رحلتي من الشك إلى الإيمان
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
أخوتي الكرام سأقوم بنسخ كتاب " رحلتي من الشك إلى الإيمان " لمصطفى محمود هنا في هذا الموضوع بإذن الله ... كتاب الطبعة الخامسة لدار المعارف و الله الموفق
مصـطفى محـمود
رحلتي من الشك إلى الإيمان ...
الطبعة الخامسة
دار المعارف
بــسم الـلـه الرحمـــن الرحـــيم
...............الــلَّــه
كان ذلك من زمن بعيد لست أذكره .. ربما كنت أدرج من الثالثة عشرة إلى الرابعة عشرة و ربما قبل ذلك .. في مطالع المراهقة .. حينما بدأت أتساءل في تمرد :
- تقولون إن الله خلق الدنيا لأنه لا بد لكل مخلوق من خالق و لا بد لكل صنعة من صانع و لا بد لكل موجود من موجد .. صدقنا و آمنا .. فلتقولوا لي إذن من خلق الله .. أم أنه جاء بذاته .. فإذا كان قد جاء بذاته وصحّ في تصوركم أن يتم هذا الأمر .. فلماذا لا يصح في تصوركم أيضاً أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق و ينتهي الإشكال .
كنت أقول هذا فتصفر من حولي الوجوه و تنطلق الألسن تمطرني باللعنات و تتسابق إليّ اللكمات عن يمين و شمال .. و يستغفر لي أصحاب القلوب التقية و يطلبون لي الهدى .. و يتبرأ مني المتزمتون و يجتمع حولي المتمردون .. فنغرق معاً في جدل لا ينتهي إلا ليبدأ و لا يبدأ إلا ليسترسل .
و تغيب عني تلك الأيام الحقيقة الأولى وراء ذلك الجدل . إن زهوي بعقلي الذي بدأ يتفتح و إعجابي بموهبة الكلام و مقارعة الحجج التي انفردت بها .. كان هو الحافز دائماً .. و كان هو المشجع .. و كان هو الدافع .. و ليس البحث عن الحقيقة و لا كشف الصواب .
لقد رفضت عبادة الله لأني استغرقت في عبادة نفسي و أعجبت بومضة النور التي بدأت تومض في فكري مع انفتاح الوعي و بداية الصحوة من مهد الطفولة .
كانت هذه هي الحالة النفسية وراء المشهد الجدلي الذي يتكرر كل يوم . و غابت عني أيضاً أصول المنطق و أنا أعالج المنطق و لم أدرك أني أتناقض مع نفسي إذ كيف أعترف بالخالق ثم أقول و من خلق الخالق فأجعل منه مخلوقاً في الوقت الذي أسميه خالقاً و هي السفسطة بعينها .
ثم إن القول بسبب أول للوجود يقتضي أن يكون هذا السبب واجب الوجود في ذاته و ليس معتمداً و لا محتاجاً لغيره لكي يوجد . أما أن يكون السبب في حاجة إلى سبب فإن هذا يجعله واحدة من حلقات السببية و لا يجعل منه سبباً أول .
هذه هي أبعاد القضية الفلسفية التي انتهت بأرسطو إلى القول بالسبب الأول و المحرك الأول للوجود .
و لم تكن هذه الأبعاد واضحة في ذهني في ذلك الحين .
و لم أكن قد عرفت بعد من هو أرسطو و لا ما هي القوانين الأولى للمنطق و الجدل .
و احتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب و آلاف الليالي من الخلوة و التأمل و الحوار مع النفس و إعادة النظر قم إعادة النظر في إعادة النظر .. ثم تقليب الفكر على كل وجه لأقطع فيه الطريق الشائكة من الله و الإنسان إلى لغز الحياة إلى لغز الموت إلى ما أكتب من كلمات على درب اليقين .
لم يكن الأمر سهلاً .. لأني لم أشأ أن آخذ الأمر مأخذاً سهلاً .
و لو أني أصغيت إلى صوت الفطرة و تركت البداهة تقودني لأعفيت نفسي من عناء الجدل .. و لقادتني الفطرة إلى الله .. و لكنني جئت في زمن تعقد فيه كل شيء و ضعف صوت الفطرة حتى صار همساً و ارتفع صوت العقل حتى صار لجاجة و غروراً و اعتداداً .. و العقل معذور في إسرافه إذ يرى نفسه واقفاً على هرم هائل من المنجزات و إذ يرى نفسه مانحاً للحضارة بما فيها من صناعة و كهرباء و صواريخ و طائرات و غواصات و إذ يرى نفسه قد اقتحم البر و البحر و الجو و الماء و ما تحت الماء .. فتصور نفسه القادر على كل شيء و زج نفسه في كل شيء و أقام نفسه حاكماً على ما يعلم و ما لا يعلم .
* * *
و غرقت في مكتبة البلدية بطنطا و أنا صبي أقرأ لشبلي شميل و سلامة موسى و أتعرف على فرويد و دارون .
و شغفت بالكيمياء و الطبيعة و البيولوجيا .. و كان لي معمل صغير في غرفتي أجضر فيه غاز ثاني أكسيد الكربون و ثاني أكسيد الكبريت و أقتل الصراصير بالكلور و أشرح فيه الضفادع .
و كانت الصيحة التي غمرت العالم هي .. العلم .. العلم .. العلم .. و لا شيء غير العلم .
النظرة الموضوعية هي الطريق .
لنرفض الغيبيات و لنكف عن إطلاق البخور و ترديد الخرافات .
من يعطينا دبابات و طائرات و يأخذ منا الأديان و العبادات ؟؟ و كان ما يصلنا من أنباء العلم الغربي باهراً يخطف أبصارنا و كنا نأخذ عن الغرب كل شيء .. الكتب و الدواء و الملابس و المنسوجات و القاطرات و السيارات و حتى الأطعمة المعلبة حتى قلم الرصاص و الدبوس و الإبرة حتى نظم التعليم و قوالب التأليف الأدبي من قصة و مسرحية و رواية حتى ورق الصحف .
و حول أبطال الغرب و عبقرياته كنا ننسج أحلامنا و مثلنا العليا .. حول باستير و ماركوني و رونتجن و أديسون .. و حول نابليون و إبراهام لنكولن .. و كرستوفر كولمبس و ماجلان .
كان الغرب هو التقدم .
و كان الشرق العربي هو التخلف و الضعف و التخاذل و الإنهيار تحت أقدام الاستعمار .
و كان طبيعيّاً أن نتصور أن كل ما يأتينا من الغرب هو النور و الحق .. و هو السبيل إلى القوة و الخلاص .
و دخلت كلية الطب لأتلقى العلوم بلغة إنجليزية و أدرس التشريح في مراجع إنجليزية و أتكلم مع أستاذي في المشفى باللغة الإنجليزية .. ليس لأن إنجلترا كانت تحتل القناة لكن لسبب آخر مشروع و عادل .. هو أن علم الطب الحديث كان صناعة غربية تماماً .. و ما بدأه العرب في هذه العلوم أيام ابن سينا , كان مجرد أوليات لا تفي بحاجات العصر .
و قد التقط علماء الغرب الخيط من حيث انتهى ابن سينا و الباحثون العرب ثم استأنفوا الطريق بإمكانيات متطورة و معامل و مختبرات و ملايين الجنيهات المرصودة للبحث , فسبقوا الأولين من العرب و الفرس و العجم , و أقاموا صرح علم الطب الحديث و الفسيولوجيا و التشريح و الباثولوجيا و أصبحوا بحق مرجعاً .
و تعلمت ما تعلمت في كتب الطب .. النظرة العلمية .. و أنه لا يصح إقامة حكم بدون حيثيات من الواقع و شواهد من الحس .
و أن العلم يبدأ من المحسوس و المنظور و الملموس و أن العلم ذاته هو عملية جمع شواهد و استخراج قوانين .
و ما لا يقع تحت الحس فهو في النظرة العلمية غير موجود .
و أن الغيب لا حساب له في الحكم العلمي .
بهذا العقل العلمي المادي البحت بدأت رحلتي في عالم العقيدة و بالرغم من هذه الأرضية المادية والانطلاق من المحسوسات الذي ينكر كل ما هو غيب فإني لم أستطع أن أنفي أو أستبعد القوة الإلهية.
كان العلم يقدم صورة عن الكون بالغة الإحكام و الانضباط .. كل شيء من ورقة الشجر إلى جناح الفراشة إلى ذرة الرمل فيها تناسق و نظام و جمال الكون كله مبني وفق هندسة و قوانين دقيقة .
و كل شيء يتحرك بحساب من الذرة المتناهية في الصغر إلى الفلك العظيم إلى الشمس و كواكبها إلى المجرة الهائلة التي يقول لنا الفلك إن فيها أكثر من ألف مليون مجرة .
كل هذا الوجود اللا متناهي من أصغر إلكترون إلى أعظم جرم سماوي كنت أراه أشبه بمعزوفة متناسقة الأنغام مضبوطة التوزيع كل حركة فيها بمقدار .. أشبه بالبدن المتكامل الذي فيه روح.
كان العلم يمدني بوسيلة أتصور بها الله بطريقة مادية .
وفي هذه المرحلة تصورت أن الله هو الطاقة الباطنة في الكون التي تنظمه في منظومات جميلة من أحياء وجمادات وأراض وسماوات . هو الحركة التي كشفها العلم في الذرة وفي البروتو بلازم وفي الأفلاك ..
هو الحيوية الخالقة الباطنة في كل شيء ..أو بعبارة القديس توماس..الفعل الخالص الذي ظل يتحول في الميكروب حتى أصبح إنساناً ومازال يتحول.وسيظل يتحول إلى ما لانهاية .
والوجود كان في تصوري لا محدوداً لا نهائياً. إذ لا يمكن أن يحد الوجود إلا العدم .. والعدم معدوم.. ومن هنا يلزم منطقياً أن يكون الوجود غير محدود ولا نهائي .
ولا يصح أن نسأل..من الذي خلق الكون . إذ أن السؤال يستتبع أن الكون كان معدوماً في البداية ثم وجد .. وكيف يكون لمعدوم كيان .
إن العدم معدوم في الزمان والمكان وساقط في حساب الكلام ولا يصح القول بأنه كان .
وبهذا جعلت من الوجود حدثاً قديماً أبدياً أزلياً ممتداً في الزمان لا حدود له ولا نهاية .
وأصبح الله في هذه النظرة هو الكل ونحن تجلياته .
الله هو الوجود .. والعدم قبله معدوم .
هو الوجود المادي الممتد أزلاً وأبداً بلا بدء وبلا نهاية .
وهكذا أقمت لنفسي نظرية تكتفي بالموجود..وترى أن الله هو الوجود ..دون حاجة إلى افتراض الغيب والمغيبات..ودون حاجة إلى التماس اللامنظور .
وبذلك وقعت في أسر فكرة وحدة الوجود الهندية وفلسفة سبينوزا ..وفكرة برجسون عن الطاقة
الباطنة الخلاقة وكلها فلسفات تبدأ من الأرض..من الحواس الخمس .. ولا تعترف بالمغيبات .
ووحدة الوجود الهندية تمضي إلى أكثر من ذلك فتلغى الثنائية بين المخلوق والخالق ..فكل المخلوقات
في نظرها هي عيني الخالق.
وفي سفر اليوبانيشاد صلاة هندية قديمة تشرح هذا المعنى في أبيات رقيقة من الشعر .
إن الإله براهماً الذي يسكن قلب العالم يتحدث في همس قائلاً:
إذا ظن القاتل أنه قاتل
والمقتول أنه قتيل
فليسا يدريان ما خفي من أساليبي
حيث أكون الصدر لمن يموت
والسلاح لمن يقتل
والجناح لمن يطير
وحيث أكون لمن يشك في وجودي.
كل شيء حتى الشك نفسه .
وحيث أكون أنا الواحد
وأنا الأشياء
إنه إله يشبه النور الأبيض ..واحد.. وبسيط..ولكنه يحتوى في داخله على ألوان الطيف السبعة.
وعشت سنوات في هذا الضباب الهندي وهذه الماريجوانا الصوفية ومارست اليوجا وقرأتها في أصولها
وتلقيت تعاليمها على أيدي أساتذة هنود .وسيطرت على فكرة التناسخ مدة طويلة وظهرت روايات
لي مثل العنكبوت والخروج من التابوت.
ثم بدأت أفيق على حالة من عدم الرضا وعدم الاقتناع.
واعترفت بيني وبين نفسي أن هذه الفكرة عن الله فيها الكثير من الخلط .ومرة أخرى كان العلم هو دليلي ومنقذي ومرشدي .
عكوفي على العلم وعلى الشريحة الحية تحت الميكرسكوب قال لي شيئاً آخر.
وحدة الوجود الهندية كانت عبارة شعرية صوفية..ولكنها غير صادقة.. و الحقيقة المؤكدة التي يقولها العلم أن هناك وحدة في الخامة لا أكثر .. وحدة في النسيج و السنن الأولية و القوانين .. وحدة في المادة الأولية التي بني منها كل شيء .. فكل الحياة من نبات و حيوان و إنسان بنيت من تواليف الكربون مع الآيدروجين و الأكسجين .. و لهذا تتحول كلها إلى فحم بالاحتراق .. و كل صنوف الحياة تقوم على الخلية الواحدة و مضاعفاتها .
و مرة أخرى نتعلم من الفلك و الكيمياء و العلوم النووية أن الكربون ذاته و كذلك جميع العناصر المختلفة جاءت من طبخ عنصر واحد في باطن الأفران النجمية الهائلة هو الآيدروجين .
الآيدروجين يتحول في باطن الأفران النجمية إلى هليوم و كربون و سليكون و كوبالت و نيكل و حديد إلى آخر قائمة العناصر و ذلك بتفكيكه و إعادة تركيبه في درجات حرارة و و ضغوط هائلة .
و هذا يرد جميع صنوف الموجودات إلى خامة واحدة .. إلى فتلة واحدة حريرية غزل منها الكون في تفصيلات و تصميمات و طرز مختلفة .
و الخلاف بين صنف و صنف و بين مخلوق و مخلوق هو خلاف في العلاقات الكيفية و الكمية .. في المعادلة و الشفرة التكوينية .. لكن الخامة واحدة .. و هذا سر الشعور بالنسب و القرابة و المصاهرة و صلة الرحم بين الإنسان و الحيوان و بين الوحش و مروضه و بين الأنف التي تشم و الوهرة العاطرة و بين العين و منظر الغروب الجميل .
هذا هو سر الهارموني و الانسجام .
إن كل الوجود أفراد أسرة واحدة من أب واحد .
و هو أمر لا يستتبع أبداً أن نقول إن الله هو الوجود , و أن الخالق هو المخلوق فهذا خلط صوفيّ غير وارد .
و الأمر شبيه بحالة الناقد الذواقة الذي دخل معرضاً للرسم فاكتشف وحدة فنية بين جميع اللوحات .. و اكتشف أنها جميعاً مرسومة على الخامة نفسها .. و بذات المجموعة الواحدة من الألوان , و أكثر من هذا أن أسلوب الرسم واحد .
و النتيجة الطبيعية أن يقفز إلى ذهن الناقد أن خالق جميع هذه اللوحات واحد . و أن الرسام هو بيكاسو أو شاجال أو موديلياني .. مثلاً ..
فالوحدة بين الموجودات تعني وحدة خالقها .
و لكنها لا تعني أبداً أن هذه الموجدات هي ذاتها الخالق .
و لا يقول الناقد أبداً إن هذه الرسوم هي الرسّام .
إن وحدة الوجود الهندية شطحة صوفيّة خرافية .. و هي تبسيط وجداني لا يصادق عليه العلم و لا يرتاح إليه العقل .
و إنما تقول النظرة العلمية المتأملة لظواهر الخلق و المخلوقات , إن هناك وحدة بينها .. وحدة أسلوب ووحدة قوانين ووحدة خامات تعني جميعها أن خالقها واحد لم يشرك معه شريكاً يسمح بأسلوب غير أسلوبه .
و تقول لنا أيضاً إن هذا الخالق هو عقل كلّي شامل و محيط , يلهم مخلوقاته و يهديها في رحلة تطورها و يسلّحها بوسائل البقاء , فهو يخلق لبذور الأشجار الصحراوية أجنحةً لتستطيع أن تعبر الصحارى الجرداء بحثاً عن ماء و عن ظروف إنبات موالية .
و هو يزود بيضة البعوضة بكيسين للطفو لتطفو على الماء لحظة وضعها و لا تغرق . و ما كان من الممكن للبعوضة أن تدرك قوانين أرشميدس للطفو فتصنع لبيضها تلك الأكياس .
و إنما هو العقل الكلي الشامل المحيط الذي خلق .. هو الذي يزود كل مخلوق بأسباب حياته .. و هو خالق متعال على مخلوقاته .. يعلم ما لا تعلم و يقدر على ما لا تقدر و يرى ما لا ترى .
فهو واحد أحد قادر عالم محيط سميع بصير خبير .. و هو متعال يعطى الصفات و لا تحيط به صفات .
* * *
و الصلة دائماً معقودة بين هذا الخالق و مخلوقاته فهو أقرب إليها من دمها الذي يجري فيها .
و هو المبدع الذي عزف الإبداع هذه المعزوفة الكونية الرائعة .
و هو العادل الذي احكم قوانينها و أقامها على نواميس دقيقة لا تخطئ .
و هكذا قدم لي العلم الفكرة الإسلامية الكاملة عن الله .
* * *
أما القول بأزلية الوجود لأن العدم معدوم و الوجود موجود , فهو جدل لفظي لا يقوم إلا على اللعب بالألفاظ .
و العدم في واقع الأمر غير معدوم .
و قيام العدم في التصور و الفكر ينفي كونه معدوماً .
و العدم هو على الأكثر نفي ٌ لما نعلم و لكنه نفياً مطلقاً مساوياً للمحو المطلق . و فكرة العدم المطلق فرضية مثل فرضية الصفر الرياضي .. و لا يصح الخلط بين الافتراض و الواقع و لا يصح تحميل الواقع فرضاً نظرياً , فنقول اعتسافاً إن العدم معدوم , و نعتبر أن هذا الكلام قضية وجودية نبني عليها أحكاماً في الواقع .. هذا تناقض صريح و سفسطة جدلية ..
و بالمثل القول بأن الوجود موجود .. هنا نفس الخلط .. فالوجود تجريد ذهني و الموجود واقع حسيّ ..
و كلمة العدم و كلمة الوجود تجريدات ذهنية كالصفر , و اللانهاية لا يصح أن نخلط بينها و بين الواقع الملموس المتعيّن , و الكون الكائن المحدد أمام الحواس .
و يقرر هذا القانون أن الحرارة تنتقل من الساخن إلى البارد .. من الحرارة الأعلى إلى الحرارة الأدنى حتى يتعادل المستويان فيتوقف التبادل الحراريّ .
و لو كان الكون أزليّاً بدون ابتداء لكان التبادل الحراري قد توقف في تلك الآباد الطويلة المتاحة و بالتالي لتوقفت كل صور الحياة .. و لبردت النجوم و صارت بدرجة حرارة الصقيع و الخواء حولها و انتهى كلُّ شيء .
إن هذا القانون هو ذاته دليل على أن الكون كان له بدء .
و القيامة الصغرى التي نراها حولنا في موت في موت الحضارات و موت الأفراد و موت النجوم و موت الحيوان و النبات و تناهي اللحظات و الحقب و الدهور هي لمحة أُخرى تدلنا على القيامة الكبرى التي لا بد أن ينتهي إليها الكون .
إن العلم الحق لم يكن أبداً مناقضاً للدين بل إنه دال عليه مؤكد بمعناه .
و إنما نصف العلم هو الذي يوقع العقل في الشبهة و الشك .. و بخاصة إن كان ذلك العقل مزهوّاً بنفسه معتدّاً بعقلانيته .. و بخاصة إذا دارت المعركة في عصر يتصور فيه العقل أنه كلّ شيء .. و إذا حاصرت الإنسان شواهد حضارة ماديّة صارخة تزأر فيها الطائرات و سفن الفضاء و الأقمار الصناعيّة .. هاتفةً كلّ لحظة .
أنا المادة
أنا كل شيء
..................لماذا العذاب ؟
..................لماذا العذاب ؟
المثقفون لهم اعتراض تقليدي على مسألة البعث و العقاب , فهم يقولون : كيف يعذبنا الله و الله محبة ؟ و ينسى الواحد منهم أنه قد يحب ابنه كل الحب و مع ذلك يعاقبه بالضرب و الحرمان من المصروف و التأديب و التعنيف .. و كلما ازداد حبه لابنه كلما ازداد اهتمامه بتأديبه .. و لو أنه تهاون في تربيته لاتّهمه الناس في حبه لابنه و لقالوا عنه إنه أب مهمل لا يرعى أبناءه الرعاية الكافية .. فما بال الرب و هو المربي الأعظم .. و كلمة الرب مشتقة من التربية .
و الواقع أن عبارة ((الله محبة)) عبارة فضفاضة يسيء الكثيرون فهمها و يحملونها معنى مطلقاً .. و يتصورون أن الله محبة على الإطلاق .. و هذا غير صحيح .
فهل الله يحب الظلم مثلاً ؟
مستحيل ..
مستحيل أن يحب الله الظلم و الظالمين .. و أن يستوي في نظره ظالم و مظلوم .. و هذا التصور للقوة الإلهية .. هو فوضى فكرية ..
ويلزم فعلاً أن يكون لله العلو المطلق على كل الظالمين , و أن يكون جباراً مطلقاً يملك الجبروت على كل الجبارين .. و أن يكون متكبراً على المتكبرين مذلاً للمذلين قوياً على جميع الأقوياء .. و أن يكون الحكم العدل الذي يضع كل إنسان في رتبته و مقامه .
و بمقتضى ما نرى حولنا من انضباط القوانين في المادة و الفضاء و السماوات يكون استنتاجنا للعدل الإلهي استنتاجاً سليماً يعطي الصفة لموصوفها ..
و كل البينات تحت أيدينا تقوم لتؤكد صفة العدل الإلهي و النظام و الحكمة و التدبير .
و الذين ينكرون النظام و العدل هم الذين يحتاجون إلى إقامة البرهان و إلى تقديم الدليل على إنكارهم .. و ليس الذين يؤمنون بالنظام .
أما الذين ينكرون العذاب على إطلاقه و ينكرون أن الإنسان مربوب تعلو عليه قوة أعلى نته و قوانين أعلى منه ندعوهم إلى نظرة في أحوال عالمهم الأرضي .. نظرة في الدنيا دون حاجة إلى افتراض آخره .
و لا أحد لم يجرب ألم الضرس الذي يخرق الدماغ و يشق الرأس كالمنشار . و المغص الكلوي و الصداع الشقي و ألم الغضروف و سل العظام و هي ألوان من الجحيم يعرفها من ألقى به سوء حظه إلى تجربتها .
و زيارة لعنبر المحروقين في القصر العيني سوف تقنع المشاهد بأن هناك فارقاً كبيراً بين رجل محروق مشوه يصرخ في الضمادات , و بين حال رجل يرشف فنجان شاي في استرخاء و لذة على شاطئ النيل و إلى جواره حسناء تلاطفه .
إن العذاب حقيقة ملموسة .
و الإنسان مربوب بقوة أعلى منه و هو عديم الحيلة في قبضة تلك القوة . و يستوي الأمر أن يسمي المؤمن هذه القوة .. ((الله)) و أن يسميها الملحد ((الطبيعة)) أو ((القوانين الطبيعية)) أو ((قانون القوانين)) فما هذه إلا سفسطة لفظية .. المهم أنه لم يجد بدّاً من الاعتراف بأن هناك قوة تعلو على الإنسان و على الحوادث .. و أن هذه القوة تعذب و تنكل .
و أصحاب المشاعر الرقيقة الذين يتأففون من تصور الله جباراً معذباً علينا أن نذكرهم بما كان يفعله الخليفة التركي حينما يصدر حكم الإعدام بالخازوق على أعدائه .. و ما كان يفعله الجلاد المنوط به تنفيذ الحكم حينما كان يلقى بالضحية على بطنه ثم يدخل في الشرج خازوقاً ذا رأس حديدية مدببة يظل يدق ببطء حتى تتهتك جميع الأحشاء و يخرج الخازوق من الرقبة .. و كيف أنه كان من واجب الجلاد أن يحتفظ بضحيته حيّاً حتى يخرج الخازوق من رقبته ليشعر بجميع الآلام الضرورية .
و أفظع من ذلك أن تفقأ عيون الأسرى بالأسياخ المحمية في النار .
مثل هؤلاء الجبارين هل من المفروض أن يقدم لهم الله حفلة شاي لأن الله محبة ؟
بل إن جهنم هي منتهى المحبة ما دامت لا توجد وسيلة غيرها لتعريف هؤلاء بأن هناك إلهاً عادلاً .
و هي رحمة من حيث كونها تعريفاً و تعليماً لمن رفض أن يتعلم من جميع الكتب و الرسل , و للذين كذبوا حتى أوليات العقل و بداهات الإنسانية .
أيكون عدلاً أن يقتل هتلر عشرين مليوناً في حرب عالمية .. يسلخ فيها عماله الأسرى و يعدمون الألوف منهم في غرف الغاز و يحرقونهم في المحارق .. ثم عند الهزيمة ينتحر هتلر هارباً و فارّاً من مواجهة نتيجة أعماله .
إن العبث وحده و أن يكون العالم عبثاً في عبث هو الذي يمكن أن ينجي هذا القاتل الشامل من ذنبه .
و لا شيء حولنا في هذا العالم المنضبط الجميل يدل على العبث .. و كل شيء من أكبر النجوم إلى أدق الذرات ينطق بالنظام و الضبط و الإحكام . و لا يكون الله محبة .. و لا يكون عادلاً .. إلا إذا وضع هذا الرجل في هاوية أعماله .
عن العاقل الفطن المتأمل لن يحتاج إلى فلسفة ليدرك حقيقة العذاب فإنه سوف يكتشف نذر هذا العذاب في نفسه داخل ضميره .. و في عيون المذنبين و نظرات القتلة .. و في دموع المظلومين و آلام المكلومين و في ذل الأسرى و جبروت المنتصرين و في حشرجة المحتضرين .
و هو سوف يدرك العذاب و الحساب حينما يحتويه الندم .
و الندم هو صوت الفطرة لحظة الخطأ .
و هو القيامة الصغرى و الجحيم الأصغر و هو نموذج من الدينونة .
و هو إشارة الخطر التي تضيء في داخل النفس لتدل على أن هناك ميزاناً للأعمال .. و أن هناك حقّاً و باطلاً .. و من كان على الحق فهو على صراط و قلبه مطمئن .. و من كان على باطل فهو في هاوية الندم و قلبه كليم .
و عذاب الدنيا دائماً نوع من التقويم .. و كذلك على مستوى الفرد و على مستوى الأمم .. فهزيمة 67 في سيناء كانت درساً , كما أن رسوب الطالب يكون درساً – كما أن آلام المرض و اعتلال الصحة هي لمن عاش , حياة الإسراف و الترف و الرخاوة و المتعة درس .
و العذاب يجلو صدأ النفس و يصقل معدنها .
و لا نعرف نبيّاً أو مصلحاً أو فناناً أو عبقريّاً إل و قد ذاق أشد العذاب مرضاً أو فقراً أو اضطهاداً .
و العذاب من هذه الزاوية محبة .. و هو الضريبة التي يلزم دفعها للانتقال إلى درجة أعلى .
و إذا خفيت عنا الحكمة في العذاب أحياناً فلأننا لا ندرك كل شيء و لا نعرف كل شيء من القصة إلا تلك الرحلة المحدودة بين قوسين التي اسمها الدنيا .. أما ما قبل ذلك و ما بعد ذلك فهو بالنسبة لنا غيب محجوب , و لذا يجب أن نصمت في احترام و لا نطلق الأحكام .
أما كيفيات لعذاب بعد البعث فلا يمكن القطع فيها تفصيلاً لأن الآخرة كلها غيب .. و يمكن أن يكون ما ورد في الكتب المقدسة بهذا الشأن رموزاً و إشارات .. كما نقول للصبي الذي لم يدرك البلوغ حينما يسألنا عن اللذة الجنسية إنها مثل السكر أو العسل لأننا لا نجد في قاموس خبراته شيئاً غير ذلك .. ولأن تلك اللذة بالنسبة له غيب لا يمكن وصفه بكلمات من محصوله اللغوي فهي خبرة لم يجربها إطلاقاً , و بالمثل الجنة و الجحيم هي خبرات بالنسبة لنا غيب و لا يمكن وصفها بكلمات من قاموسنا الدنيوي .. و كل ما يمكن هو إيراد أوصاف على سبيل التقريب مثل النار أو الحدائق الغناء التي تجري من تحتها الأنهار .. أما ما سوف يحدث فهو شيء يفوق بكثير كل هذه الأوصاف التقريبية مما لم تره عين و لم يخطر على قلب بشر .
و يمكن أن يقال دون خطأ إن جهنم هي المقام الأسفل بكل ما يستتبع ذلك المقام من عذاب حسي و معنوي .. و أن الجنة هي المقام الأعلى بكل ما يستتبع ذلك المقام من نعيم حسي و معنوي .
و الصوفية يقولون إن جهنم هي مقام البعد (البعد عن الله) و الحجب عن الله .. والجنة هي مقام القرب بكل ما يتبع ذلك القرب من سعادة لا يمكن وصفها .
((و مَنْ كانَ في هَذِهِ أعمَْى فَهوَ في الآخرة أعْمى و أضَلُّ سبيلاً)) . و العمى هنا هو عمى البصيرة .
إنها إذن أشبه بما نرى من درجات و مقامات و تفاوت بين أعمى و بصير . و مهتد و ضال . و لكن في الآخرة سوف يكون التفاوت عظيماً .
((انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً))
(الإسراء – 21)
لدرجة أن من سيكون في المقام الأسفل سيكون حاله حال من في النار و أسوأ .. إنه قانون التفاضل الذي يحكم الوجود كله دنيا و آخره ملكاً و ملكوتاً غيباً و شهوداً .
لكل واحد رتبة و استحقاق و مقام و درجة .. و لا يستوي اثنان .
و لا يكون الانتقال من درجة إلى درجة إلا مقابل جهد و عمل و اختبار و ابتلاء .. و من كان في الدنيا في أحط الدرجات من عمى البصيرة فسيكون حاله في الآخرة في أحط الدرجات أيضاً .
و هذا عين العدل .. أن يوضع كل إنسان في مكانه و درجته و استحقاقه .. و هذا ما يحدث في الدنيا ظلماً و هو ما سوف يحدث في الآخرة عدلاً .
و العذاب بهذا المعنى عدل .
و الثواب عدل .
و كلاهما من مقتضيات الضرورة .
أن يكون الحديد الصلب غاية في الصلابة فيصنع منه الموتور .
و يكون الكاوتشوك رخواً فتصنع منه العجلات .
و يكون القش رخيصاً فتصنع منه رأس المكنسة .
و يكون القش رخيصاً فتصنع منه رأس المكنسة .
و أن يكون القطن الفاخر لصناعة الوسائد .. و القطن الرديء لتسليك البالوعات .
و هذه بداهات و أوليات تقول بها الفطرة و المنطق السوي و لا تحتاج إلى تدبيج مقالات في الفلسفة و لا إلى رص حيثيات و مسببات .
و لهذا كانت الأديان كلها مقولة فطرية .. لا تحتمل الجدل و لا تحتمل التكذيب .. و لهذا كانت حقيقة مطلقة تقبلها العقول السوية التي لم تفسدها لفلفات الفلسفة و السفسطة .. و التي احتفظت ببكارتها و نقاوتها و برئت من داء العناد و المكابرة .
و لهذا يقول الصوفي إن الله لا يحتاج إلى دليل بل إن الله هو الدليل الذي يستدل به على كل شيء .
هو الثابت الذي نعرف به المتغيرات .
و هو الجوهر الذي ندرك به اختلاف الظواهر .
و هو البرهان الذي ندرك به حكمة العالم الزائل .
أما العقل الذي يطلب برهاناً على وجود الله فهو عقل فقد التعقل .
فالنور يكشف لنا الأشياء و يدلنا عليها .
و لا يمكن أن تكون الأشياء هي دليلنا على النور و إلا نكون قد قلبنا الأوضاع .. كمن يسير في ضوء النهار ثم يقول .. أين دليلك على أن الدنيا نهار .. أثبت لي بالبرهان .
و من فقد سلامة الفطرة و بكارة القلب .. و لم يبق له إلا الجدل و تلافيف المنطق و علوم الكلام .. فقد فقدَ كل شيء و سوف يطول به المطاف .. و لن يصل أبداً .
و مثل الذي يحتج على العذاب الدنيوي و يتبرم و يتسخط و يلعن الحياة و يقول إنها حياة لا تحتمل و إنه يرفضها و إن أحداً لم يأخذ رأيه قبل أن يولد و إنه خلق قهراً و حكم عليه بالعذاب جبراً و إن هذا ظلم فادح .
مثل هذا الرفض الساخط مثل الفنان الذي يؤدي دوراً في مسرحية .. و يقتضي الدور أن يتلقى الضرب و الركل كل يوم أما المتفرجين .
لو أن هذا الممثل فقد الذاكرة و لم ير شريط حياته إلا أمام هذا الدور الذي يؤديه بين قوسين على خشبة المسرح كل يوم .. فإنه سوف يحتج .. رافضاً أن يتلقى العذاب .. و يقول إن أحداً لم يأخذ رأيه و إنه خلق قهراً و حكم عليه بالعذاب جبراً و قضى عليه بالإهانة أمام الناس بدون مبرر معقول و بدون اختيار منه منذ البداية .
و سوف ينسى هذا الممثل أنه كان هناك اتفاق قبل بدء الرواية .. و كان هناك تكليف من المخرج ثم قبول للتكليف من جانب الممثل .. ثم عهد و ميثاق على تنفيذ المطلوب .. كل هذا تم في حرية قبل أن يبدأ العرض .. و ارتضى الممثل دوره اختياراً .. بل إنه أحب دوره و سعى إليه .
و لكن الممثل قد نسي تماماً هذه الحقبة الزمنية قبل الوقوف على خشبة المسرح .. و من هنا تحولت حياته بما فيها من تكاليف و آلام على علامة استفهام و لغز غير مفهوم .
و هذا شأن الإنسان الذي تصور أن كل حياته هي وجوده بالجسد في هذه اللحظات الدنيوية و أنه هالك و مصيره التراب . و أنه ليس له وجود غير هذا الوجود الثلاثي الأبعاد على خشبة الحياة الدنيا.
نسي هذا الإنسان انه كان روحاً في الملكوت و انه جاء على الدنيا بتكليف و أنه قبل هذا التكليف و ارتضاه .. و أنه كانت بينه و بين خالقه (المخرج الأعظم لدراما الوجود) عهود و مواثيق .. و أنه بعد دراما الوجود الدنيوي يكون البعث و الحساب كما أنه بعد المسرحية يكون النقد من النقاد و النجاح و الفشل من الجمهور و السقوط في عين النظارة أو الارتفاع في نظرهم .
إنه النسيان و الغفلة .
و النظرة الضيقة المحدودة التي تتصور أن الدنيا كل شيء .. هي التي تؤدي على ضلال الفكر .. و هي التي تؤدي إلى الحيرة أمام العذاب و الشر و الألم ...
و من هنا جاءت تسمية القرآن بأنه .. ذكر .. و تذكير .. و تذكرة .. ليتذكر أولو الألباب .
و النبي هو مذكر .
((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ , لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ))
(الغاشية 21 – 22)
الدنيا كلها ليست كل القصة .
إنها فصل في الرواية .. كان لها بدء قبل الميلاد و سيكون لها استمرار بعد الموت .
و في داخل هذه الرؤية الشاملة يصبح للعذاب معنى ...
يصبح عذاب الدنيا رحمة من الرحيم الذي ينبهنا به حتى لا نغفل .. إنه محاولة إيقاظ لتتوتر الحواس و يتساءل العقل .. و هو تذكير دائم بأن الدنيا لن تكون و لا يمكن أن تكون جنة .. و إنها مجرد مرحلة .. و عن الإخلاد إلى ذاتها يؤدي بصاحبه إلى غفلة مهلكة .
إنه العقاب الذي ظاهره العذاب و باطنه الرحمة .
و أما عذاب لآخرة فهو الصحو على الحقيقة و على العدل المطلق الذي لا تفوته ذرة الخير و لا ذرة الشر و هو اليقين بنظام المنظم الذي أبدع كل شيء صنعاً .
((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ))
و اليقين هنا هو الموت و ما وراءه .
* * *
................ماذا قالت لي الخلوة
.
.................ماذا قالت لي الخلوة
هل أنت صادق ؟
سؤال سوف يجيب عليه الكل بنعم .. فكل واحد يتصور أنه صادق و انه لا يكذب .. و قد يعترف أحدهم بكذبة أو بكذبتين و يعتبر نفسه بلغ الغاية من الدقة و الصراحة مع النفس و انه أدلى بحقيقة لا تقبل مراجعة .
و مع ذلك فدعونا نراجع معاً هذا الإدعاء العريض و سوف نكتشف أن الصدق شيء نادر جدّاً .. و أن الصادق الحقيقي يكاد يكون غير موجود .
و أكثرنا في الواقع مغشوش في نفسه حينما يتصور انه من أهل الصدق .
بل إننا نبدأ في الكذب من لحظة أن نتيقظ في الصباح و قبل أن نفتح فمنا بكلمة .
أحياناً تكون مجرد تسريحة الشعر التي نختارها كذبة .
الكهل الذي يسرح شعره خنافس ليبدو أصغر من سنه يكذب , و المرأة العجوز التي تصبغ شعرها لتبدو أصغر من سنها تكذب .
و الباروكة على رأس الأصلع كذبة .
و طقم الأسنان في فم الأهتم كذبة .
و البدلة السبور الخفيفة التي تخفي تحتها فانلة صوف كذبة .
و الكورسيه و المشدات حول البطن المترهلة كذبة .
و النهد الكاوتشوك على الصدر المنهك من الرضاع كذبة .
و المكياج الذي يحاول صاحبه إن يخفي به التجاعيد هو نوع آخر من الكذب الصامت .
و البودرة و الأحمر و الكحل و الريميل والرموش الصناعية .. كلها أكاذيب ينطق بها لسان الحال قبل أن يفتح الواحد منا فمه و يتكلم .
بل إن مجرد ضفيرة المدارس على رأس بنت الثلاثين كذبة .
و اللبانة في فم رجل كهل هي كذبة أكثر وقاحة .
كل هذا و لم يبدأ اللسان ينطق و لم يفتح الفم بعد .
فإذا فتح الواحد منا فمه و قال صباح الخير .. فإنه يقولها على سبيل العرف و العادة .. لم ينوي له الخير و لم ينوي له الشر .. فهو يكذب .. و هو يقرأ السلام على من يبيت له العدوان .. فهو يكذب .
فإذا رفع سماعة التلفون مضى يطلب ما لا يريد من الأشياء لمجرد أنها مظاهر و مجاملات .. فهو يكذب .. و قد يرفض ما يريد خجلاً و ادعاء .. فهو يكذب .
و الولد و البنت يتكلمان طوال ساعتين في كل شيء إلا ما يتحرقان شوقاً إلى أن يتصارحا به .. فهما يكذبان .
و فتاة البار تبدؤك الحديث بالحب و هو لا يخطر لها على بال و لا تشغلها سوى حافظة نقودك . و كم زجاجة من الشمبانيا ستفتح لها .
و الإعلان الذي يصف لك نكهة السيجارة و فوائدها الصحية يكذب عليك .
و الإعلان الذي يقول لك إن قرص الإسبرين يشفي من الإنفلونزا كذب حتى بالقياس إلى علم الأدوية ذاته .
و كل ما يدور في عالم البيع و الشراء يبدأ بالكذب .
و صورة لاعب التنس في يده زجاجة ويسمي و صورة الأسد الذي يحتضن زجاجة الكينا .. و بطل الجري الذي يدخن سيجارة فرجينيا كلها صنوف من الأكاذيب الظريفة التي تراها ملصقة على الجدران و على أغلفة الصحف و في إعلانات السينما و التلفزيون و كأنما أصبح الكذب عرفاً تجارياً لا لوم عليه .
و في عالم السياسة و السياسيين و في أروقة الأمم المتحدة و على أفواه الدبلوماسيين نجد أن الكذب هو القاعدة .
بل إن فن الدبلوماسية الرفيع هو كيف تستطيع أن تجعل الكذب يبدو كالصدق .. و كيف تقول ما لا تعني .. و كيف تخفي ما تريد .. و كيف تحب ما تكره .. و كيف تكره ما تحب .
و أذكر بهذه المناسبة النكتة التي رويت عن تشرشل حينما رأى شاهدة مقبة مكتوباً عليها ..
((هنا يرقد الرجل الصادق و السياسي العظيم)) .
فقال ضاحكاً :
هذه أول مرة أرى فيها رجلين يدفنان في تابوت واحد .
فلم يكن من الممكن إطلاقاً في نظر تشرشل أن يكون الرجل الصادق و السياسي العظيم رجلاً واحداً .. إذ أن أول مؤهلات العظمة السياسية في نظر تشرشل هو الكذب .
و شرط السياسة هو أن تخفي الحقيقة لحساب المصلحة .. و تتأخر العاطفة لتتقدم الحيلة .. و الفطنة .. و الذكاء .. و المراوغة .
و الدبلوماسي الذي يجاهر بعاطفته هو دبلوماسي أبله .. بل إنه لا يكون دبلوماسيّاً على الإطلاق .
و في عالم الدين و دنيا العبادات يطل الكذب الخفي من وراء الطقوس و المراسيم .
شهر الصيام الذي هو امتناع عن الأكل يتحول إلى شهر أكل فتظهر المشهيات و الحلويات و المخللات و المتبلات .. من كنافة إلى مشمشية إلى قطايف إلى مكسرات و يرتفع استهلاك اللحم في شهر رمضان فتقول لنا الإحصاءات بالأرقام إنه يصل إلى الضعف و يصبح شهر رمضان هو شهر الصواني و الطواجن .
و بين كل مائة مصل أكثر من تسعين يقفون بين يدي الله و هم شاردون مشغولون بصوالحهم الدنيوية يعبدون الله وهم في الحقيقة يعبدون مصالحهم و أغراضهم و يركعون الركعة لتقضى لهم هذه المصالح و الأغراض .
و قد عاش بابوات القرون الوسطى في ترف الملوك و السلاطين و سبحوا في الذهب و الحرير و السلطة و النفوذ , و امتلكوا الإقطاعيات و القصور باسم الدين و باسم الإنجيل الذي يقول إن الغنى لن يدخل ملكوت الله إلا إذا دخل الجمل في ثقب الإبرة .
بنهم تصوروا أنهم امتلكوا الجنة فباعوها صكوكاً لطالبي الغفران .
و في دولة الحب نجد أن مخادعة النفس هي الأسلوب المتعارف عليه .. يخدع كل واحد نفسه و يخدع الآخر أحياناً بوعي و أحياناً بدون وعي .. فيتحدث العاشقان عن الحب و هما يريدان أن يقدما مبرراً شريفاً مقبولاً للوصول إلى الفراش .. و يخيل للحبيب أنه قد جن حبّاً و هو في الواقع يلتمس لنفسه وسيلة للهرب من واقع مرير .
كنوع من إظهار البراعة و المهارة أو كمظهر من مظاهر النجاح .
و أحياناً تكون كلمة الحب كذبة معسولة تخفي وراءها رغبة شريرة في الامتلاك و الاستحواذ و السيطرة .
و أحياناً تكون كلمة الحب خطة محبوكة و شركاً للوصول إلى ميراث .
و هي في أكثر صورها شيوعاً وسيلة للوصول إلى لذة سريعة و طريقة لتدليك الضمير و التغلب على الخجل و رفع الكلفة .
و هي ذريعتنا الدائمة للتغلب على عقدة الذنب فتخلع المرأة آخر قطعة ثياب و هي تطمئن نفسها بأنها ضحية الحب .. و أن الحب إحساس طاهر و انه أمر الله و أنه قضاء و قدر .. و أنها ليست أول من أحبت و لا آخر من أعطت .
و لا توجد شبكة حريرية من الأكاذيب كما توجد في الحب .. ففي كل كلمة كذبة .. و في كل لمسة كذبة .. و الغريزة الجنسية ذاتها تكذب فما أسرع ما تشتعل و ما أسرع ما تنطفئ . و ما أسرع ما تضجر و تمل و تطالب بتغيير الطعام .
و الصدق في الحب و قصص الحب نادر أندر من الماس في الصحارى .. و هو من أخلاق الصديقين و ليس من أخلاق الغمر العادي من الناس .
و تتواطأ أغاني الحب و قصص الحب و تتآمر هي الأخرى لتنصب شراكاً من الأكاذيب المنمقة الجميلة و ترسي دعامات ساحرة من الأوهام و الأحلام الوردية و الصور البراقة الخادعة عن القبلة و الضمة و لقاء الفراش و لذة العذاب و عذاب اللذة و لسعة الحرمان و دموع الوسادة و إغماء السعادة و صحوة الفراق .. و ضباب و ضباب .. و عطور و صور خلابة مرسومة بريشة فنانين كذابين عظام .
و الكذب في الفن عادة قديمة بدأها الشعراء من زمن طويل .
و قصائد المديح و قصائد الهجاء في شعرنا العربي شاهد على انتشار هذه العادة السيئة .
و الفن وليد الهوى و الخاطر و المزاج .. و المزاج متقلب .
ما أكثر الكذب حقّاً !
إننا لنكذب حتى في الأكل فنأكل حتى و نحن شبعانون .
أين الصدق إذن ؟
و متى تأتي هذه اللحظة الشحيحة التي نتحرى فيها الحق و الحق وحده ؟
إنها تأتي على ندرة .
في معمل العالم الذي يضع عينه على ميكروسكوب بحثاً عم حقيقة .
هنا نجد العقل يتطلع في شوق حقيقي و صادق و يبحث في حياد مطلق .. و يفكر في موضوعية على هدى أرقام دقيقة و مقادير و قوانين .
و العلم بذاته هو النظرة الموضوعية المستقلة عن الهوى و المزاج و أداته الوحيدة .. صدق الاستقراء .. و صدق الفراسة .
و اللحظة الأخرى الصادقة هي لحظة الخلوة مع النفس حينما يبدأ ذلك الحديث السري .. ذلك الحوار الداخلي .
تلك المكالمة الانفرادية حيث يصغي الواحد إلى نفسه دون أن يخشى أذناً أخرى تتلصص على الخط .
ذلك الإفضاء و الإفشاء و الاعتراف و الطرح الصريح من الأعماق إلى سطح الوعي في محاولة مخلصة للفهم .
و هي لحظة من أثمن اللحظات .
إن الحياة تتوقف في تلك اللحظة لتبوح بحكمتها .
و الزمن يتوقف ليعطي ذلك الشعور المديد بالحضور .. حيث نحن في حضرة الحق .. و حيث لا يجوز الكذب و الخداع و لتزييف .. كما لا يجوز لحظة الموت و لحظة الحشرجة .
إننا نكتشف ساعتها أننا عشنا عمرنا من أجل هذه اللحظة .. و أننا تألمنا و تعذبنا من أجل أن نصل إلى هذه المعرفة الثمينة عن نفوسنا .
و قد تأتي تلك اللحظة في العمر مرة فتكون قيمتها بالعمر كله .
أما إذا تأخرت و لم تأت إلا ساعة الموت .. فقد ضاع العمر دون معنى و دون حكم .. و أكلته الأكاذيب .. و جاءت الصحوة بعد فوات الأوان .
و لهذا كانت الخلوة مع النفس شيئاً ضروريّاً و مقدساً بالنسبة لإنسان العصر الضائع في متاهات الكذب و التزييف .. و هي بالنسبة له طوق النجاة و قارب الإنقاذ .
و الإنسان يولد وحده و يموت وحده و يصل إلى الحق وحده .
و ليست مبالغة أن توصف الدنيا .. بأنها باطل الأباطيل الكل باطل و قبض الريح ..
فكل ما حولنا من مظاهر الدنيا يتصف بالبطلان و الزيف .
و نحن نقتل بعضنا بعضاً في سبيل الغرور و إرضاء لكبرياء كاذب .
و الدنيا ملهاة قبل أن تكون مأساة .
و مع ذلك نحن نتحرق شوقاً في سبيل الحق و نموت سعداء في سبيله .
و الشعور بالحق يملؤنا تماماً و إن كنا نعجز عن الوصول إليه .
إننا نشعر به ملء القلب و إن كنا لا نراه حولنا .
و هذا الشعور الطاغي هو شهادة بوجوده .
إننا و إن لم نر الحق و إن لم نصل إليه و إن لم نبلغه فهو فينا و هو يحفزنا و هو مثال مطلق لا يغيب عن ضميرنا لحظة و بصائرنا مفتوحة عليه دوماً .
و لحظة التأمل الصافي تقودنا إليه .
و العلم يقودنا إليه .
و مراقبتنا لأنفسنا من الداخل تقودنا إليه .
و بصائرنا تهدى إليه .
و الحق في القرآن هو الله .. و هو أحد أسمائه الحسنى .
و كل هذه المؤثرات الداخلية تدل عليه .
و هو متجاوز للدنيا متعال عليها .
نراه رؤية بصيرة لا رؤية بصر .
و تبرهن عليه أرواحنا بكل شوقها و بكل نزوعها .
و العجب كل العجب لمن يسألنا عن برهان على وجود الله .. على وجود الحق .. و هو نازع إليه بكليته مشغوف به بجماع قلبه .
و كيف يكون موضع شك من قلبه كل القلوب و مهوى جميع الأفئدة و هدف جميع البصائر ؟
كيف نشك في وجوده و هو مستول على كل مشاعرنا ؟
كيف نشك في الحق و نطلب عليه دليلاً من الباطل ؟
كيف ننزلق مع المنطق المراوغ إلى هذه الدرجة من التناقض فنجعل من لب الوجود و حقيقة حقائقه محل سؤال ؟
إني لا أجد نصيحة أثمن من أن أقول ليعد كل منا إلى فطرته .. ليعد إلى بكارته و عذريته التي لم تدنسها لفلفات المنطق و مراوغات العقل .
ليعد كل منا إلى قلبه في ساعة خلوة .
و ليسأل قلبه .
و سوف يدل قلبه على كل شيء .
فقد أودع الله في قلوبنا تلك البوصلة التي لا تخطئ .. و التي اسمها الفطرة و البداهة .
و هي فطرة لا تقبل التبديل و لا التشويه لأنها محور الوجود و لبه و مداره و عليها تقوم كل المعارف و العلوم .
((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ))
(الروم – 30)
لقد جعل الله هذه الفطرة نازعة إليه بطبيعتها تطلبه دواماً كما تطلب البوصلة أقطابها مشيرة إليه دالة عليه .
فليكن كل منا كما تملي عليه طبيعته لا أكثر .
و سوف تدله طبيعته على الحق .
و سوف تهديه فطرته إلى الله بدون جهد .
كن كما أنت .
و سوف تهديك نفسك إلى الصراط .
* * *