ومضات فى طريق الدعاة ..قصة الستيان !
[COLOR="Blue"]
من أشدِّ الأشياءِ وقعاً على نفسي ، أنْ أرى مُفتياً تصدّرَ للفُتيا أو التدريس ِ ، وصارَ مرجعاً للنّاس ِ في أمور ِ معاشِهم ومعادهم ، يحجرهم عن الإثم ِ والعُدوان ِ ، ويُدنيهم من الطاعةِ والبرِّ ، وهو مع ذلكَ لا يُقيمُ أودَ البيان ِ ، ولا صلبَ الفصاحةِ ، وإنّما يتكلّمُ بلهجةٍ عامّيةٍ مُبتذلةٍ ، ويشينُ حلاوة َ الفقهِ والفهم ِ ، بسُقم ِ العِبارةِ ووحشيِّ اللفظِ .
ومن قرأ في كتبِ الأدبِ ، وشدا شيئاً من فنون ِ البيان ِ ، راعهُ هذه النمطُ من المفتينَ ، مهما تفنّنَ في إيرادِ المسائل ِ ، أو أوتيَ فهماً وبصراً ، فالعلمُ إنّما تُزيّنهُ الجملُ المُنتقاةُ ، ويرفعهُ عن الابتذال ِ ترصيعهُ بفصيح ِ القول ِ وجزل ِ اللفظِ وروائع ِ البيانِ .
أتابعُ أحياناً – بحسبِ وقتِ الفراغ ِ - بعضَ برامج ِ الإفتاءِ ، سواءً ما كانَ في قنواتِنا وإذاعاتِنا الخاصّةِ ، أو على بعض ِ القنواتِ والإذاعاتِ الأخرى ، أنشدُ فيها ضالّة ً من علمٍ ، و أقتنصُ شاردة ً من مسألةٍ ، فكم في زواياها من خبايا مُنعشةٍ ، تبعثُ على الأملِ في بقاءِ حبلِ العلمِ مُمتدّاً ، إلا أنَّ فرحتي لا تتصلُ إلا بمقدار ِ ما أمكّنُ نفسي من الأرض ِ مُسترخياً ، وأستمعُ لأوّل ِ الغيثِ من البرنامج ِ ، ثُمَّ ينهمرُ سيلُ اللفظِ المُبهم ِ ، والكلام ِ المِشكل ِ ، ولا تدري أأنتَ في برنامج ٍ للإفتاءِ يُذاعُ على مسامع ِ النّاس ِ ومرآهم ، ويُجلّي مُسبتهمَ المسائلِ ، أم أنّكَ في مجلس ٍ من مجالس ِ الخاصّةِ ، يُداولونَ فيهِ الحديثَ بلهجتهم الدراجةِ ؟ .
والذي يزيدُكَ توجّعاً أنَّ هذه البرامجَ مطروقة ٌ مقصودة ٌ ، تشرأبُّ لها الأعناقُ ، وتتشوّقُ إليها النفوسُ ، ويبحثُ فيها النّاسُ عمّا يرفعُ حيرتهم ويشفي علّتهم ، فإذا بالهوّةِ تتسعُ ، والطينُ يزدادُ بِلّة ً ، ويغدو جوابُ الشيخ ِ بعيدَ المنال ِ وعرَ المسلك ِ ، ويحتاجُ إلى من يكشفُ غوامضهُ ، وذلكَ لأنّهُ أتى بألفاظٍ غير ِ مألوفةٍ للسّامع ِ ، ولا تدورُ في مُجتمعهِ وبيئتهِ ، وظنُّ الشيخُ المُفتي – عفا اللهُ عنهُ – أنَّ ظهورَ اللفظِ عندهُ وفهمهُ لهُ ، يوجبُ ظهورهُ عندَ السامع ِ والمُتلقّي ، ولعمري لقد أبعدَ النّجعة َ في ذلكَ ، وتوهّمَ على غير ِ الصّوابِ .
الواجبُ على المُفتي أن يأخذ َ بأسبابِ اللغةِ العربيّةِ الفُصحى ، وأن يجعلها مدارَ كلامهِ ومحطَّ حديثهِ ، فهي سهلة ٌ ميسورة ٌ ، تقرعُ الأسماعَ بهيبتِها وجلالِها ، وتُكمّلُ جوانبَ الشخصيّةِ المُسلمةِ الحقّةِ ، وتزيدُ من هيبتهِا ووقارهِا ، ويفهمها الجميعُ بلا عنتٍ أو مشقّةٍ ، فهي رحمٌ متّصلٌ بينَ المُسلمينَ ، يتوادّونَ بهِ ويتواصلونَ عن طريقهِ ، ولا تجدُ وشيجة ً بينَ المُسلمينَ في أقطار ِ الدّنيا أقوى من وشيجةِ اللغةِ الأمِّ لهم ، لُغةِ القرءان ِ العظيم ِ ، اللغةِ العربيّةِ الفصيحةِ ، والتي جرتْ على سنن ِ العربِ الأوائل ِ في تركيبِ الجمل ِ والمفرداتِ ، دعْ ما عدّوهُ فيها من غريبِ اللفظِ ووحشيِّ العِبارةِ ، فذلكَ حشوٌ لا يُحتاجُ إليهِ ، وإنّما الكلامُ عن طريقتهم في الحديثِ وصياغتهم للجملةِ .
في بعض ِ ما تابعتهُ من برامجَ للإفتاءِ أجدُ الشيخَ قد تمنطقَ باللهجةِ المحليةِ القُحّةِ ، وأخذ َ يكيلُ للسامع ِ من تلكَ الألفاظِ ما يحتاجُ معهُ أهلُ الجزيرةِ العربيّةِ إلى قاموس ٍ يكشفُ لهم حقيقة َ المعنى ، فكيفَ ببقيّةِ النّاسَ ، ممّن تناءتْ بهم الديارُ ، وشطّتْ عنّا وعنهم المزاراتُ .
إنَّ المُستفتي يطلبُ حينَ سؤالهِ كشفَ حيرتهِ ، ودفعَ جهلهِ ، فلماذا نزيدُ عليهِ الحيرة َ ، ببعض ِ الأجوبةِ التي تُرضي عجائزَ اليمامةِ ، ولا تقرُّ بها أنفسُ النّاس ِ في بلادِ الكنانةِ والرّافدين ِ ؟ .
يجبُ على المفتي أن يكونَ ذا لسان ٍ فصيح ٍ ، يُبينُ حينَ الجوابِ ، ويُوضحُ الرّدَّ ، دونَ أنْ يدعَ السائلَ في حيرةٍ وتخبّطٍ ، ولا يظُنّنّ الشيخ ُ – غفرَ اللهُ لهُ – أنَّ سعة َ العلم ِ ، والتبحّرَ في المسائل ِ ، والغوصَ فيها ، يُغني عن معرفةِ البيان ِ وطُرق ِ الفصاحةِ ، بل هذا ممّا يعيبُ على العالم ِ أن يكونَ كذلكَ ، عييّاً حصِراً ، لا يكادُ يبينُ ، وقد فهِمَ هذا الأمرَ النبيُّ الكريمُ موسى كليمُ اللهِ – صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ – فطلبَ من ربّهِ أن يردأهُ بهارونَ – صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ - أخيهِ مُصدّقاً ومُحاجّاً ، لفصاحةِ لسانهِ وحُسن ِ بيانهِ ، ولو كانَ الأمرُ متوقّفاً على سعةِ العلم ِ وكثرتهِ ، لكانَ موسى أولى من هارونَ – صلّى اللهُ عليهما – في الإبلاغ ِ والدعوةِ ، ولما احتاجَ إليهِ سنداً ومُعيناً .
ولا بُدَّ من معرفةِ أحول ِ النّاس ِ كذلكَ ، فللنّاس ِ عوائدُ وطباعٌ شتّى ، وربّما حسُنَ الشيءُ في بيئةٍ وقبُحَ في أخرى ، واللفظُ الواحدُ يُستخدمُ في أماكنَ مُختلفة ً ، ويحتملُ – بحسبِ المنطقةِ – معنىً خاصّاً فيهِ ، ولهذا كانَ من جملةِ مُخصّصاتِ النصوص ِ العامّةِ : العرفُ المُقارنُ للخطابِ ، وذلكَ لأنَّ اللفظَ العامَّ إذا أطلقَ في بيئةٍ مُعيّنةٍ ، وكانَ المُتعارفُ عليهِ صرفهُ إلى شيءٍ خاصٍّ ، فإنّهُ ينصرفُ إليهِ ويُحملُ بهِ ، ولا يُعدُّ من ألفاظِ العموم ِ :
والعرفُ حيثُ قارنَ الخِطابا ********** ودعْ ضميرَ الشأن ِ والأسبابا
وممّا يُستطرفُ ذكرهُ في هذا المقام ِ ، ما حدّثنيهِ شيخي العلاّمة ُ : مُحمدُ بنُ مُحمّدٍ الشنقيطيُّ – متّعهُ اللهُ بالعافيّةِ – أنّهُ سمِعَ مرّة ً في برنامج ِ " نورٌ على الدربِ " سؤالاً وُجّهَ إلى أحدِ أهل ِ العلم ِ ، تسألُ فيهِ امرأة ٌ عن حُكم ِ لبس ِ الستيان ِ للنّساءِ ، فكانَ جوابُ الشيخ ِ : لا أدري ما هو الستيانُ ، ولكنْ إذا كانَ فضفاضاً واسعاً فلا بأسَ بهِ ، وإن كان ضيّقاً فلا يجوزُ لبسهُ .
وهذا الجوابُ من الشيخ ِ قالهُ لعدم ِ معرفتهِ بصفةِ الستيان ِ ، ولا طريقة َ لبسهِ ، فأجراهُ – والحالُ هذه – على نظائرهِ من لباس ِ المرأةِ ، والذي يحرمُ عليها فيهِ إبداءُ المفاتن ِ سواءً بكشفها أو تحجيمها .
والستيانُ : لفظة ٌ عاميّة ٌ مرذولة ٌ ، تُطلقُ على ما تشدُّ بهِ المرأة ُ صدرها ، ولا أعرفُ لها مُرادفاً عاميّاً أو فصيحاً ، ومن علمَ شيئاً من ذلكَ فليُغثنا ، على أنَّ هُناكَ من يُسمّيها حمّالاتِ الصدرِ ، وهو اسمٌ حسنٌ ظريفٌ .
وهُنا أشيرُ أيضاً إلى بعض ِ خطباءِ الجمعةِ اللحّانينَ ، والذين تمضي خُطبهم تصويباً وتصحيحاً ، فلا يتركُ قاعدة ً نحْوية ً إلا أغارَ عليها ، وجعلها شذرَ مذرَ ، ولم يبق ِ فيها ولم يذرْ ، وضاعتْ الخُطبة ُ حصّة َ إملاءٍ وتصحيح ٍ للنّطق ِ .
وإنّي لأعرفُ خطيباً لا تستقيمُ الجملة ُ في لسانهِ إلا بعدَ أربعِ محاولاتٍ من التصحيح ِ ، وتكونُ رابعة ُ المُحاولاتِ أشدّها شُنعة ً وبشاعة ً ، وليتهُ يلوي على الحقِّ ويُراجعُ نفسهُ ، بل يمضي سادراً في لحنهِ ، ويظنُّ أنَّ خيارهُ الرابعَ قد وافقَ قولَ سيبويهَ ، أو جرى على أصول ِ الخليل ِ وأبي العلاءِ .
لقد ابتذلَ الناسُ شأنَ الجمعةِ والخطبةِ ، وصارَ يبرزُ للمُصلّينَ إليها كلُّ من آنسَ من نفسهِ قُدرة ً على القراءةِ ، واستعانَ على ذلكَ ببشتٍ من البشوتِ المُقصّبةِ ، ثُمَّ أكملَ فصولَ هذه المأساةِ بقُصاصةٍ من جريدةٍ ، أو مُصوّرةٍ من كتابٍ ، واعتلى المنبرَ مُذكّراً وواعظاً ، ولا تسلْ حينها عن الضعفِ في الأسلوبِ ، ولا اللحن ِ الذي يقتلُ المرءَ اللبيبَ همّاً وحزناً .
كم من خطيبٍ يحوّلُ خطبتهُ إلى بحثٍ عن مشيج ِ أوراقهِ ، فيُقلّبها فوقُ وتحتُ ، ويبحثُ عن الورقةِ الضائعةِ ، والنّاسُ يجأرونَ إلى اللهِ فيما بينهم وبينَ أنفسهم أن يكشفَ اللهُ عنهم هذا البلاءَ والكربَ ، وأمّا هو ففي حالةٍ من البؤس ِ يُرثى لها ، بينَ ضياع ِ الورقةِ ونظرةِ النّاس إليهِ .
صونوا المساجدَ والمنابرَ والفُتيا عمّن لا يُحسنُها ، حتّى لو كانَ عريضَ الفهم ِ والعلم ِ ، فالعلمُ والفهمُ – وحدهما – لا يَصلحان ِ دونَ حُسن ِ البيان ِ والعرض ِ ، وكم من رجل ٍ كانَ حُبسة ً في لسانهِ ، فكفى النّاسَ أمرهُ واستعانَ عليهم بالتأليفِ والتصنيفِ ، فهو أنفعُ وأجدرُ أن يُفيدَ ، وهذه مواهبُ ومنحٌ يمنحها اللهُ تعالى ، فرُبَّ رجل ٍ فُتحَ لهُ في البيان ِ والفصاحةِ ولم يُفتحْ لهُ في العلم ِ ، وربَّ رجل ٍ رُزقَ علماً وفهماً إلا أنّهُ لا يعرفُ كيفَ يوصلُ المعلومة َ مُشافهة ً ، وهلمّا جرّا .
دمتم بخير ٍ .
COLOR]