ثانيا : الاعجاز العلمى
1- الاعجاز العلمى للقرآن الكريم لا يقتصر على التطرق للاسرار العلمية والانسانية والعلمية بل يمتد ليشمل ما يتعلق بها من الفاظ ومعانى واساليب غير مسبوقة بصرف النظر عن الاعجاز ذاته , فمعارض القرآن لن يدور فى خلده الحديث عن مراحل نمو الجنين او كروية الارض او وجود كائنات اخرى لا نعلمها ويمكن ان نتصور لو لم يقل القرآن : "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" فهل كان يمكن لاى انسان ان يأتى ويتكلم عن هذه النقطة او تصل افكارة لهذه الالفاظ او اجتهاده لهذا الاسلوب او خلفيته لهذا العلم , و اذا لم يتكلم القرآن عن المستقبل بصيغة الماضى كما ورد فى العديد من الايات الكريمة كقوله تعالى فى سورة النحل : " أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ " وقوله تعالى فى سورة ق : " ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد " , اشارة الى نسبية الزمن وعدم جريانه على رب العالمين لترفعه عليه وتنزهه عنه , فهل يمكن ان يأتى انسان ويخوض فى هذه النقطة فالمستقبل بالنسبة لله كالماضي بالنسبة لنا (ولله المثل الأعلى)، فالله تعالى ليس مثلنا ينتظر يوم القيامة، بل كل شىء حدث بالنسبة اليه وانتهى لكونه سبحانه وتعالى، فوق الزمان , فهو يراه ويرى كامل محتواه من احداث وتغيرات فى نفس اللحظة لا فرق عنده بين ماضى او حاضر او مستقبل , لذلك أراد ملك الملوك أن يؤكد هذه الحقيقة فجاء الحديث عن يوم القيامة بصيغة الماضي بأسلوب فريد متفرد يتميز به القرآن وفيه يتفرد، لا يمكن ان يصل اليه تفكير الانسان او الجان قبل نزول القرآن , وهذا اكبر دليل على كون القرآن منزل من عند الله، وليس كلام بشر، لأنه لو كان كلام بشر لكان العرب أول من يستغرب وينفر ويبتعد عن هذا الأسلوب (وبالتالى لن يخطر لهم على بال او تشمله معارضة محتملة باى حال من الاحوال) ، وبالرغم من كونه أسلوب غير مألوف لديهم إلا أنهم استجابوا له وعجزوا عن الإتيان بمثله وهذا من إعجاز القرآن. وبعد نزول آية التحدى كان هناك فضاء ومجال واسع للاتيان بآية (حتى ولو من ناحية مماثلة الالفاظ والاساليب بصرف النظر عن الاعجاز العلمى ذاته) مثل القرآن لو كان الانسان لديه قدرة او خلفية للخوض في مثل هذه الاسرار فان لم يتكلم عن مراحل نمو الجنين او كروية الارض او وجود كائنات اخرى لا نعلمها كالفيروسات والكائنات الدقيقة , فيمكن له ان يتكلم عن حركة الجبال اومواقع النجوم وجريان الشمس ونشوء الكون ونسبية الزمن , حتى ولو كانت هذه الاسرار محاطة بكثير من الاخطاء فيكفى كونها تشتمل على نفس الالفاظ والاساليب ومتماشية مع النسق والنهج الذى من المفروض انهم قد الموا ببعضه من سماعهم للقرآن واصبح لديهم فكره عنه .
ولكن ما حدث مع وجود كل هذه الافضية ؟ , حدث ان استمر القرآن فى الاخبار عن الاسرار , آية تتبعها آية , واستمر فى خرق الحواجز والغيبيات وما تخفيه القلوب فى ما وراء الحجب للزمان والمكان والنفس , واستمر على اسلوبه بسلاسة تامة دون ان يشذ او ينحرف او يحيد , وجميع البشر ينظرون ويشهدون على صدق القرآن دون ان يضيف احد منهم اضافة او يمسك عليه خطأ او يكذب له اخبار , مع عدم وجود مانع من ذلك او ذلك او ذلك , فكل الاسباب مواتية ومتاحة كما حدث مع الوليد ابن المغيرة وابو لهب من الاخبار بموتهما على الشرك .
2- كل الاسرار والخروقات التى ذكرها القرآن وحواها بين طياته فوق طاقة البشر وبعيدة تماما عن خلفياتهم العلمية والانسانية بل المقصود بها زمن اخر واناس اخرون حتى يتأتى الاعجاز فى ابهى صوره له , وان شئت فقرأ معى " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء " فكيف يصلون الى اساليبها او الالفاظ المعبرة عنها وهى تحمل رسالة الى عالم اخر وزمن اخر ومن الغريب ان هذه الاية يستدل بها على الكثير من الاشياء المتعلقة بالقرآن الكريم مثل الحفظ وعدم القدرة على الاتيان او كسر التحدى وايضا اقرار مصدر القرآن الالهى فعندما نظر علماء التفسير لها وجدوا انفسهم امام امرين , حركة للجبال تخبر به الاية الكريمة وعدم حركة يقر بها البصر , اذن هناك تعارض بين الاخبار وبين الرؤية وما ترتب عليها من اقرار ولابد من التوفيق بين الاثنين لذلك فسرو الحركة بانها سوف تكون يوم القيامة بينما حال الجبال يوم القيامة تخبر به آية اخرى وردت فى سورة طه وهى قوله تعالى : (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا)) فاذا كان القرآن غير محفوظ بقدرة الله تعالى لتم تحريف هذه الاية او ازالتها وفى اسرع وقت ممكن فهل هناك دليل ادق واوضح من ذلك على حفظ القرآن بقدرة الله تعالى
اذن التفسير كان منفث طبيعى لسلامة القلب وحماية للقرآن من العبث وتوفيق بين البصر والبصيرة هذا من ناحية الحفظ , اما من ناحية التحدى فى القدرة على الاتيان نجد ان الاخبار بشىء مخالف لما تراه العين مستبعد تماما عن تفكير اى انسان بل العكس هو الصحيح ببحث الانسان عن الاشياء التى تقرها كل الحواس وبالتالى لا يمكن ان ياتى انسان ويعارض القرآن من هذه الناحية وبالنسبة للمصدر لا يمكن ان يأتى بشر بشىء لا تقره الحواس لتدعيم موقفه الا اذا كان مؤيد من رب العالمين وان لم يكن ذلك , لكانت هذه الآية من افضل الادوات التى يمكن ان تستخدم للقضاء على الاسلام , فمن السهل على اى انسان ان يكذبها استنادا الى الرؤية البصرية ونتائج الرصد والكل يعلم ما سوف يترتب على هذا التكذيب .
يقول الدكتور مصطفى محمود فى كتابه حوار مع صديقى الملحد : "القرآن نزل قبل أكثر من 1400 سنة, ومع هذا فقد تعرض لجميع العلوم ولكن عن طريق اللمحات والإشارات التي تنير العقل, فلو توقف عندها بالشرح لصدم تلك العقول التي عاصرت نزوله ولما أدرك العرب أي شيء منه, كما أنه ليس بكتاب علوم فقط , بل هو كتاب عقيدة وتشريع ومنهج, فهو يظهر من آياته لكل جيل وعصر ما يناسبهم وقد قال الحق سبحانه ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق, أوَلم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ؟ ) 53 فصلت.
خذ عندك مثلا ً تكوير الكوكب , أوَلم يقل الله ( يكوّر الليل على النهار ويكور النهار على الليل ) 5 الزمر . وقال سبحانه ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا ً أو نهارا ً فجعلناها حصيدا ً كأن لم تغن بالأمس ) 24 يونس. وقوله (ليلا ً أو نهارا ً) يعني أنه إن كان ليل في أحد نصفي الكوكب فهو نهار في النصف الآخر. وأيضا ً يقول الحق ( رب المشارق والمغارب ) 40 المعارج . ويقول ( رب المشرقين ورب المغربين ) 17 الرحمن. ولو كانت الأرض مسطحة لكان هناك مشرق واحد ومغرب واحد. وأيضا ً في القرآن يصف الله حديث العبد مع شيطانه يوم القيامة قائلا ً ( يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين ) 38 الأعراف. وأبعد ما تكون المسافة بالأرض هي بين المشرقين نتيجة لكرويتها.
ثم تعال لأحدثك قليلا ً عن الجبال , ألم يقل الحق عنها بالقرآن ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء ) 88 النمل. وهي إشارة صريحة أن الجبال تسبح بالفضاء وبالتالي فالأرض كلها بجبالها تسبح بالفضاء. ولكن لو قلت هذا للبشر قبل 500 سنة لفزعوا منك فما بالك بالبشر قبل 1400 سنة.
ماذا عن السماء ؟ ألم يقل الحق عنها ( والسماء ذات الحبك ) 7 الذاريات . فالحبك تعني الطرائق, والآن علماء الفلك يعلمون أن السماء أشبه بطريق سريع والأقمار والكواكب والنجوم والمجرات . والحبك تعني أيضا ً النسيج المحكم, وهذا ما عرفه الإنسان بعد اختراعه للتلسكوبات العملاقة التي تكبر الصور لملايين المرات. وأيضا ً فيما يتعلق بالسماء فقد قال الحق ( والسماء ذات الرجع ) 11 الطارق. أي أنها ترجع كل ما يرتفع إليها, فبخار الماء ترجعه مطرا ً, وترجع الأجسام بالجاذبية الأرضية, وترجع الأمواج اللاسلكية بانعكاسها من طبقة الايونوسفير, كما ترجع الأشعة الحرارية تحت الحمراء إلى الأرض فتدفئها بالليل. وهي كما تعيد ما يرتفع من الأرض لها في أيضا ً ترجع ما يأتي من الإشعاعات من الفضاء الخارجي فلا يدخل الأرض مسببا ً الكوارث فهي تتصرف وكأنها سقف. ألم يقل الحق ( وجعلنا السماء سقفا ً محفوظا ) 32 الأنبياء. وأيضا ً قال سبحانه (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون) 47 الذاريات. وهو ما يعرف الآن باسم تمدد الكون المضطرد.
ماذا عن الذرة يا صديقي, ألم يكن الاعتقاد البشري بأنها أصغر مثقال, وأنها جوهر الفرد فلا ينقسم ؟ . ولكن بالقرآن قال الحق ( لا يغرب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ) 3 سبأ. فمن كان يعلم ذاك الوقت أن الذرة قابلة للكسر والقسمة ؟"
ويقول الشيخ الشعراوى :
"في الماضي القريب توصل العلم إلى أن الذرة أصغر شيء في الوجود، وقد ذكر القرآن الذرة في مثل قوله:
{فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره "7" ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره "8"} (سورة الزلزلة)
وبتقدم وسائل البحث توصلوا إلى تفتيت الذرة أو شطرها، ووجدنا في الكون ما هو أقل من الذرة، فظن البعض أن هذه لا ذكر لها في القرآن، وظنوا أنهم تصيدوا على القرآن مأخذاً، ولو أمعنوا النظر في كتاب الله لوجدوا لهذا التطور العلمي رصيداً في كتاب الله حيث قال تعالى:
{وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين "61" }
(سورة يونس)
والقرآن يقول (أصغر) لا صغير، فلو فتتنا أجزاء الذرة لوجدنا لها رصيداً واحتياطاً في كتاب الله، ألا ترى في ذلك إعجازاً؟
يتبع بعون الله