بسم الله الرحمن الرحيم
بدأت الطائرة بالهبوط بحركة دورانية , كنت أنظر من النافذة إلى شاطئ البحر القريب من المطار , الطائرة صغيرة جداً
ومكتظة بالركاب فكان بعضهم واقفا وبعضهم يحمل حقائبه في الداخل
وعند انتهاء الهبوط تم فتح باب الطائرة ونزلنا على سلم معدني صغير ,رأيت ثلاث غرف صغيرة كانت عبارة عن مكاتب المطار
ولم يكن هناك أي باص ليقلنا إلى تلك الغرف بل توجهت سيرا على الأقدام ... أما الحقائب فكانت تنقل على ظهور العمال الذين يجرون بها ليضعوها
في حافلة تقف قريبا من الطائرة. وأنا أمشي أوقفني أحدهم وكلمني بلغة إنجليزية "أين جوازك؟" أعطيته الجواز
وقلت له "كلمني باللغة العربية أنا من سوريا" فسألني " لماذا جئت إلى الصومال؟" قلت "مجرد زيارة " قال "هل تعرف أحدا هنا؟!" قلت لا لا
أخذني إلى المكتب وأخبرني أنه ليس لدي فيزا وأن علي الرحيل فوراً , فقمت بإطلاعه على مكان الفيزا في الجواز التي حصلت عليها من
السفارة الصومالية بدمشق.. تبسم قائلا أنه من المحاكم وأن هذه الفيزا غير مقبولة في مقديشو وأنه يتوجب علي الرجوع من حيث أتيت
وأنهم سيقومون بتسفيري على أول رحلة والتي كانت بعد أسبوع لم يكن بمقدوري إلا القبول, ومن ثم تم أخذي إلى فندق رمضان بسيارة موظف الخارجية
لإبقائي تحت الإقامة الجبرية فيه , وأخبرني الموظف وهو "ابن أبو بكر أداني" أن الإقامة في الصومال تكلف الكثير الكثير من المال
على عكس ماعلمت من الإنترنت عن رخص المعيشة فيها , وأجبرت على دفع 25 دولار لكل ليلة في الفندق من دون أجرة الطعام
جلست مع الموظف ووعدته بمبلغ من المال إن استطاع تأمين الفيزا لي للبقاء في الصومال أطول فترة ممكنة وقبل بعرضي وقدم لي بطاقة موبايل
من شركة " هرمود " برقم مميز لأستخدمها أثناء تواجدي في الفندق.. كان الجو حاراً ولطيفاً , ولكن البعوض نغص علي الإقامة قليلا
في أسفل الفندق يوجد مطعم ومقهى إنترنت كنت أقضي معظم وقتي فيه , ولكن التكلفة المرتفة للفندق وللطعام أجبرتني على التفكير بحل سريع
استطعت مغافلة حراس الفندق والخروج من باب المقهى الخلفي إلى الشارع , والناس ينظرون إلي كأني قد أتيت من القمر !؟؟
ذهبت إلى المحل القريب وقمت بتصريف بعض الدولارات إلى الشلن الصومالي "1دولار = 13 ألف شلن" واشتريت بعض البسكويت
لأخفف عن نفسي سعر الطعام في الفندق الذي كان يكلفني 10 دولار للوجبة الواحدة... لاحظ مدير الفندق الذي أصبح صديقي فيما بعد عدم أكلي في المطعم
وكان شديد الطيبة معي , فطلبني وسألني عن السبب فتحججت بنفسيتي المتعبة بسبب الإقامة الجبرية .. لم يقتنع وقال أن الفندق سيتكفل بضيافتي في شهر
رمضان كاملاً , فرحت بذلك وأخبرته أنني أرغب البقاء في الصومال والعمل فيها والتعايش مع أهلها فتكفل أيضا بمساعدتي
وفعلا بعد 6 آيام أمن لي موظف الخارجية فيزا على أنني موظف لإحدى الشركات التجارية أستطيع من خلالها البقاء 6 أشهر في الصومال
وأمن لي مدير الفندق موعداً للعمل في مشفى بنادر , وفي هذه الفترة ضم تنظيم المحاكم الإسلامية مدينة كسمايو دون قتال
ذهبت إلى مشفى بنادر والتقيت بطبيب سوداني الجنسية يدعى الدكتور "محمد" وبدوره قام بتعرفي على وزير الصحة الشيخ "محي الدين" الذي
كان لديه مكتب داخل مشفى بنادر , تم التعامل معي بطيبة وتفهم شديدين , واتفقنا على راتب ونسبة وأخذ شهادة صادرة من وزارة الصحة الصومالية
في حال عملي لديهم الفترة المتبقية لإنهاء دراستي , وفعلا انتقلت للعيش في مشفى بنادر في إحدى الغرف , كان مشفى كبيرا وواسعا... كان العمل
برفقة الدكتور محمد ممتعا جدا... كانت أكثر الحالات في المشفى ناتجة عن العيار الناري والشظايا , فزاد ذلك خبرتي النظرية
بتجربة عملية رائعة على أرض الواقع بعد آيام قليلة تم طلبي أنا والدكتور محمد من قبل الشيخ "محي الدين" حيث أوكل إلينا استلام القطاع الصحي في منطقة كسمايو
لم يكن لدي الكثير من المعلومات عن المنطقة من غير التلفاز ولكن ما أثار دهشتي ما أخبرني به الشيخ محي الدين عن كسمايو أن بها "الشباب" وأن لجان
الصليب الأحمر لا تجرؤ على الذهاب لكسمايو خوفا من مجموعة تدعى الشباب "لأنها مجموعة متشددة" لم يخفني الأمر بل زاد من رغبتي بالموافقة على السفر
إلى تلك المدينة فضولاً مني ,وفعلاً سافرت برفقة صوماليين بشاحنتين "لوري" وكان هناك العديد من الحراس المسلحين , الطريق استغرق معنا حوالي يومين
بسبب توقفنا في الليل وبطئ سيرنا لعدم توفر الطرق المزفتة , تمتعت بشرب حليب الإبل وأكل البسكويت على الطريق , أما محطات الاستراحة فكانت عبارة
عن بعض بيوت القش قرب بعض القرى تستخدم لرصد حركة المارة منها وتستطيع شراء الماكرونة المسلوقة "الباستا" أو الأرز مع اللحم "بريس"
الخنازير البرية والغزلان تجري أمام الشاحنات معظم الطريق , ورأينا على الطريق بقايا "مكروباص" يستخدم للتنقل بين المدن تم تفجيره بواسطة لغم أرضي
من قبل جماعة من قطاع الطرق يطلق عليهم لفظ "موريان" وذلك من أجل دب الذعر والخوف في قلوب الناس ...
وصلنا إلى مدينة كسمايو تم أخذي إلى منزل صعدنا إلى سطحه والتقيت بشخص يدعى "أحمد مدوبي" قيل أنه المسئول عن تلك المنطقة "كسمايو"
حينها كانت ميليشيات "بري هلالي"أو "تلمجع أي صاحب الشعر الناعم" مع بعض الجنود الأثيوبيين بتعداد قدره 52 سيارة و500 مقاتل تقريبا ترابط بالقرب
من "دينسور"بينما كانت المليشيا المقاتلة باسم المحاكم "الشباب" بالقرب من "دجوما" وشوارع كسمايو مليئة بالمظاهرات الضائجة التي تم اخراج النساء والأطفال
إليها وبعض سكان المنطقة حيث تم حرق الكثير من عجلات السيارات والهتف بعبارات قيل لي أنها تعاني "أننا لانريد المحاكم الإسلامية هنا"
كنت أدعو الله أن لايعلم أحد أين أنا فيتم تمزيقي من قبل تلك الجموع الغاضبة.
بدأت العمل في اليوم التالي في مشفى صغير وسط المدينة , أتتنا حالة اطلاق نار على أحد منظمي المظاهرات بعيار ناري في معصمه الذي حمل به مضخم الصوت
أوقفنا نزفه ولكنه رفض استكمال العلاج واتصل بابنه لكي يأخذه إلى مكان آخر.
بعدها أصابتني حمى شديدة وذلك لاصابتي بالملاريا تم إعطائي " الكوتكسين" ووضعت لي "دريبات " قبل شفائي بأايام أصر أحمد مدوبي على
إعطائي رزمة من الشلنات ولم أتقبل الأمر , فصار يحثني ويقول أنه يجب علي طلب الطعام وأنهم سيشترونه , وفعلاً طلبت "الباباي"
لا أدري مع أني لا أستطيع تناول الطعام , و كنت أشعر بطعمة كريهة في فمي ,واستطعت النهوض بعد خمسة آيام كانت الأشد علي في حياتي "من جهة المرض"
بعد ذلك انتقلت إلى إحدى المخيمات التابعة لمنظمة تدعى "RSF" هكذا كتب على علب البسكويت وأكياس فول الصويا خاصتهم..
تدربت عندهم على القيام بنقل الدم و القيام بالتحاليل لبعض الأمراض المعدية.
ومن ثم اصطحبني طبيب سوداني الجنسية يدعى "عبدالحكيم" حيث نصبنا خيمة اسعاف على بعد بضعة كيلومترات من دجوما وبدأت المعركة بين
مليشيا الشباب من جهة وجيش بري هلالي من جهة , كنت لاأدري مايدور حولي ولا ما أوصلني إلى هناك , بدأ صوت القصف مسموعاً والمطر يهطل
وبعد ساعتين تقريبا كان الدكتور "عبد الحكيم يحضر الجرحى إلينا , وصلنا 10 جرحى اصابتهم متوسطة عدى واحد اصابته خطرة ,ومن ثم وصلنا
قتيل وبلغنا خبر مقتل آخر , وليلاً بسبب انفجار قنبلة يدوية بالخطأ قتل شخص وجرح ثلاثة جراح أحدهم خطرة. واحضروا أيضا ثلاثة جرحى
من جيش "بري هلالي" كانت اصاباتهم متوسطة , أخذنا الجميع إلى منزل واسع حيث لم أستطع النوم أنا والدكتور " عبد الحكيم" وشخصين آخرين
كانا يعملان مع الدكتور كممرضين , كنت أحس الوقت ضيقا جداً هذا يأن وآخر هناك , قمنا بالإسعاف الحربي على أكمل وجه بل حتى أننا تجاوزنا عملنا
للقيام باستخراج الرصاص من بعض الاصابات , أكملنا طريقنا ونقلنا الجرحى إلى مركز في منطقة "دينسور" تابع لإحدى اللجنات الأجنبية حيث
تم ترك الجرحى الثلاثة في ذلك المنزل , ولم يكونوا مكبلين أبداً بل كان يسمح لأقاربهم بزيارتهم حيث كنت من قام باسعافهم ,ومن ثم سمعت أنهم قتلوا
ولم أدر ما السبب.
حضر الدكتور محمد وعلمت منه أنهم قد استأجروا طائرة خاصة بمبلغ "16 ألف دولار" لنقل الجرحى إلى مقديشو لاستكمال علاجهم ولكنها تأخرت
قمنا بالمركز بالقيام ببعض العمليات الجراحة من بتر أطراف ونحوه بظروف سيئة حيث لجأنا لاستخدام "الكيتامين" عن طريق الوريد "والدايزيبام"
و"الأتروبن" ولقد نجحت تلك العمليات , ورغم أني وباعتقادي أن الروس هم الأقدر على القيام بالجراحة في الظروف السيئة إلى أنني أعجبت بما
قام به الدكتور محمد ..
حدثت الدكتور محمد أن مبلغ "16 ألف دولار" مبلغ ضخم لينفق على رحلة بطائرة خاصة وأنه يكف لإحضار أطباء من روسيا لإحياء القطاع الطبي الميت
في الصومال , حيث أن العمليات الجراحية كانت ترسل إلى "نيروبي" أو إلى "دبي" , فإذا قمنا بإحضار بعض الإطباء الروس فإننا سنستطيع
تحصيل أجورهم بسرعة كبيرة , بالإضافة لتدريبنا بشكل أفضل , أعجبت الفكرة الدكتور محمد وفعلا قام بالحديث مع "أحمد مدوبي " والموافقة
لاستثمار مشفى كسمايو بداية ,سافرنا إلى مقديشو على متن طائرة من دون مقاعد و في مقديشو تم الترحيب بي من قبل وزير الصحة الشيخ "محي الدين"
وتم منحي جواز سفر صومالي
