الشيخ محمد عبد الله الخضير
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الِأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، نَبِيَّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:
فَحَدِيثِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى وَقَفَاتٍ حَتَّى تَتَّضِحَ الحِكَمُ وَالأَسْرَارُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا شُرِعَ هَذَا الرُّكْنُ العَظِيمُ أَلَا وَهُوَ الصِّيَامُ.
وَأَوَّلُ وَقْفَةٍ:
أَنَّنَا نُؤْمِنُ إِيمَانًا تَامًا بِأَنَّ هَذَا الدِّينَ كَامِلٌ، أَكْمَلَهُ اللهُ لَنَا وَرَضِيَهُ لَنَا وَأَتَمَّهُ عَلَيْنَا، كَيْفَ لا يَكُونُ كَامِلاً وَقَدْ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ عَلِيمٍ، وَخَتَمَ بِهِ الأَدْيَانَ، وَلَمْ يَرْضَ إِلَّا هُوَ، وَنَسَخَ بِهِ جَمِيعَ الأَدْيَانِ، ثُمَّ أَرْسَلَ أَعْظَمَ رُسُلِهِ وَأَعْلاهُمْ قَدْرًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ خَلْقِهِ الَّذِي بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الأَمَانَةَ وَنَصَحَ لِلأُمَّةِ وَجَعَلَهَا عَلَى المَحَجَّةِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ.
مِنْ مُنْطَلَقِ هَذَا الكَمَالِ وَمِنْ عُمُومِ النُّصُوصِ، وَمَعَ كَمَالِهِ فَإِنَّ اللهَ اخْتَبَرَنَا بِهِ وَنَصَّ عَلَى أَنَّهُ اخْتَبَرَنَا بِهِ حَتَّى يُعْلَمَ مَنْ يَسْتَجِيبُ وَمَنْ لا يَسْتَجِيبُ.
وَمِنْ هَذِهِ الاخْتِبَارَاتِ، نَجِدُ أَنَّ دِينَنَا اخْتَبَرَنَا مِنْ وُجُوهٍ عِدَّةٍ:
فَاخْتَبَرَنَا فِي الطَّاعَةِ فِي أَبْدَانِنَا، وَاخْتَبَرَنَا فِي الطَّاعَةِ فِي أَمْوَالِنَا، وَاخْتَبَرَنَا فِي الطَّاعَةِ فِيهِمَا مَعًا، ثُمَّ اخْتَبَرَنَا بِالإِمْسَاكِ عَنْ شَهَوَاتِنَا مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ وَمَنْكَحٍ، حَتَّى يُعْلَمَ مَنِ الَّذِي سَلَّمَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَاسْتَجَابَ للهِ وَلِرَسُولِهِ بِالامْتِثَالِ لِجَمِيعِ هَذِهِ الحِكَمِ وَالأَسْرَارِ.
وَهُنَاكَ مَنْ يُسَلِّمُ للهِ فِي أَفْعَالِهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ لا يُسَلِّمُ فِي أَمْوَالِهِ، وَهُنَاكَ مَنْ يُسَلِّمُ فِي أَمْوَالِهِ لَكِنَّهُ يَضْعُفُ أَمَامَ شَهَوَاتِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ دِينُنَا لِيَخْتَبِرَنَا مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الجَوَانِبِ، فَمَنْ سَلَّمَ فِيهَا كُلِّهَا فَهُوَ المُنْقَادُ وَظَهَرَ صِدْقُهُ وَنَجَحَ فِي ذَلِكَ الاخْتِبَارِ.
وَلِنَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الدِّينَ الكَامِلَ الَّذِي اخْتَبَرَنَا اللهُ بِهِ، لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُشَرِّعَ هَذَا الدِّينَ وَمِنْ ضِمْنِهِ الصِّيَامَ، شَرَّعَهُ وَبَيَّنَهُ وَأَوْجَبَهُ عَلَى طَرِيقَةٍ تَجْعَلُ النَّاسَ يَسْتَجِيبُونَ بِلا كُلْفَةٍ، فَنَقَلَهُمْ فِي هَذَا الصِّيَامِ عَلَى مَرَاحِلَ، فَمِنَ الغَوْصِ فِي الشَّهَوَاتِ وَالانْدِفَاعِ وَرَاءَ المَلَذَّاتِ إِلَى صِيَامٍ وِفْقَ مَرَاحِلَ حَتَّى يَكُونَ أَهْوَنَ لِلنَّفْسِ وَأَدْعَى إِلَى القَبُولِ وَأَسْهَلَ إِلَى الاسْتِجَابَةِ.
الوَقْفَةُ الثَّانِيَةُ:
فَعِنْدَمَا أَنْظُرُ إِلَى المَرَاحِلِ الَّتِي أُوجِبَ فِيهَا الصِّيَامُ أَرَى عَجَبًا: مَنَ اليُسْرِ، إِلَى الصِّيَامِ المُتَوَسِّطِ، ثُمَّ إِلَى الشِّدَّةِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَمُنُّ اللهُ وَيَجُودُ، وَهَذِهِ المَرَاحِلُ الَّتِي امْتُحِنَ الإِنْسَانُ فِيهَا فَصَبَرَ وَاسْتَجَابَ، كَيْفَ لا، وَقَدْ كَانَتْ بِدَايَةُ هَذَا الامْتِحَانِ مَعَ أَعْظَمِ جِيلٍ وَطِأَ الأَرْضَ أَلا وَهُمْ صَحَابَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصِّيَامَ فِي مَكَّةَ، وَإِنَّمَا بِدَايَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الصِّيَامِ لَمَّا انْتَقَلَ إِلَى المَدِينَةِ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِى تَصُومُونَهُ». فَقَالُوا هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ». فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.(1)، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِصِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ.
وَأَوَّلُ مَا فُرِضَ الصِّيَامُ فِي رَمَضَانَ كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَلِذَا فَقَدْ صَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةَ رَمَضَانَاتٍ، وَأَوَّلُ مَرْحَلَةٍ مِنْ هَذِهِ النُّقْلَةِ كَمَا فِي «مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ» وَ«سُنَنِ أَبِي دَاودَ» وَ«مُسْتَدْرَكِ الحَاكِمِ» وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه: أَنَّهُ أَوَّلَ مَا نَزَلَ قَوْلُ اللهِ سبحانه وتعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، ثُمَّ قَالَ: فِي آخِرِ الآيَةِ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾(2)
فَالمَرْحَلَةُ الأُولَى: كَانَ الصَّحِيحُ المُقِيمُ أَمَامَهُ أَحَدُ خِيَارَيْنِ، إِنْ شَاءَ صَامَ وَلا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ عَنْ ذَلِكَ اليَوْمِ مِسْكِينًا وَأصْبَحَ فِيهِمُ الصَّائِمَ وَالَّذِي هُوَ مُفْطِرٌ وَمُطْعِمٌ لِذَلِكَ المِسْكِينِ وَلا يَعِيبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
ثُمَّ جَاءَتِ المَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَشَدُّ المَرَاحِلِ إِطْلاقًا، وَهِيَ قَوْلُ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾(3)، فَأُلْزِمَ الجَمِيعُ بِالصِّيَامِ لَكِنَّهُ صِيَامٌ مَعَ شِدَّةٍ، صِيَامٌ مَعَ قُوَّةٍ، صِيَامٌ مَعَ امْتِحَانٍ، وَلِذَلِكَ كَانَ الإِنْسَانُ إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ حَتَّى يَخْرُجَ لا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَى أَهْلِهِ، كَانَ الرَّجُلُ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَنَعَسَ أَوْ نَامَ لا يُمْكِنُ أَنْ يَأْكُلَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ.
وَلِحِكْمَةٍ يُرِيدُهَا اللهُ وَلِفَضْلٍ وَجُودٍ مَنَّ بِهِ عَلَيْنَا، أّنَّ أَحَدَ الأَنْصَارِ يُدْعَى صِرْمَةَ أَصْبَحَ مِنْ بِدَايَةِ النَّهَارِ حَتَّى أَمْسَى اللَّيْلَ وَهُوَ كَالًّا فِي مَزْرَعَتِهِ يَطْلُبُ رِزْقَهُ، فَلَمَّا أَنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ وَطَلَبَ العَشَاءَ فَلَمَّا ذَهَبَ أَهْلُهَ لِيُعِدُّوا ذَلِكَ العَشَاءَ وَرَجَعُوا فَإِذَا الرَّجُلُ قَدْ نَامَ، فَقَالَتْ زَوْجَتُهُ لِعِلْمِهَا بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا، قَالَتْ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَبَاتَ الرَّجُلُ طَاوِيًا لَيْلَهُ مَعَ نَهَارِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَصْبَحَ صَائِمًا وَمَارَسَ عَمَلَهُ، ثُمَّ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ وَقَعَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. وَلِحِكْمَةٍ يُرِيدُهَا اللهُ أَيْضًا إِذَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه يُوَاقِعُ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ أَوْ إِمَائِهِ وَيَقَعُ فِي مَحْذُورٍ أَيْضًا مِنَ الوَجْهِ الآخَرِ، ثُمَّ يَذْهَبُ عُمَرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللهِ هَلَكْتُ، وَيُنْقَلُ خَبَرُ صِرْمَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَتَوَقَّفُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا هِيَ إِلَّا لَحَظَاتٍ حَتَّى يَنْزِلَ الوَحْيُ: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾(4)، فَأَصْبَحَ الإِنْسَانُ يَجُوزُ أَنْ يَطَأَ زَوْجَتَهُ مَتَى شَاءَ فِي اللَّيْلِ سَوَاءً كَانَ فِي يَقَظَةٍ أَوْ بَعْدَ هَجْعٍ مَا دَامَ لَمْ يَتَبَيَّنِ الفَجْرُ، ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾(5)، وَبِالتَّالِي أَصْبَحَ اللَّيْلُ كُلُّهُ بَعْدَ يَقَظَةٍ أَوْ هَجْعٍ أَوْ غَيْرِهَا مَا لَمْ يَتَبَيَّنِ الفَجْرُ مَكَانَ أَكْلٍ، فَلِلَّهِ الحَمْدُ وَالمِنَّةُ وَلَهُ الفَضْلُ وَالجُودُ.
وَبِذَلِكَ اسْتَقَرَّ هَذَا التَّشْرِيعُ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا.
إِذًا حَصَلَتِ المَرَاحِلُ مِنَ العَدَمِ إِلَى السُّهُولَةِ ثُمَّ إِلَى الشِّدَّةِ ثُمَّ إِلَى التَّوَسُّطِ، وَهُوَ الَّذِي أُقِرَّ فِي آخِرِ الأَمْرِ.
الوَقْفَةُ الثَّالِثَةُ:
لِقَائِلٍ أَن يَقُولَ لِمَا شُرِعَ الصِّيَامُ؟
يَجِبُ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ هَذَا الدِّينَ جَاءَ مِنْ عِنْدِ الحَكِيمِ الخَبِيرِ، مِنْ العَالِمِ بِالإِنْسَانِ وَمَا يُصْلِحُهُ، مِنَ العَالِمِ بِالإِنْسِانِ وَخَوَالِجِهِ، وَلِذَلِكَ يِجِبُ أَنْ نُسَلِّمَ لِحِكَمِ اللهِ سُبِحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِمْنَا فِي ذَلِكَ حِكَمًا وَأَسْرَارًا أَوْ لَمْ نَعْلَمْ.
فَأَوَّلُ حِكْمَةٌ نَصُومُ مِنْ أَجْلِهَا:
اسْتِجَابَةً للهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ امْتِثَالاً لِفِعْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقْتِدَاءً بِهِ.
وَهَذَا الأَمْرُ لا يَمْنَعُنَا أَنْ نُجِيلَ النَّظَرَ وَنُعِيدَ الكَرَّةَ تِلْوَ الكَرَّةِ فِي الحِكَمِ وَالأَسْرَارِ الَّتِي ظَهَرَتْ لَنَا، وَإِنْ ظَهَرَ لَنَا شَيْءٌ فَقَدْ غَابَتْ عَنَّا أَشْيَاءٌ.
وَمِنَ الحِكَمِ الَّتِي ظَهَرَتْ لَنَا:
حِكَمًا دِينِيَّةً، وَحِكَمًا اجْتِمَاعِيَّةً، وَحِكَمًا صِحِّيَةً.
أَمَّا الحِكَمُ الدِّينِيَّةُ:
فَهُنَاكَ حِكَمٌ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالقُلُوبِ، وَهناك حِكَمٌ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالذُّنُوبِ.
أما الحِكَمُ الَّتِي لَهَا تَعَلُّقٌ بِالقُلُوبِ:
فَأَوَّلُهَا: أَنَّ الصِّيَامَ سَبَبٌ لِلتَّقْوَى، لِقَائِلٍ أَن يَقُولَ كَيْفَ يَكُونُ الصِّيَامُ سَبَبًا لِلتَّقْوَى؟
أَقُولُ: أَلَيْسَتِ التَّقْوَى فِعْلُ الأَوَامِرِ وَتَرْكُ النَّوَاهِي، فَمَنِ اسْتَجَابَ للهِ بِتَرْكِ المُبَاحِ، الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَمَا بَالُكَ بِتَرْكِهِ لِلْحَرَامِ وَقَدْ تَرَكَ المُبَاحَ للهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَتَرْكُهُ لِلْحَرَامِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، بَلْ إِنَّ الأَمْرَ أَبْعَدَ مِنْ هَذَا، فَإِنَّ الإِنْسَانَ تَرَكَ مَا يُقَرِّبُهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ صَدَقَةً لَهُ وَلِغَيْرِهِ، اسْتِجَابَةً للهِ، وَهُوَ أَمْرٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ وَمُحَبَّبٌ إِلَى النَّفْسِ، أَلَا وَهِيَ شَهْوَتُهُ، «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةً»(6)، تَرَكَهَا اسْتِجَابَةً للهِ، فَمَا بَالُكَ بِالمُحَرَّمَاتِ، أَلَيْسَ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى، وَلِذَلِكَ يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آيَاتِ الصِّيَامِ: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(7)، خَتَمَ آيَةَ الصِّيَامِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ سَبَبٌ لِلتَّقْوَى.
وَإِنْ أَعَدْنَا النَّظَرَ فِي هَذِهِ الحِكْمَةِ، فَهِيَ وَاللهِ حِكْمَةٌ جَلِيلَةٌ، لَكِنْ هَلْ امْتَثَلْنَا فِي الانْتِهَاءِ عَنِ المُبَاحَاتِ، وَفِي المُقَابِلِ هَلْ امْتَثَلْنَا عَنْ تَرْكِ المُحَرَّمَاتِ، أَيْنَ نَحْنُ مِنَ الغِيبَةِ؟ أَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّمِيمَةِ، أَيْنَ نَحْنُ مِنَ الرِّبَا الَّذِي أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَقْتَحِمُ هَذَا البَابَ، كَمَا ثَبَتَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يَبْقَى أَحَدٌ إِلاَّ أَكَلَ الرِّبَا فَإِنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ»(8)، أَيْنَ نَحْنُ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، أَيْنَ نَحْنُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ المُحَرَّمَاتِ الَّتِي بَعْضُهَا -وَلا أُبَالِغُ إِذَا قُلْتُ- يَزْدَادُ ظُهُورُهُ فِي رَمَضَانَ، أَيْنَ نَحْنُ مِنْ تَرْكِ صَلاةِ الجَمَاعَةِ، وَتَضْيِيعِ الأَوْقَاتِ بِمَا يَضُرُّ، أَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى المُحَرَّمَاتِ سَواءً كَانَ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ القَنَوَاتِ الفَضَائِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا، أَيْنَ نَحْنُ مِنَ السَّهَرِ عَلَى المُحَرَّمَاتِ مِنَ الأَغَانِي وَغَيْرِهَا، وَلَقَدْ تُوُعِّدَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ كَمَا فِي «صَحِيحِ البُخَارِيِّ» وَ«سُنَنِ أَبِي دَاودَ» وَابْنِ مَاجَةَ وَالطََّبَرَانِيِّ فِي «الكَبِيرِ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَ: أَنَّ هُنَاكَ قَوْمًا سَيَبِيتُونَ عَلَى لَهْوِهِمْ يُبَيِّتُهُمُ اللهُ فَيَمْسَخْهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، هَلِ اتَّقَيْنَا اللهَ وَابْتَعَدْنَا عَنْ مَحَارِمِهِ أَمْ أَنَّنَا نَمْتَنِعُ عَنِ المُبَاحِ وَنَتَوَغَّلُ فِي المُحَرَّمَاتِ، وَلِذَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ السَّهَرُ»(9).
فَعَلَيْكَ أَنْ تُعِيدَ حِسَابَاتِكَ، وَأَنْ تُحَاسِبَ نَفْسَكَ، وَلْتَعْلَمْ أَنَّكَ امْتَثَلْتَ فِي الوُقُوفِ وَالامْتِنَاعِ عَنِ المُبَاحَاتِ فَلْتَكُنِ المُحَرَّمَاتُ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
وَمِنَ الحِكَمِ الدِّينِيَّةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالقُلُوبِ: أَنَّهُ سَبَبٌ لِلشُّكْرِ، كَيْفَ يَكُونُ الامْتِنَاعُ سَبَبًا لِلشُّكْرِ؟
أَقُولُ: أَلَسْنَا نَتَفَيَّأُ نِعَمًا لا تُعَدُّ وَلا تُحْصَى وَنِعَمُ اللهِ عَلَيْنَا تَتْرَى حَتَّى أَصْبَحَ الإِنْسَانُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَحْيَانِ لا يَحْتَاجُ إِلَى مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ إِلا عَلَى طَرِيقِ العَادَةِ، بَلْ أَصْبَحَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَئِنْ كَلَّفْتَهُ أَنْ يَحْمِلَ شَيْئًا ثَقِيلاً أَوْلَى مِنْ أَنْ تُرْغِمَهُ عَلَى أَكْلِ شَيْءٍ، لِكَثْرَةِ النِّعَمِ، أَلَيْسَ هَذَا وَاقِعُنَا؟
إِذًا كَيْفَ يَكُونُ الصِّيَامُ وَهُوَ مَنْعٌ شُكْرًا للهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟
أَقُولُ إِنَّنَا لا نُقَدِّرُ هُذِهِ النِّعَمَ وَلا نَعْرِفُ أَهَمِّيَّتَهَا؛ لِأَنَّنَا لَمْ نَحْتَجْ إِلَيْهَا، فَإِذَا مُنِعْنَا مِنْهَا وَهِيَ بَيْنَ أَيْدِينَا وَامْتَنَعْنَا اسْتِجَابَةً للهِ وَلِرَسُولِهِ وَامْتَنَعْنَا عَنْ شَهَوَاتِنَا وَمَرَّتْ عَلَيْنَا السَّاعَاتُ تِلْوَ السَّاعَاتِ عَرَفْنَا قَدْرَ تِلْكَ النِّعَمِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ أَيْدِينَا وَلَمْ تَكُنْ بِتِلْكَ المَنْزِلَةِ أَوْ بِهَذَا المِقْدَارِ.
إذًا نَشْكُرُ اللهَ لَمَّا نَحُسُّ بِالجُوعِ وَالعَطَشِ وَإلَّا لَوْ كُنَّا عَلَى طَرِيقَتِنَا الأُولَى وَلَمْ نَشْعُرْ بِقَدْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ لَمَا شَكَرْنَا اللهَ، وَلِذَا ذَيَّلَ اللهُ سُبْحَانَه وَتَعَالَى آيَاتِ الصِّيَامِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(10).
وَمِنَ الحِكَمِ وَالأَسْرَارِ الدِّينِيَّةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالدِّينِ وَالمُتَعَلِّقَةِ بِزَوَالِ الذُّنُوبِ: أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَغْفِرُ لِمَنْ صَامَهُ إِيْمَانًا وَاحْتِسَابًا ذُنُوبَهُ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»(11)، لَكِنْ أَيُّ صِيَامٍ يُؤَدِّي إِلَى هَذِهِ النَّتِيجَةِ، وَأَيُّ قِيَامٍ يُؤَدِّي إِلَى هَذِهِ النَّتِيجَةِ؟
إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُبَالِغُ فِي مَظِنَّةِ الثَّوَابِ -وَهُوَ ثَوَابٌ جَزِيلٌ- مَعَ إِتْيَانِهِ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا لِضَيَاعِ ذَلِكَ، فَصِيَامُهُ فِيهِ نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ النِّيَّةِ وَمَا يَشُوبُهَا، وَمِنْ حَيْثُ عِمَارَتِهِ بِطَاعَةِ اللهِ، وَمِنْ حَيْثُ بُعْدِهِ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، وَأَمَّا صَلاتُهُ: فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ أَصْبَحُوا يُصَلُّونَ صُورَةً بِلا رُوحٍ، حَتَّى صَدَقَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مَا ثَبَتَ عِنْدَ التِّرْمِذِيَّ وَالدَّارِمِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، وَلِلحَدِيثِ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ المَسْجِدَ الجَامِعَ فَلا تَرَى فِيهِ رَجُلاً خَاشِعًا»(12)، فَوَاللهِ هَذَا الحَدِيثُ عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنْ طُبِّقَ عَلَى الوَاقِعِ، فَأَيْنَ القِيَامُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الغُفْرَانِ؟ هَلْ هُوَ صَلاةٌ بِلا رُوحٍ؟ أَوْ هُوَ لُبُّ الصَّلاةِ وَرُوحُهَا؟ وَوَاللهِ لَوْ كُنَّا نُؤَدِّي الصَّلاةَ بِرُوحِهَا لَتَحَقَّقَ مَا وَعَدَ وَأَخْبَرَ اللهُ عَنْ هَذِهِ الصَّلاةِ، وَلَوَصَلْنَا إِلَى النَّتِيجَةِ الَّتِي وَصَل إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّ اللهَ قَالَ: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾(13)، فَمَا بَالُنَا نُصَلِّي وَنَقْتَرِفُ المُحَرَّمَاتِ، وَلَوْ كُنََّا كَذَلِكَ لَكَانَتْ هَذِهِ الصَّلاةُ قُرَّةَ عَيْنِنَا وَرَاحَةَ بَالِنَا وَطُمَأْنِينَةَ قُلُوبِنَا، لَكِنْ مَا نَجِدُهُ مِنَ العَنَتِ وَالتَّعَبِ لِإِخْلالِنَا بِتِلْكَ الصَّلاةِ.
إذًا هُوَ مُكَفِّرٌ لِلذُّنُوبِ وَالخَطَايَا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لِعَدَدٍ مِنَ الصَّائِمِينَ»(14)، أَلا تَتَخَيَّلُ وَتَظُنُّ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ»: أَنَّهُ بِدُخُولِ هَذَا الشَّهْرِ تُصَفَّدُ الشَّيَاطِينُ وَتُفْتَحُ أَبْوَابُ الجَنَّاتِ وَتُغْلَقُ أَبْوَابُ النَّارِ(15) حَتَّى لا يَبْقَى لِلْجَنَّةِ بَابًا إِلَّا وَقَدْ فُتِحَ وَلا بَابًا مِنَ النَّارِ إِلَّا وَقَدْ أُغْلِقَ، ثُمَّ يُنَادَي: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِ أَقْصِرْ، فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَتَحَ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ وَسَاعَدَنَا عَلَى ذَلِكَ بِتَصْفِيدِ الشَّيَاطِينِ حَتَّى نَتَقَوَّى عَلَى العِبَادَةِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ.
وَمِمَّا يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ: قِيَامُ لَيْلَةِ القَدْرِ، فَإِنَّ «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»(16)، هَذِهِ اللَّيْلَةُ المُبَارَكَةُ الَّتِي عَوَّضَنَا اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَا لَمَّا قَصُرَتْ أَعْمَارُنَا، كَمَا ثَبَتَ فِي «سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ»(17) فَعَوَّضَنَا اللهُ بِهَذِهِ اللَّيْلةِ الَّتِي قِيَامُهَا يُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً مِنَ العِبَادَةِ، جُودٌ وَفَضْلٌ وَمِنَّةٌ مِنَ اللهِ، وَهِيَ حَقًا بِالإِجْمَاعِ فِي رَمَضَانَ، وَلَوْ أَنَّنَا أَتْعَبْنَا أَبْدَانَنَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ لَكَانَ حَرِيًا بِنَا وَلَيْسَ بِكَثِيرٍ عَلَى هَذَا الفَضْلِ العَظِيمِ وَالجُودِ مِنَ اللهِ، هِيَ فِي رَمَضَانَ، بَْل إِنَّهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْهُ، بَلْ إِنَّ كَوْنَهَا فِي الأَوْتَارِ أَحْرَى وَأَقْوَى، بَلْ لِسَبْعٍ بَقِينَ، بَلْ لِثَلاثٍ بَقِينَ، وَلِحِكَمٍ وَأَسْرَارٍ أَخْفَاهَا اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَتَّى يَجْتَهِدَ المُصَلُّونَ فِي ذَلِكَ، وَحَتَّى يُعْلَمَ مَنْ يَصْدُقُ فِي الْتِمَاسِهَا وَمَحَبَّةِ رِضَا اللهِ، وَمَنِ الَّذِي لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَمِنْ المُكَفِّرَاتِ للذُّنُوبِ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ: أَنَّ اللهَ يُعْتِقُ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِثْلَ مَا أَعْتَقَ فِي الشَّهْرِ كُلِّهِ، وَلِذَا لا نَسْتَغْرِبُ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ وَيُهَنِّأُهُمْ وَيُذَكِّرُهُمْ بِفَضْلِهِ، وَلا نَسْتَغْرِبُ أَنَّ صَحَابَةَ رَسُولِ اللهِ وَسَلَفُنَا الصَّالِحُ كَانُوا يَسْأَلُونَ اللهَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ حَتَّى يُمَكَّنُوا مِنْ وُصُولِهِ، ثُمَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أُخْرَى لَعَلَّ اللهَ يَتَقَبَّلَهُ مِنْهُمْ، فَحَيَاتُهُمْ كُلُّهَا مَرْبُوطَةٌ بِرَمَضَانَ، قَبْلَ وَبَعْدَ.
لَكِنْ أَيْنَ نَحْنُ مِنْ هَذَا الوَاقِعِ؟
مِمَّا سَبَقَ نُلاحِظُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ نَتَهَيَّأَ لِذَلِكَ الشَّهْرِ وَنُعِدُّ لَهُ عُدَّتَهُ، وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: نَحْنُ نُعِدُّ لَهُ عُدَّتَهُ، فَأَيُّ عُدَّةٍ أَعْدَدْناَهَا لَهُ؟
إِنَّ كَثِيرًا مِنَ المُسْلِمِينَ يَعُدُّونَ عُدَّةَ المَأْكَلِ وَالمَشْرَبِ، وَهَلْ هَذَا الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ وَطُولِبْنَا بِهِ، إِنَّ كَثِيرًا مِنَ المُسْلِمِينَ يَهْتَمُّ بِالمَظْهَرِ دُونَ العِنَايَةِ بِالجَوْهَرِ
وَمِنْ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ وَتَنَزُّلِ الرَّحَمَاتِ: اسْتِحْبَابُ أَكْلَةِ السُّحُورِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهَا وَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا أَكْلَةٌ مُبَارَكَةٌ وَحَثَّ عَلَيْهَا، فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: «السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ، فَلاَ تَدَعُوهُ، وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ». (18) وَسَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلَةَ السَّحُورِ الطَّعَامُ المُبَارَكُ، وَهُنَا أَقُولُ: أَيُّ بَرَكَةٍ أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟
إِنَّ البَرَكَةَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَظْهَرُ فِي جَوَانِبَ عِدَّةٍ:
مِنْهَا بَرَكَةُ الزَّمَانِ، فَالزَّمَانُ أَعْظَمُ الشُّهُورِ عَلَى الإِطْلاقِ، إِنَّهُ رَمَضَانُ، بَلْ وَأَعْظَمُ أَوْقَاتِ ذَلِكَ الشَّهْرِ، إِنَّهُ وَقْتُ التَّنَزُّلِ الإِلَهِيِّ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ، «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدنيا، حين يبقَى ثُلثُ الليلِ الآخِرُ، فيقول : من يَدعُوني فأَستجيبَ له ؟ مَن يَسْألُني فأُعْطِيَهُ ؟ مَن يَسْتَغْفِرُني فَأَغْفِرَ لَهُ ؟»(19)، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي العَامِ كُلِّهِ فَمَا بَالُكَ فِي رَمَضَانَ، إِنَّ البَرَكَةَ لَتَظْهَرُ جَلِيًّا فِي الزَّمَانِ وَقْتِ التَّنَزُّلِ الإِلَهِيِّ، وَلِذَا قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُشِيرًا إِلَى ذَلِكَ الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾(20)، وَلِذًا اسْتَحَبَّ أَهْلُ العِلْمِ أَنْ يُشْغَلَ أَكْثَرُ وَقْتِ السَّحُورِ بِالاسْتِغْفَارِ حَتَّى تَشْتَمِلَ عَلَى صِفَةِ أَهْلِ ذَلِكَ الوَقْتِ لَعَلَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَكَ.
وَبَرَكَةُ الطَّعَامِ: فَإِنَّ هَذَا الطَّعَامَ سَبَبٌ لِتَقْوِيَةِ بَدَنِ ابْنِ آدَمَ طِيلَةَ يَوْمِهِ، وَمَعَ أَنَّهُ سَبَبٌ لِتَقْوِيَةِ البَدَنِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَنْ يَبْقَى الإِنْسَانُ نَشِيطًا قَوِيًّا وَبِالتَّالِي يَتَمَكَّنُ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَالقِيَامِ بِالوَاجِبَاتِ وَالنَّوَافِلِ مِنْ صِيَامٍ وَقِيَامٍ وَقِرَاءَةٍ وَتَسْبِيحٍ وَذِكْرٍ، فَهِيَ مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ الإِسْلامُ، فَالفَرْقُ بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ مَنْ قَبْلِنَا أَكْلَةُ السَّحُورِ.
وَهُنَا أَحُثُّ عَلَى مَا حَثَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّحُورِ خَاصَّةً أَنْ يُكْثِرَ الإِنْسَانُ مِنَ التَّمْرِ، فَإِنَّهُ: «نِعْمَ السَّحُورُ التَّمْرُ»(21)؛ لِأَنَّ التَّمْرَ فِيهِ مِنَ السُّكَّرِيَّاتِ مَا يَمُدُّ الجِسْمَ بِالطَّاقَةِ طِيلَةَ ذَلِكَ اليَوْمِ، وَالإِنْسَانُ فِي هَذَا اليَوْمِ يَحْتَاجُ إِلَى طَاقَةٍ؛ لِأَنَّهُ سَيَبْذُلُ جُهْدًا مُضَاعَفًا بِلا تَعْوِيضٍ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ المَأْكَلِ وَالمَشْرَبِ.
وَأَهْمِسُ فِي أُذِنِ مَرِيضِ السُّكَّرِ شَفَاهُ اللهُ وَأَقُولُ: عَلَيْكَ بِالتَّمْرِ وَلَكِنْ إِنْتَقِي ذَلِكَ التَّمْرَ، فَقَدْ قَامَتْ جِهَتَانِ رَسْمِيَّتَانِ عِلْمِيَّتَانِ بِتَحْلِيلِ التَّمْرِ وَمَدَى احْتِوَائِهِ عَلَى السُّكَّرِيَّاتِ المُؤَثِّرَةِ، فَاتَّضَحَ أَنَّ التَّمْرَ مُتَفَاوِتٌ، فَأَسْهَلُ أَنْوَاعِ التُّمُورِ وَأَقَلُّهَا تَأْثِيرًا عَلَى مَرِيضِ السُّكَّرِ هُوَ تَمْرُ الإِخْلاصِ وَتَمْرُ البَرْحِي وَتَمْرُ الشَّقْرَةِ، وَأَشَدُّهَا عَلَى الإِطْلاقِ تَمْرُ السُّكَّرِي إِذْ يَحْتَوِي عَلَى 49% سُكَّرِيَّاتٍ ضَارَّةٍ، فَكُلْ خَمْسَ تَمَرَاتٍ مِنَ الإِخْلاصِ بَدَلاً مِنْ أَنْ تَأْكُلَ وَاحِدَةً مِنَ السُّكَّرِي.
وَأَمَّا الحِكَمُ وَالأَسْرَارُ الإِجْتِمَاعِيَّةُ:
فَالمُجْتَمَعُ مُنْذُ وُجِدَتِ الخَلِيقَةُ وَهُمْ مُتَبَايِنُونَ فِي الرِّزْقِ، فَمِنْهُمِ الغَنِيُّ وَمِنْهُمُ الفَقِيرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ بَيْنَ وَبَيْنَ، الفَقِيرُ المُعْدَمُ يَأِنُّ تَحْتَ وَطْأَةِ الفَقْرِ وَيُعَانِي مِنْ هَذَا الأَمْرِ العَظِيمِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الظُّرَفَاءِ: وَاللهِ لَوْ كَانَ الفَقْرُ رَجُلاً لَقَتَلْتُهُ، وَلِذَا اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ وَقَالَ: «كَادَ الفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا»(22)، وَلا شَكَّ أَنَّ دِينَنَا دِينُ المُسَاوَاةِ، وَالأَغْنِيَاءُ يَتَعَلَّمُونَ مِنْ وَاقِعِ أُولَئِكَ الفُقَرَاءِ وَيَحُسُّونَ بِأَحَاسِيسِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمْ، وَلَكِنْ عَرَفُوا تِلْكَ المَسْأَلَةِ عَنْ طَرِيقِ السَّمَاعِ وَتَفَاعَلُوا مَعَهَا عَنْ طَرِيقِ السَّمَاعِ، فَإِنْ مُنِعُوا عَنِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَيَحُسُّوا بِالجُوعِ وَالعَطَشِ يُطَبِّقُونَ الجُوعَ فِعْلاً وَيُعَايِشُونَ الفَقْرَ تَطْبِيقًا عَمَلِيًّا، فَأَيُّهَا أَوْلَى بِالإِحْسَاسِ بِالفَقِيرِ؟ فَفِي هَذِهِ اللَّحَظَاتِ يَتَسَاوَى الفَقِيرُ وَالغَنِيُّ، الغَنِيُّ امْتِنَاعًا مَعَ الوُجُودِ اسْتِجَابَةً للهِ وَلِرَسُولِهِ، وَالفَقِيرُ لِلْعَدَمِ، فَيَتَرَتَّبُ أَنَّ الغَنِيَّ بَعْدَ هَذِهِ التَّجْرُبَةِ العَمَلِيَّةِ الَّتِي عَاشَهَا سُوَيْعَاتٍ وَهُوَ مُخْتَارٌ يُعَانِي وَيَتَأَثَّرُ وَيَذْكُرُ ذَلِكُمُ الَّذِي يُعَانِي مِنْ هَذَا الأَمْرِ الَّذِي عَانَاهُ سَاعَاتٍ طِيلَةَ الحَيَاةِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ أَكْثَرَ تَأَثُّرًا وَأَكْثَرَ مُوَاسَاةً، فَلَيْسَ مَنْ رَأَى كَمَنْ سَمِعَ، وَلَيْسَ مَنْ طَبَّقَ كَمَنْ سَمِعَ، وَبِالتَّالِي يَعِيشُ البَذْلَ وَالعَطَاءَ لِلْفُقَرَاءِ بِشَكْلٍ لَمْ يَجُدْ بِمِثْلِهِ، وَلا غَرَابَةَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فَقُدْوَتُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقَدْ كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ.
وَبَعْضُ النَّاسِ يَسْمَعُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الشَّبَابِ يُعَانُونَ مِنْ كَبْتِهِمْ لِغَرَائِزِهِمْ طِيلَةَ حَيَاتِهِمْ، وَهُوَ مَعَهُمْ قَلْبًا وَقالَبًا؛ لِأَنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يُفْضُونَ بِوَاقِعِهِمْ عَنْ طَرِيقِ السَّمَاعِ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَنْ يَحِنُّ إِلَيْهَا وَتَحِنُّ إِلَيْهِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَنْهَا فَمَا الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ؟ يَعْرِفُ مِقْدَارَ الزَّوَاجِ وَيَعْرِفُ أَهَمِّيَّتَهُ؛ لِأَنَّهُ مُنِعَ سُوَيْعَاتٍ، وَبِالتَّالِي يَجُودُ وَيَتَكَرَّمُ عَلَى شَبَابِنَا الَّذِينَ طَالَمَا كَبَتُوا وَعَانُوا وَتَأَلَّمُوا مِنْ هَذَا الأَمْرِ، وَلَيْسَ بِغَرِيبٍ أَنْ يَكُونُوا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الزَّوَاجِ فِي الإِسْلامِ عَظِيمٌ، وَلِذَا ثَبَتَ عِنْدَ البَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ رَزَقَهُ اللهُ امْرَأَةً صَالِحَةً فَقَدْ أَعَانَهُ عَلَى شَطْرِ دِينِهِ فَلْيَتَّقِ اللهَ فِى الشَّطْرِ البَاقِي»(23)، إذًا فِيهِ مُسَاوَاةٍ وَفِيهِ تَكَافُلٌ اجْتِمَاعِيٌّ مِنْ عَدَدٍ مِنَ الوُجُوهِ.
وَأَمَّا النَّوَاحِي الصِّحَّيَةُ:
فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «صُومُوا تَصِحُّوا»(24)، وَتَظْهَرُ آثَارُ الصِّيَامِ الصِّحِّيَة بِأَنَّ الإِنْسَانَ فَتَحَ المَجَالَ لِشَهَوَاتِ بَطْنِهِ عَامًا كَامِلاً أَدَّى ذَلِكَ الأَكْلُ إِلَى وَجُودِ تَرَسُّبِ فَضَلاتٍ قَدْ تَضُرُّ بِالبَدَنِ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ الإِلَهِ أَنْ يُمْنَعَ فَتَرَاتٍ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى تَخْرُجَ تِلْكَ الفَضَلاتِ وَيَصِحَّ بَدَنُهُ.
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يُنَظِّمُ مَرَضَ السُّكَّرِ وَالضَّغْطِ هُوَ الصِّيَامُ؛ لِأَنَّ أَكْلَهُ وَمَشْرَبَهُ يَكُونُ مُنَظَّمًا.
وَلا غَرَابَةَ إِذًا أَنْ نَجِدَ الغَرْبَ بِمَادِّيَّاتِهِ صَارُوا يُعَالِجُونَ بَعْضَ الأَمْرَاضِ بِالصِّيَامِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ البَدَنِ، فَكَيْفَ وَقَدِ انْضَمَّ إِلَيْنَا مَعَ المَصْلَحَةِ البَدَنِيَّةِ مَصْلَحَةُ القَلْبِ وَزَوَالُ الذَّنْبِ وَصَلاحُ المُجْتَمَعِ. وَتُنَادِي المُسْتَشْفَيَاتُ الغَرْبِيَّةُ الآنَ بِعِلاجِ بَعْضِ الأَمْرَاضِ بِالصِّيَامِ فَلْنَهْنَأْ بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي سَبَقَ هَذِهِ الأُمَمَ رَغْمَ مَا تَدَّعِيهِ مِنَ الحَضَارَاتِ، رَغْمَ مَا تَدَّعِي مِنْ تَقَدُّمٍ عِلْمِيٍّ فَإِنَّ دَينَنَا سَبَقَهُمْ بِمَرَاحِلٍ وَأَعْطَى مَا لَمْ يُعْطُوا؛ لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا إِلَى الصِّحَّةِ وَدِينُنَا نَظَرَ إِلَى جَوَانِبَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَمَا الصِّحَّةُ إِلَّا جُزْءٌ مِنْ تِلْكَ الجَوَانِبِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الصِّيَامُ وَحَثَّ عَلَيْهَا الدِّينُ.
وعَلَى الإِنْسَانِ أَلَّا يُتْخِمَ بَطْنَهُ بِكَثْرَةِ الطَّعَامِ.
اللَّهُمَّ بَلِّغْنَا رَمَضَانَ، وَسَلِّمْنَا لِرَمَضَانَ، وَسَلِّمْهُ لَنَا، وَاسْتَلِمْهُ مِنَّا مَغْفُورَةً ذُنُوبُنَا مَرْفُوعَةً دَرَجَاتُنَا، كَمَا أَسْأَلُكَ سُبْحَانَكَ يَا عَلِيُّ يَا قَدِيرُ، يَا مَنْ وَفَّقْتَنَا لِهَذَا الدِّينِ الكَامِلِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ وَإِنَّمَا جُودٌ مِنْكَ وَلُطْفٌ أَنْ تُثَبِّتَنَا عَلَى هَذَا الدِّينِ حَتَّى يَأْتِيَنَا اليَقِينُ، وَأَسْأَلُكَ سُبْحَانَكَ أَنْ تُحْيِنَا سُعَدَاءً، وَأَنْ تُمِيتَنَا شُهَدَاءً وَأَنْ تَحْشُرَنَا مَعَ الأَنْبِيَاءِ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.
الأَسْئِلَةُ
السُؤَالُ: نَرْجُوا مِنْ فَضِيلَتِكُمْ أَنْ تُوَضِّحُوا لَنَا مِقْدَارَ صَلاةِ التَّرَاوِيحِ وَالقَيَامِ المُوَافِقِ لِلسُّنَةِ؟
الجَوَابُ: النَّاسُ الآنَ فِي هَذَا الأَمْرِ بَيْنَ الإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطَ غَالِبًا، فَهُنَاكَ مَنْ تَشَبَّثَ بِأَدِلَّةٍ، وَهُنَاكَ مَنْ عَارَضَ تِلْكَ الأَدِلَّةِ، وَالحَقِيقَةُ أَنَّ الأَقْرَبَ إِلَى هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنَّ يَكُونَ القِيَامُ إِحْدَى عَشَرَةَ رَكْعَةً مَا زَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا فِي رَمَضَانَ وَلا فِي غَيْرِهِ عَنْ إِحْدَى عَشَرَةَ رَكْعَةً(25)، وَفِي رِوَايَةٍ: ثَلاثَةَ عَشَرَ رَكْعَةً، وَلَكِنْ هَذَا مِنْ بَابِ السُّنَنِ، فَهُوَ أَوْلَى لِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنْ إِنْ صَلَّى المُسْلِمُونَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ فَإِنَّ الأَمْرَ وَاسِعٌ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ»: «صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» (26)، وَثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيٍّ فَصَلَّى بِهِمْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ رَكْعَةً، فَالأمْرُ وَاسِعٌ جِدًا، لَكِنَّي أُنَبِّهُ أَنَّ الأَقْرَبَ إِلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الإِحْدَى عَشَرَةَ رَكْعَةً، لَكِنْ لَوْ وَجَدْتَ مَنْ يُصَلِّي خِلافَ ذَلِكَ، فَقُمْ مَعَهُ حَتَّى يُنْهِي صَلاتَهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ قِيَامَ اللَّيِلِ وَأَجْرَهُ عَلَى انْصِرَافِ الإِمَامِ، فَقَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»(27).
وَذَكَرَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَاعِدَةً عَظِيمَةً تُخْرِجُنَا مِنْ كَثِيرٍ مِنَ المَشَاكِلِ، (فِي المُجَلَّدِ24، ص 206، وَالمُجَلَّدِ20، ص 159) ذَكَرَ قَاعِدَةً مُهِمَّةً يَا لَيٍتَنَا نَتَذَكَّرُهَا، فَوَاللهِ لَوْ تَذَكَّرْنَاهَا لَزَالَ عَنَّا الخِلافُ وَصَلُحَتْ قُلُوبُنَا يَقُولُ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "السُّنَّةُ تَرْكُ السُّنَّةِ إِذَا كَانَ تَرْكُهَا يُؤَدِّي إِلَى اجْتَمَاعٍ"، تَرْكُ السُّنَّةِ سُنَّةٌ لِأَجْلِ الاجْتِمَاعِ، مَا دَلِيلُكَ يَا شَيْخَ الإِسْلامِ؟ مَا ثَبَتَ فِي «صَحِيحِ البُخَارِيِّ» وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ لَهَدَمْتُ الْكَعْبَةَ وَلَبَنَيْتُهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ»(28)، مَا المُحُبَّبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ المُحَبَّبُ أَنْ يَهْدِمَ الكَعْبَةَ وَيُعِيدَهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَكِنْ لِعِلْمِهِ أَنَّ هَذَا المُحَبَّبَ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى اخْتِلافٍ، تَرَكَهُ، " السُّنَّةُ تَرْكُ السُّنَّةِ لِأَجْلِ الاجْتِمَاعِ"، تَرْكُ الاخْتِلافِ سُنَّةٌ، المُحَبَّبُ لِلنَّبِيِّ أَنْ تُعَادَ الكَعْبَةَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، هَذَا الَّذِي يُرِيدُهُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَلْ فَعَلَ المُحَبَّبَ عِنْدَهُ؟ لا، بَلْ تَرَكَهُ مُعَلِّلاً أَنَّهُمْ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، فَإِذًا قَدْ يَخْتَلِفُوا فَاجْتِمَاعُهُمْ أَحَبُّ إِلَى النَّبِيِّ مِنْ هَذِهِ السُّنَّةِ، وَدَلِيلُ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَيْضًا مَا ثَبَتَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانٍ صَلَّى سِتَّ سِنِينٍ مِنْ خِلافَتِهِ يَقْصُرُ فِي مِنًى، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَصَلَّى أَرْبَعًا فَأَتَمَّ فَلَمَّا بُلِّغَ بِذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ يَا لَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ(29)، إِذًا مَا المُحَبَّبُ عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ؟ وَمَتَى تُقَالُ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ؟ عِنْدَ المُصِيبَةِ، وَلَمَّا جَاءَ التَّطْبِيقُ العَمَلِيُّ صَلَّى خَلْفَهُ حَتَّى لا يَخْتَلِفُوا، فَلَمَّا سُئِلَ قَالَ: الخِلافُ شَرٌّ(30)، كَمَا فِي «سُنَنِ البَيْهَقِيِّ»، فَتَرَكَ الأَمْرَ المُحَبَّبَ الَّذِي يَعْتَبِرُ أَنَّ تَرْكَهُ مُصِيبَةٌ لِأَجْلِ أَلَّا يَخْتَلِفُوا، وَهَذَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ عَلَيْهِ رَحْمَةُ اللهِ يَقُولُ: إِذَا صَلَّيْتَ مَعَ إِمَامٍ يَقْنُتُ فِي صَلاةِ الفَجْرِ فَاقْنُتْ مَعَهُ -مَعَ أَنَّهُ لا يَرَى القُنُوتَ فِي الفَجْرِ- وَإِذَا صَلَّيْتَ خَلْفَ إِمَامٍ يَجْهَرُ بِاسْمِ اللهِ فَاجْهَرْ مَعَهُ حَتَّى لا تَخْتَلِفُوا.
فَأَيْنَ شَبَابُنَا مِنَ الحِكَمِ وَأَسْرَارِ الدِّينِ فَالاجْتِمَاعُ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ وُجُودِ سُنَّةٍ، كَيْفَ وَهِيَ سُنَّةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَنَا لِمَعْرِفَةِ مَقَاصِدِ الدِّينِ وَتَطْبِيقِهِ.
السُؤَالُ: مَا حُكْمُ صِيَامِ القَضَاءِ بَعْدَ إِتْمَامِ سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ قَادِرٌ ؟
الجَوَابُ: أَوَّلاً عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ مَعَ المُسْلِمِينَ، وَلَوْ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَجِبْ فَقَدْ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ، وَلا مَرَضٍ، لَمْ يَقْضِهِ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، وَإِنْ صَامَهُ»(31)، فَالحَدِيثُ لا يَثْبُتُ، وَإِنْ جَاءَ بِنَحْوِهِ مُعَلَّقًا عَلَى صِيغَةِ التَّمْرِيضِ عِنْدَ البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ المَرْفُوعَ لا يَثْبُتُ(32)، وَمَتَى كَانَ مَأْذُونًا لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ قَضَاءًا مُوَسَّعًا مِنْ رَمَضَانَ إِلَى نِهَايَةِ شَعْبَانَ، لَكِنْ كُلَّمَا سَارَعَ كَانَ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى حِرْصِهِ عَلَى إِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ، فَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: «كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّومُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ» قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: ذَلِكَ عَنِ الشُّغْلِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (33)، وَأَمَّا إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ الآخَرُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَهُ بَعْدَ رَمَضَانَ وَأَنْ يُكَفِّرَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ، فَهَذَا الَّذِي مَرَّ عَلَيْهِ رَمَضَانَانِ هُوَ آثِمٌ إِنْ كَانَ مَرَّ عَلَيْهِ وَقْتٌ مُسْتَطِيعٌ وَقَصَّرَ، وَالآنَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ وَيُطْعِمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.
السُؤَالُ: هَلْ حَدِيثُ «صُومُوا تَصِحَّوا»(34) ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟
الجَوَابُ: عِلْمِي بِهَذَا الحَدِيثِ أَنَّهُ يَصْلُحُ لِلتَّذْكِيرِ بِهِ، فَلَيْسَ ضَعْفُهُ شَدِيدًا.
السُؤَالُ: هَلْ مُشَاهَدَةُ المُسَلْسَلاتِ وَالتِّلْفَازِ فِي لَيْلِ شَهْرِ رَمَضَانَ يُؤَثِّرُ عَلَى الصِّيَامِ؟
الجَوَابُ: هَذِهِ الأُمُورُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا إِضَاعَةَ الوَقْتِ لَكَفَى، فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهِ إِلاَّ قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةً»(35)، لِمَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا اللهَ، فَكَيْفَ إِذَا عَصَوْهُ، عَنْ مَاذَا يَقُومُونَ؟ لِأَنَّهُمْ أَهْدَرُوا أَوْقَاتٍ بِلا فَائِدَةٍ، انْظُرُوا إِلَى قِيمَةِ الوَقْتِ عِنْدَ اللهِ وَرَسُولِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ قَضَاهَا فِي المُحَرَّمَاتِ، فَإِضَافَةً إِلَى أَنَّهُ سَيُسْأَلُ عَنْ وَقْتِهِ وَسَيُحْسَبُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الأُمُورَ قَدْ تُضْعِفُ القَلْبَ وَتُمْرِضُهُ وَتُوجِدُ فِيهِ الشَّهَواتِ أَوِ الشُّكُوكَ وَالشُّبُهَاتِ وَالَّذِي يَرَى بِعَيْنِ الاعْتِبَارِ وَاقِعَ كَثِيرٍ مِنْ وَسَائِلِ الإِعْلامِ، يَقُولُ كَيْفَ لِعَاقِلٍ فَضْلاً عَنْ مُؤْمِنٍ أَنْ يَضَعَهَا فِي بَيْتِهِ.