوط أشد الجزع وقد غلب علي ضيفه فيتوجع: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (80) سورة هود ، ولكن ضيفه يهونون عليه : {قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } (81) سورة هود، ولكن الملائكة المكرمين لا يحاجزون عن لوط، ولا يبطشون بالكفرة الفجرة ، فلم تحن بعد ساعتهم، بل يضربون بينه وبينهم بحجاب، فتغشي الذين ظلموا الظلمة : { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } (37) سورة القمر فيحتجب منهم لوط كما تحتجب الملائكة ، ويضرب الليل بأستاره علي القرية المجرمة، ويمضي لوط في ساتر الليل متبعاً ما أمر به: { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ} (81) سورة هود. لينجو بسحر : { إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ} (35-34) سورة القمر، ولا ينجلي الليل عن القرية إلا وقد صبحهم عذاب مستقر: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} (38) سورة القمر. وهلك الظلمة ردما وعميانا: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ}(72-74) سورة الحجر، هذا الحجاب المضروب علي لوط في إفلاته من بطش الذين كفروا، وفي فراره من القرية الظالم أهلها، حجاب باطنه من قبله الرحمة، وظاهره من ورائه العذاب ، ولذلك قيل له : {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } (65) سورة الحجر أي النجاء أمامك، وكل ما وراءك هالك ، فاجعل الوقم وراءك ، ولا تلتفت. هذا الجو العام، الذي توحيه الآيات ، سمة يتفرد بها القصص القرآني من دون كل قصص: الحدث المروي في القرآن لا يسرد عليك كما يسرد الخير ولكنه- علي خلاف ما تجد في التوراة والإنجيل- يبعث لك من غياهب التاريخ حيا نابضا مشخصا، وإذا أنت في قلب الحدث، تسمع وتري، وقد طويت المسافات واستدار الزمن.
********
والذي يجب التنبيه إليه أن التفسير القرآني لأعلامه الأعجمية ، أيا كانت أداة التفسير المستخدمة ، تفسير به خفاء، ليس هو خفاء التطابق بين المفسر والمفسر به ، فالتطابق تام، ولكنه خفاء القصد ، لأن النسيج القرآني نسيج محكم، بالغ الإيجاز ، برئ من الحشو والافتعال، كل لفظ فيه موزون بميزان ، معناه مطلوب لذات معني الآية، واللفظة أو العبارة المفسر لمعني الاسم العلم جزء في هذا البنيان المتضام المتكامل، أو أداة لتصوير الحدث نفسه، لا لتفسير الاسم، فلا تفطن إن كنت لا تعرف لغة الاسم العلم لوجه “التناسب” بين المفسر والمفسر به، أو لوجه المشاكلة بين هذا وذاك، كما تجد في تفسير اسم “إسحاق” بقوله عز وجل: {وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ } (71) سورة هود، فالعبارة هنا تعطيك وقائع الحدث المروي عليك بالكلمة والصورة باختصار بليغ اقتضي من كتبة التوراة عدة أسطر، دون أن يلم “سفر التكوين”(تكوين 18/9-15) بكل ما ألمت به تلك الألفاظ الخمسة من سورة هود، فقد سقط منها علي سبيل المثال اسم المبشر به “إسحاق” فتنتظر إلي الإصحاح 21(2-5) كي تعلم أن إبراهيم هو الذي سمي ابنه “إسحاق”، وان امرأته سارة قالت في تفسير الاسم :” قد صنع إلي الله ضحكا. كل من يسمع يضحك لي” . ولكنك أمام تلك الألفاظ الخمسة في القرآن بمحضر من مشهد متكامل: تري سارة قائمة تخدم ضيف إبراهيم، وتفهم بغير كلام أن الضيف ( وهم وفد من الملائكة صلوات الله عليهم) قالوا شيئا ما يتعلق بسارة رضي الله عنها، ضحكت له عجبا وحياء، فأعيد عليها القول، فتفهم أن الذي قالوه قد كان بشارة بالمحال وقوعه لعجوز عقيم أيأستها السنون، وكأن الملائكة قالوا: “ضحكت يا أم ضحاك؛”، تسمية من الملائكة للمولود المبشر به، ولكنك لا تفطن لوجه التناسب بين “ضحكت” و “إسحاق” ، لأنك لا تعلم أن “إسحاق” هي “ضحاك” ، كما لا تفظن لوجه المشاكلة في عبارة من مثل: أحسنت يا حسن؛ إن قيلت لك بالانجليزية هكذا : "'Well-done, Hassan".
ولكنك علمك بلغة الاسم العلم لا يكفي وإن كان شرطا أول ، لأن القرآن لا يفسر لك أعلامه الأعجمية بمثل تلك الصورة المباشرة الفجة: أحسنت يا حسن؛ فلا يقول لك مثلا: “وامرأته قائمة فضحكت ولذا سمينا “إسحاق” ، حتي يستثار فضولك إلي معرفة معني “إسحاق” في لغة إبراهيم وسارة ، ولا يقصد إلي التفسير قصدا كما فعل كتبة التوراة، فيخطئ الكاتب ويصيب، كما رأيت في تفسير اسم حواء الذي تصدي الكاتب لتفسيره فقال: “ودعا آدم اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي” (تكوين 3/20) ، يريد أن اسمها أخذ من “الحياة” : ( وإن كان آدم أول الأحياء من البشر كما تعلم). القرآن لا يعلل لك تسمية إسحاق بضحك سارة، فضحكها واقع وقع، وجزء لا يتجزأ من صور الحدث المروي عليك، ملتحم بالمعني العام للآية، لا حشو ولا افتعال، ولا خروج عن قصد، بل تاتي العبارة سلسلة، ويجئ “إسحاق” في موضعه، غير مقحم ، فتظن أنت أن التفسير عارض عرض، بعد علمك بأن “إسحاق” هي “ضحاك”، لا مدخل له البتة في مقصود الآية، فلا تلتفت إليه. ولكن هذا الذي لا تلتفت إليه يتواتر في كل علم أعجمي مذكور باسمه أو بكنيته في القرآن. فتتساءل أمقصود هو أم غير مقصود؟ أم أنه الإعجاز البياني الذي يؤلف بين الألفاظ والصور علي هذا النسق المتناغم المتجانس لا يراد منه إلا هذا؟
وأنا لا أقول إن المقصود هو هذا أو ذاك، فلا يملك مخلوق تقييد مقاصد الخالق عز وجل، وإنما الذي أقوله لك هو أن لإعجاز القرآن وجوها هذا أحدها: إنه دليل العلم، ودليل القدرة.