منهج القرءان الكريم في معالجة الغلو
http://www.ebnmaryam.com/vb/clientsc...ges/extra1.gif
منهج القرءان الكريم في معالجة الغلو
بقلم / د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل:( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي وصف القرءان أجمل وصف، فقال :( كتاب الله،تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى بغيره أضله الله. هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم. وهو الصراط المستقيم. وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تتشعب معه الآراء، ولا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، ولا يَخلَق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا : إنا سمعنا قرآناً عجباً. من علم علمه سبق،ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم) رواه الترمذي.
أما بعـد :
فإن دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، وسط بين طرفين، وعدل بين عِوَجين، وهدى بين ضلالتين؛ بين إفراطٍ وتفريط، وغلوٍ وتساهل. وقد حفظ الله لهذه الأمة خاصية(الوسطية) في كتابه الكريم، والتزمها أهل السنة والجماعة، فهماً وتطبيقاً، على مر القرون. فكلما دفت دافة، أو نزلت نازلة، فزعوا إلى الأصل العظيم، ووردوا المورد الكريم، فصدروا بشفاء الصدور، واتضاح الأمور.(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ).
وقد ظهر(الغلو) فيمن كان قبلنا من الأمم، وظهر في هذه الأمة أيضاً، مصداقاً لقول نبينا صلى الله عليه وسلم :(لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه.قلنا: يا رسول الله!اليهود والنصارى؟قال: فمن؟)متفق عليه
وقد أودع الله تعالى كتابه الكريم الشفاء من كل داء، والنور والضياء لكل ظلماء، والمخرج من كل فتنة عمياء. ومن ذلك داء(الغلو) وظلمائه، وفتنته. وسنسعى من خلال هذا البحث إلى استنباط المنهج القرءاني، خاصة، في مواجهة الغلو، وإلا، فإن في السنة النبوية، شواهد كثيرة، وتطبيقات عملية، لكبح جماح هذا الانحراف الذي يطلع قرناً بعد قرن، على الأمة الإسلامية.
حقيقة الغلو :
أ – الغلو لغةً :
قال الجوهري :( غلا في الأمر، يغلو غُلُوَّا، أي : جاوز فيه الحد).
وقال ابن منظور :( وأصل الغلاء : الارتفاع، ومجاوزة القدر في كل شيء).
وكذا قال ابن فارس:( الغين واللام والحرف المعتل أصل صحيح في الأمر، يدل على ارتفاع ومجاوزة قدر. يقال: غلا السعر يغلو غلاءً، وذلك ارتفاعه. وغلا الرجل في الأمر غلواً، إذا جاوز حده. وغلا بسهمه غلْواً، إذا رمى به سهماً أقصى غايته)
ب – الغلو شرعاً :
قال ابن الأثير :( الغلو في الدين : أي التشدد فيه، ومجاوزة الحد... وقيل معناه : البحث عن بواطن الأشياء، والكشف عن عللها، وغوامض متعبداتها)، وقال ابن حجر:
(الغلو:هو المبالغة في الشيء، والتشديد فيه بتجاوز الحد، وفيه معنى التعمق)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :( الغلو : مجاوزة الحد ن بأن يزاد في الشيء، في حمده، أو ذمه على ما يستحق) ومن شواهد ذلك :
( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم :( يا أيها الناس : إياكم والغلو في الدين؛ فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)رواه أحمد والحاكم، وحديث :( لا تغالوا في الكفن، فإنه يُسلبه سلباً سريعاً) رواه أبو داود، ومنه قول عمر، رضي الله عنه :(ألا لا تغالوا بصُدُق النساء) رواه أبو داود.
وبهذا يتبين اتفاق المعنيين، اللغوي، والاصطلاحي، على تعريف الغلو، وأنه بمعنى تجاوز الحد، والزيادة المذمومة في كل شيء، ولو بالتعمق والتكلف. وهو بهذا الاعتبار ضرب من البدعة، لخروجه عن رسم الشرع من جهة الزيادة والمبالغة، ولا يشفع له كونه صادراً عن اجتهاد وحسن نية، فإن اقتصاداً في اتباع، خير من اجتهاد في ابتداع.
ويقارب مفهوم( الغلو) ويشاركه من بعض الوجوه، مفردات ذات مدلولات شرعية، أو مدلولات اصطلاحية، من جنس :( التنطع) و( التشدد) و(الإفراط) و( الطغيان) و(العتو) و( التطرف)، يجمعها معنى المبالغة، وتجاوز الحد الأوسط.
منهج القرءان الكريم في معالجة الغلو :
تنوعت طرائق القرءان الكريم في إدانة ظاهرة الغلو، والتحذير منه. ولا ريب أن هذا التنوع يفضي إلى تتبع جذور هذا الانحراف، واستئصالها، ويلقي في روع المؤمن حساً إيمانياً واعياً بالنفرة من هذا المسلك الوبيء. ومن هذه الطرق :