(3)
فقد رآهما كثيراً وهما يسعيان في اهتمام بالغ للتطهر حال سماعهما للأذان ..
بل ربما قبله استعداداً للصلاة..
وهما يقفان في خشوع وخضوع مهيب أمام ربهم
ثم يركعان ويخران للأرض سجداً في هيئة تدل على تمام عبوديتهما لربهما..
ثم إنهما يكرران ذلك بشكل إيماني رائع..
حتى إذا جلسا للتشهد وفرغا من الصلاة وسلما عن يمين وشمال..
أقبل كل منهما على أخيه يدعو له بقبول العبادة في محبة وود ورجاء..
فكان عبده في كل مرة يسأل نفسه ترى هل هما وفريق المسلمين على حق أم على باطل؟..
فإذا كانوا على الحق فما حقيقة دينه إذاً؟..
وإذا كانوا على الباطل فلماذا لا يصحح لهما عقيدتهما؟..
وكيف مرت الأيام هكذا وثلاثتهم يخلص لبعضهم من غير أن يناقشوا هذا الأمر؟..
وهل ساور زميليه نفس الخاطر الذي يساوره الآن فمنعهما الحياء؟..
فإذا كان ذلك كذلك فلماذا لا يبدأ هو بالحديث معهما؟..
وتشجع عبده فأفضى إليهما بقلقه من وجود خلاف بينهم كجماعة متحابة متماسكة في أمر جوهري كهذا؟..
وبخاصة أن هذا الخلاف لم يكن باختيار أحد منهم..
وإنما وجدوه بينهم بحكم التوارث فحسب..
فهو مثلاً لا يفعل كما يفعلون لأنه جاء إلى هذه الدنيا من أبوين يدينان بالنصرانية..
ولو أن أبويه كانا من أسرة مسلمة لما وجد هذا الخلاف..
ثم إنهما كذلك لا يذهبان إلى ******* في يوم الأحد ..
ولا يفكران في شيء من ذلك
لأنهما ولدا في أسرتين مسلمتين
ولو أنهما وجدا في محيط نصراني لما وجد هذا الخلاف..
قال عبده:
ليس هذا ما ينبغي أن يكون عليه الشأن بين إخوة جمعهم رباط العلم وملأ قلوبهم مشاعر الحب والصفاء..
وإنه لمن الإخلال بواجب المودة الخالصة من الشوائب الموجودة بيننا أن تستمر الحال هكذا على ما بيننا في هذا الأمر الهام من خلاف..
فلا بد أن يكون زميلاي مخدوعين أو أن أكون أنا جاهلاً بما يؤمنان به..
نهض عبده من مجلسه وتقدم قريباً من البئر..
وتبعه صاحباه ينظران ما شأنه..
فقال أرياني كيف تفعلان؟..
وأعيناني كما تفعلان في رفع الماء من البئر وصبه على أطرافكما
وهل لذلك قواعد وأصول عندكما؟..
فأجاباه إلى ما طلب وهما يعجبان مما فعل..
وأجرى عبده الماء على يديه ووجهه وذراعيه ورأسه وقدميه في تجربة بدائية..
لم يكن يستهدف منها إلا الوقوف على شيء غامض في داخله..
وربما وجد إجابة للسؤال الذي يحيره منذ حين..
وهو ما حكمة صب الماء على أطراف الجسم مع التكرار؟..
ولاحظ عبده من التجربة أن أول الآثار التي أصابته من جراء صب الماء على أطرافه أنه أحس بنوع لذيذ من الانتعاش واليقظة والانتباه ملأه ابتهاجاً وثقة بالنفس..
فعاد يسأل هل سبب ذلك الانتعاش وتلك الثقة هو ما أراه بعيني الآن من نظافة يدي ومنافذ وجهي وطهارة رجلاي وطيب رائحتهما..
إن في الأمر سراً خافياً عليه لا يزال .. لكن ما صنعه ليس مجرد عبث صغيرٍ كما كان يراه من قبل..
وإنه ليرى من وراء هذا الصنيع بعض المعاني الكبيرة
التي لا يحزبها عنه أو يحزبه عنها إلا جهله بهذا الدين الإسلامي..
فطلب منهما أن يحدثاه عن حكمة الوضوء وأركانه وسننه ونواقضه..
وعن حكمة القيام والقعود والسجود وتكرارها..
ولم يكن صاحباه في هذا السن على قدر واسع من الإحاطة بفقه دينهما مما جعلهما يدركان بأنهما ليسا في منزلة تؤهلهما لإجابة شافية لسؤاله..
وقد أحس هو بذلك حين سكتا..
فقال: أنتما مقلدان وأنا مقلد..
ولا خير فينا جميعاً مالم ندرك فائدة وحقيقة ما نختار..
فهلا تعاهدنا جميعاً على البحث في حقائق الدين وأسباب الخلاف الذي نحن فيه..
برغم ما نحسه جميعاً من حب وود يجمعنا..
فكان العهد الوثيق الذي أخلص له كل من عبده وصدقي بصفة خاصة إخلاصاً صرفهما معظم أيام السنة الدراسية عن دروسهما..
أما برادة فأقتصد في الوفاء بهذا العهد لأنه كان يرى أن حاجته الكبرى كانت في اختصار الضيافة التي فرضتها الأحداث على عمه..