لماذا ترك برتراند رَسِلْ المسيحية؟ حوار بينى وبين الفيلسوف البريطانى
لماذا ترك برتراند رَسِلْ المسيحية؟ حوار بينى وبين الفيلسوف البريطانى
لا أدرى متى سمعت لأول مرة فى حياتى باسم برتراند رَسِلْ (1872- 1970م)، الفيلسوف الإنجليزى المشهور، الذى اهتممت به اهتماما خاصا وأنا طالب فى الجامعة، ومن ثم شرعت أقرأ عنه وله، بدءًا بما كتبه د. زكى نجيب محمود عن الوضعية المنطقية، ذلك المذهب الفلسفى الذى كان يتحمس له كاتبنا المصرى أشد التحمس، وكتب بوَحْىٍ منه كتابه المعروف: "خرافة الميتافيزيقا". إلا أننى ما زلت حتى الآن أذكر بكل وضوحٍ الحوارَ الذى دار عام 1970م بينى وبين زميل لى فى جامعة القاهرة من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، التى التحقت بها لدن دخولى الجامعة، لكنى لم أبق فيها سوى ثلاثة أيام ليس إلا وبشِقِّ النَّفْس، ثم لم أطق بعدها صبرا فحولت أوراقى إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب فى نفس الجامعة. وكنا أنا والزميل المذكور نسير أمام باب حديقة الأورمان المواجه لشارع الدقى بين العصر والمغرب كعادتنا فى نزهاتنا أيامئذٍ قاصِدَيْن ميدان التحرير على أقدامنا ومتناوِلَيْن ما يعنّ لنا من موضوعات أو ما يكون منها حديث الساعة فى الصحف. وكانت ترجمة كتاب رَسِلْ المعروف بـ"سيرتى الذاتية" قد صدرت لتوها، وكانت، إن لم تتلاعب بى الذاكرة، موضوع نقاش فى الجرائد المصرية. ولم نكن قد قرأنا الكتاب، وإن كنا نتابع ما يكتب عنه فى الصحف وقتذاك. وكنا حديثى عهد بالمحاكمة الدولية التى عقدها رَسِل وبعض المفكرين الأوربيين للرئيس الأمريكى جونسون على جرائمه وجرائم دولته فى فيتنام، وهو ما حظى منا بالإكبار. ثم زاد تقديرى للرجل وأنا أكتب هذه الدراسة حين وقعتُ على مقال يشير إلى لجنة شكلتها مؤسسة برتراند رسل للسلام سنة 1967م للنظر فى الأعمال الإجرامية التى ارتكبها الصهاينة فى فلسطين، إذ كنت أظن أن رَسِلْ لم يبد اهتماما بقضية العرب والمسلمين مثلما أبدى اهتمامه بفييتنام، وأستغرب لذلك الصمت وأعده أمرا شائنا. ثم هأنذا أعلم أنه لم يفته هذا الواجب الإنسانى الكريم.
ليس ذلك فقط، بل إن آخر نشاط سياسى قام به قبيل وفاته 1970م هو تجريمه العدوان الإسرائيلى على البلاد العربية عام 1967م ومناداته بانسحاب إسرائيل من الأراضى التى احتلتها أثناء ذلك العدوان. وهذا نص ما كتبه فى هذا الصدد: "The tragedy of the people of Palestine is that their country was "given" by a foreign power to another people for the creation of a new state. The result was that many hundreds of thousands of innocent people were made permanently homeless. With every new conflict their numbers increased. How much longer is the world willing to endure this spectacle of wanton cruelty? It is abundantly clear that the refugees have every right to the homeland from which they were driven, and the denial of this right is at the heart of the continuing conflict. No people anywhere in the world would accept being expelled in masses from their own country; how can anyone require the people of Palestine to accept a punishment which nobody else would tolerate? A permanent just settlement of the refugees in their homeland is an essential ingredient of any genuine settlement in the Middle East. We are frequently told that we must sympathise with Israel because of the suffering of the Jews in Europe at the hands of the Nazis. [...] What Israel is doing today cannot be condoned, and to invoke the horrors of the past to justify those of the present is gross hypocrisy"
ولا أستطيع الآن أن أتذكر السبب الذى جعلنى وزميلى نتساءل ونحن مارّان أمام بوابة الأورمان: ترى ماذا سيكون مصير برتراند رَسِلْ يوم القيامة؟ وكان رد زميلى هو أنه مخطئ، وسوف يحاسبه الله على عدم إيمانه بالإسلام. لكن كان رأيى أن الإنسان قد يطلب الحق فيخطئه، كما لا ينبغى أن ننسى أن رَسِلْ ابن بيئة تختلف عن بيئتنا تشرّب منها موقفها من الإسلام، ومن ثم لا يصح أن نسوى بيننا وبينه من حيث الفرص المتاحة للتعرف إلى الإسلام على الوجه الصحيح. لكن زميلى أصر على كلامه قائلا إن أى إنسان لا يمكن أن يضل عن حقيقة الإسلام متى كان مخلصا فى بحثه، بل لا بد أن يصل حتما إلى وجه الصواب فيه. ومع هذا فقد بقيت أنا على رأيى قائلا إنه ليس مستحيلا أن يطلب الشخص الوصول إلى الحق لكنه، لسب أو لآخر، لا يستطيع بلوغه، وهو ما أرى الآن بكل وضوح أنه يتمشى مع حديث الرسول الكريم عن أجر المجتهد فى حالة خطئه وفى حالة صوابه، إذ إن هذا الحديث العبقرى العجيب إنما يعنى أن المجتهد يمكن جدا، رغم إخلاصه وشدة تقصيه، أن يخطئ الهدف فلا يصل إلى الصواب الذى وضعه نصب عينيه، وإن كنت رغم ذلك أرى أنه يجب علينا أن نترك لله سبحانه وتعالى وحده الحكم على نية الباحث عن الحق ومدى إخلاصه أو عدم إخلاصه وإلى أى حد يمكن معذرته بتأثير البيئة عليه أَوْ لا... إلخ. على أن ليس معنى ذلك ترك كل إنسان يقول ما يشاء دون الرد أو التعقيب عليه، بحجة أن هذا هو اقتناعه. ذلك أننى أنا أيضا لى اقتناعاتى، ومن حقى بل من واجبى أن أعلنها وأدعو إليها وأبسط الحجج التى أستند عليها فى تلك الدعوة.
وفى ذات الوقت ينبغى مراعاة طبيعة موقف كل شخص لا يؤمن بالإسلام من الإسلام، وهل يا ترى يقف منه موقف العداء والحقد؟ أم هل يقف منه موقف المسالمة والاحترام؟ ففيلسوفٌ مثلُ رَسِلْ لا يصح أن يعامَل كأى سفيه حقير ممن يُقِلّون أدبهم على المسلمين وعلى دينهم ورسولهم وقرآنهم من المستشرقين والمبشرين وأولئك الأوباش طوال اللسان قصار العقل من المهجريين المصريين. فالرجل لم يمنعه إلحاده من أن يذكر الإسلام بخير ويقول عنه كلاما طيبا كما سوف نرى. صحيح أنه غير كاف، لكن ليس من العدل ولا من المروءة أن نسوى بين صاحبه وبين أولئك السفهاء الشتامين.
وصحيح أيضا أننى لم أكن وقتذاك أعرف أن لرَسِلْ كلاما طيبا فى حق الإسلام، وإن كنت أعلم فى ذات الوقت أن له كتابا عن "تاريخ الفلسفة الغربية" تعرَّض فيه للإسلام ونبيه، إلا أننى كنت أجهل ما قاله فى ذلك الموضوع لأن الكتاب الذى كان فى يد زملائى كان بالإنجليزية، على حين كانت لغتى الأجنبية الأولى هى الفرنسية، ولم أكن قد تعلمت لغة جون بول بعد على النحو الذى يؤهلنى للقراءة بها بسهولة ويسر، كما لم أكن على علم بأن الكتاب قد تُرْجِم إلى العربية: ترجمه أحمد أمين وزكى نجيب محمود. بل لقد حاولت مؤخرا أن أعثر على تلك الترجمة فلم يتيسر لى إلا جزء واحد منها فقط، وهو عن الفلسفة الغربية الحديثة مما لا علاقة له بالإسلام ونبيه. كذلك لم أكن أعرف إلا مؤخرا جدا أن خاله الأكبر هنرى كان مسلما! جاء ذكر ذلك فى الصفحات الأولى من "سيرته الذاتية"، ووصفه كالعادة بأنه "محمدى"، كما جرده من كل مزايا الأسرة ورماه بأنه أكثر من عرفهم إثارة للملل، وإن لم يُعْفِ الأخوال الآخرين وأمهم من الانتقاد هم أيضا. وهذه هى عبارته نصا، والإشارة فيها إلى جدته لأمه: "Her eldest son was a Mohammedan… Henry, the Mohammedan, was devoid of all the family merits, and was, I think, the greatest bore I have ever known"، وإن كان مترجمو الكتاب إلى العربية قد استخدموا كلمة "مسلم" بدلا من "محمدى".
وكنا أنا وزميلى فى ذلك الوقت نقرأ، ضمن ما نقرأ، بعض كتب الشيخ شلتوت التى كنا نستمتع بمطالعتها لما يتمتع به الشيخ الكريم من بساطة فى الأسلوب وصفاء فى الرؤية وعمق فى التحليل وسماحة فى الفهم والحكم. ولكنى لست أدرى هنا أيضا أكنت قرأت له تفسير العشرة الأجزاء الأولى من القرآن الكريم أم لا. لكنى على أية حال قد سُرِرْتُ لـمّا قرأتُ (متى بالضبط؟) تفسيره رحمه الله لقوله تعالى فى الآية 115 من سورة"النساء": "وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"، فهو تفسير يتسق مع ما قلته لزميلى فى ذلك النقاش الذى أتحدث عنه، إذ قال ذلك العلامة الكبير ما معناه أن من سوف يصلى جهنم ممن لم يؤمنوا بالإسلام هو من تبين له الهدى لكنه عاند وكفر كبرا أو خوفا على مصلحة شخصية زائلة أواتباعا لشهوة دنيوية أو تطلعا إلى كسب مال أو إحراز منصب أو ما إلى ذلك. أما من لم يتبين له الهدى لأنه لم يسمع بالإسلام، أو سمع به لكن على نحو مشوه من شأنه أن ينفر الناس منه، أو اجتهد وفكر لكن حالت ظروفه دون تبين الهدى، فإنه لا يشمله هذا الوعيد. ويدخل فى ذلك على سبيل المثال الأمم التى لم تصلها دعوة الإسلام أصلا، أو وصلت إليها على غير حقيقتها فنفرتها منه، أو وصلت إليها على حقيقتها إلا أنها لم تستطع أن تبصر نور الهداية لسبب أو لآخر رغم إخلاص النية والتجرد فى البحث عن الحق.
وهذا الذى قاله شلتوت، رضى الله عنه، ليس رأيا ينفرد وحده به، فعلى سبيل المثال يقول الإمام الغزالى فى كتابه: "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" إن "من كذَّبه (صلى الله عليه وسلم من الأمم الأخرى) بعدما قرع سمعه بالتواتر عن خروجه وصفته ومعجزاته الخارقة للعادة، كشق القمر وتسبيح الحصا ونبع الماء من بين أصابعه والقرآن المعجز الذي تحدى به أهل الفصاحة وعجزوا عنه... فإن اشتغل بالنظر والطلب ولم يقصر، فأدركه الموت قبل تمام التحقيق، فهو مغفور له ثم له الرحمة الواسعة. فاسْتَوْسِعْ رحمة الله الواسعة، ولا تَزِنِ الأمور الإلهية بالموازين المختصرة الرسمية. واعلم أن الآخرة قريب من الدنيا: فـ"ما خَلْقُكم ولا بَعْثُكم إلا كنفسٍ واحدة". فكما أن أكثر أهل الدنيا في نعمة وسلامة، أو في حالة يُغْبَطها، إذ لو خير بينها وبين الإماتة والإعدام مثلا لاختارها، وإنما المعذب الذي يتمنى الموت نادر، فكذلك المخلدون في النار بالإضافة إلى الناجين والمخرجين منها في الآخرة نادر. فإن صفة الرحمة لا تتغير باختلاف أحوالنا، وإنما الدنيا والآخرة عبارتان عن اختلاف أحوالك. ولولا هذا لما كان لقوله عليه الصلاة والسلام معنى حيث قال : أوّلُ ما خطّ اللهُ في الكتاب الأوّلِ: أنا الله، لا إله إلا أنا. سبقت رحمتي غضبي. فمن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فله الجنة".
ويقول الإمام الرازى صاحب "مفاتيح الغيب" فى المسألة الخامسة من مسائله فى تفسير آية سورة "النساء" المذكورة آنفا، ولكن على نحو موجز، إن "الآية دالة على أنه لا يمكن تصحيح الدين إلا بالدليل والنظر والاستدلال، وذلك لأنه تعالى شَرَط حصول الوعيد بتبين الهدى. ولو لم يكن تبين الهدى معتبرا في صحة الدين لم يكن لهذا الشرط معنى". وفى تفسير ابن كثير: "قوله: "وَمَن يُشَاقِقِ ?لرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ?لْهُدَى?": أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار في شق، والشرع في شق، وذلك عن عَمْدٍ منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له واتضح له...". حتى سيد قطب، الذى قيل فيه ما قيل، يكتب بملء قلمه أنه "قد اقتضت رحمة الله بالناس ألا يحق عليهم القول ولا يَصْلَوْا جهنم وساءت مصيرا إلا بعد أن يرسل إليهم رسولا، وبعد أن يبين لهم، وبعد أن يتبينوا الهدى ثم يختاروا الضلالة. وهي رحمة الله الواسعة الحانية على هذا المخلوق الضعيف. فإذا تبين له الهدى، أي إذا علم أن هذا المنهج من عند الله، ثم شاقّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم فيه، ولم يتبعه ويطعه، ولم يرض بمنهج الله الذي تبيَّن له، فعندئذ يكتب الله عليه الضلال، ويوليه الوجهة التي تولاها، ويلحقه بالكفار والمشركين الذين توجه إليهم. ويحق عليه العذاب المذكور في الآية بنصه: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى ونصله جهنم. وساءت مصيرا"...".
وفى تفسير "المنار" لمحمد رشيد رضا تفصيل للمسألة شديد الاتساع والإمتاع، إذ نقرأ فيه: "قَالَ الاسْتَاذُ الامَامُ: لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ وَعْدَهُ بِالْجَزَاءِ الْحَسَنِ لِلَّذِينِ يَتَنَاجَوْنَ بِالْخَيْرِ وَيَبْتَغُونَ بِنَفْعِ النَّاسِ مَرْضَاةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ فِي هَذِهِ الايَةِ وَعِيدَهُ لاولَئِكَ الَّذِينَ يَتَنَاجَوْنَ بِالشَّرِّ، وَيُبَيِّتُونَ مَا يَكِيدُونَ بِهِ لِلنَّاسِ فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ مُشَاقُّونَ لِلرَّسُولِ إِذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَتْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ عَلَى لِسَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَتَبَيَّنْ لَهُمُ الْهِدَايَةُ فَلا يَسْتَحِقُّونَ هَذَا الْوَعِيدَ. وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ: فَمَنْ نَظَرَ مِنْهُمْ فِي الدَّلِيلِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ الْحَقُّ وَبَقِيَ مُتَوَجِّهًا إِلَى طَلَبِهِ بِتَكْرَارِ النَّظَرِ وَالاسْتِدْلالِ مَعَ الاخْلاصِ فَهُوَ مَعْذُورٌ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ كَالَّذِي لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الاشَاعِرَةِ، وَالْمُشَاقَّةُ بَعْدَ تَبَيُّنِ الْهُدَى إِنَّمَا تَكُونُ عِنَادًا وَعَصَبِيَّةً أَوِ اتِّبَاعًا لِشَهْوَةٍ تَفُوتُ بِهَذِهِ الْهِدَايَةِ اهـ.
أَقُولُ: الْمُشَاقَّةُ الْمُعَادَاةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ شَقَّ الْعَصَا، أَوْ هِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الشَّقِّ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَادِينَ يَكُونُ فِي شِقٍّ غَيْرَ الَّذِي فِيهِ الآخَرُ كَمَا قَالُوا، وَالْكَلامُ جَاءَ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى طُعْمَةَ، كَمَا ذُكِرَ فِي قِصَّتِهِ وَعَلَى قَلِيلٍ مِنَ النَّاسِ مِنْهُمْ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى قَلِيلٍ مِنَ النَّاسِ لانَّ أَكْثَرَ النَّاسِ فُطِرُوا عَلَى تَرْجِيحِ الْهُدَى عَلَى الضَّلالِ وَالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وَعَرَفُوهُ، وَنَاهِيكَ بِمَنْ دَخَلَ فِيهِ وَعَمِلَ بِهِ وَرَأَى الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَقَوْمُهُ كَطُعْمَةَ. وَلا يُشْتَرَطُ فِي هَذَا التَّرْجِيحِ الْفِطْرِيِّ وَالْعَمَلِ بِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَبَيَّنَ بِالْبُرْهَانِ الْيَقِينِيِّ الْمَنْطِقِيِّ الَّذِي لا يَقْبَلُ النَّقْضَ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَظْهَرَ لِلْمَرْءِ أَنَّ هَذَا هُوَ الْهُدَى أَوْ أَنَّهُ أَهْدَى مِنْ مُقَابِلِهِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مُقَابِلٌ. وَسَبَبُ هَذَا وَمَنْشَؤُهُ أَنَّ الإنْسَانَ فُطِرَ عَلَى حُبِّ نَفْسِهِ وَحُبِّ الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ لَهَا وَالسَّعْيِ إِلَى ذَلِكَ وَاتِّقَاءِ مَا يُنَافِيهِ وَيَحُولُ دُونَهُ. لِذَلِكَ كَانَتْ شَرِيعَةُ الاسْلامِ الَّتِي هِيَ دِينُ الْفِطْرَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةِ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الْمَصَالِحِ، فَكُلُّ مَا حُرِّمَ فِيهَا عَلَى النَّاسِ فَهُوَ ضَارٌّ بِهِمْ، وَكُلُّ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَوِ اسْتُحِبَّ لَهُمْ فِيهَا فَهُوَ نَافِعٌ لَهُمْ. وَلِهَذَا كَانَ غَيْرَ مَعْقُولٍ أَنْ يَتْرُكَهَا أَحَدٌ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَهَا وَتَتَبَيَّنَ لَهُ، وَكَانَ إِنْ وَقَعَ لا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ. وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (2: 130)، أَيْ لا أَحَدَ يَرْغَبُ عَنْهَا إِلا مَنِ احْتَقَرَ نَفْسَهُ وَأَزْرَاهَا بِالسَّفَهِ وَالْجَهَالَةِ. وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَصْنَافَ النَّاسِ فِي اتِّبَاعِ الْهُدَى وَتَرْكِهِ وَسَبَبِ ذَلِكَ فَنَقُولُ:
الصِّنْفُ الاوَّلُ: مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى بِالْبُرْهَانِ الصَّحِيحِ، وَوَصَلَ فِيهِ إِلَى حَقِّ الْيَقِينِ. وَهَذَا لا يُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ اعْتِقَادًا، وَيَنْدُرُ جَدًا أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ عَمَلاً. وَلِلاسْتَاذِ الامَامِ كَلِمَةٌ فِيهِ كَالْيَقِينِ فِي الْحَقِّ كِلاهُمَا قَلِيلٌ فِي النَّاسِ، وَهُوَ يَعْنِي الرُّجُوعَ بِالْعَمَلِ، إِذِ الانْسَانُ يَمْلِكُ مِنْ عَمَلِهِ مَا لا يَمْلِكُ مِنَ اعْتِقَادِهِ. فَمَنْ كَانَ مُوقِنًا بِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لا يَكُونُ إِلَهًا وَلا شَرِيكًا لِلَّهِ يُؤَثِّرُ فِي إِرَادَتِهِ وَيَحْمِلُهُ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَهُ لَوْلاهُ لا يَسْتَطِيعُ بَعْدَ الْيَقِينِ الْحَقِيقِيِّ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْمَسِيحَ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّنْ عُبِدَ وَمِمَّا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ آلِهَةٌ أَوْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَطِيعُ وَيَدْخُلُ فِي إِمْكَانِهِ أَنْ يَدْعُوَهَا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ، وَأَنْ يَعْبُدَهَا بِغَيْرِ الدُّعَاءِ أَيْضًا كَالتَّمَسُّحِ بِهَا وَالتَّعْظِيمِ الَّذِي يَعُدُّهُ أَهْلُهَا مِنْ شَعَائِرِ الْعِبَادَاتِ، لا مِنْ عُمُومِ الْعِبَادَاتِ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَاتِهَا لا يَفْعَلُهُ. أَيْ لا يَرْجِعُ عَنِ الْحَقِّ بِالْعَمَلِ إِلا أَنْ يَكُونَ لِمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنَ السَّبَبِ، وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ.
الصِّنْفُ الثَّانِي: مَنْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى بِالدَّلائِلِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي يَرْجُحُ بِهَا بَعْضُ الاشْيَاءِ عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ أَفْهَامِهِمْ وَعُقُولِهِمْ لا بِالْبُرْهَانِ الْمَنْطِقِيِّ الْمُؤَلَّفِ مِنَ الْيَقِينِيَّاتِ الْبَدِيهِيَّةِ أَوِ الْمُنْتَهِيَةِ إِلَيْهَا. وَهَؤُلاءِ لا يَرْجِعُونَ عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلالِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْهُدَى بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَيْهِ، إِذْ يَكْفِي أَنَّهُمْ مُعْتَقِدُونَ بِهِ أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالصَّلاحِ، فَلا يُشَاقّون مَنْ جَاءَهُمْ بِذَلِكَ وَلا يَتَّبِعُونَ غَيْرَ سَبِيلِ أَهْلِهِ إِلا لِسَبَبٍ يَقِلُّ وُقُوعُهُ كَمَا سَيَأْتِي.
الصِّنْفُ الثَّالِثُ: مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى تَقْلِيدًا لِمَنْ يَثِقُ بِهِ مِنَ النَّاسِ كَآبَائِهِ وَخَاصَّةً أَهْلَهُ وَرُؤَسَاءَ قَوْمِهِ. وَهَذَا لا يَدْخُلُ فِيمَنْ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ وَالْهُدَى لانَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ شَيْءٌ. وَلِذَلِكَ يَتْرُكُونَ الْهُدَى إِلَى كُلِّ مَا يُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ رُؤَسَاؤُهُمْ مِنَ الْبِدَعِ وَالضَّلالاتِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ وَالادْيَانِ.
الصِّنْفُ الرَّابِعُ: مَنْ لَمْ يَتَّبِعِ الْهُدَى لانَّهُ نَشَأَ عَلَى تَقْلِيدِ أَهْلِ الضَّلالِ، فَلَمَّا دُعِيَ إِلَى الْهُدَى لَمْ يَنْظُرْ فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ الَّذِي دُعِيَ إِلَى دِينِهِ وَلا تَأَمَّلَ فِي دَلِيلِهِ لانَّهُ صَدَّقَ الرُّؤَسَاءَ الَّذِينَ قَلَّدَهُمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلاسْتِدْلالِ، وَأَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ النَّظَرَ فِي الادِلَّةِ وَالْبَيِّنَاتِ، وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَلِّدُوا أَهْلَ الاجْتِهَادِ وَمَنْ يَنْقُلُ إِلَيْهِمْ مَذَاهِبَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ. فَمَنْ قَلَّدَ عَالِمًا لَقِيَ اللهَ سَالِمًا، وَمَنْ نَظَرَ وَاسْتَدَلَّ زَلَّ وَضَلَّ. وَهَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي زَمَنِ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الادْيَانِ الْمُدَوَّنَةِ كَالْمَجُوسِ. وَأَمْثَالُ هَؤُلاءِ إِذَا تَرَكَ رُؤَسَاؤُهُمْ دِينَهُمْ أَوْ مَذْهَبَهُمْ يَتْبَعُونَهُمْ فِي الْغَالِبِ، وَلا سِيَّمَا إِذَا دَخَلُوا فِي مَذْهَبٍ أَوْ دِينٍ جَدِيدٍ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِهِ عَدَاوَاتٌ دِينِيَّةٌ وَلا سِيَاسِيَّةٌ تُنَفِّرُهُمْ تَنْفِيرًا طَبِيعِيًّا. وَلِذَلِكَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُلُوكَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ إِلَى الاسْلامِ وَكَتَبَ لِكُلِّ رَئِيسٍ أَنَّ عَلَيْهِ إِثْمَ قَوْمِهِ أَوْ مَرْءُوسِيهِ إِذَا هُوَ تُوَلَّى عَنِ الايمَانِ، وَلَمْ يُجِبْ دَعْوَةَ الاسْلامِ.
الصِّنْفُ الْخَامِسُ: كَالَّذِي قَبْلَهُ فِي التَّقْلِيدِ لاهْلِ الضَّلالِ تَعْظِيمًا لِجُمْهُورِ قَوْمِهِ وَمَنْ نَشَأَ عَلَى احْتِرَامِهِمْ مِنْ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَاسْتِبْعَادًا لِكَوْنِهِمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى اتِّبَاعِ الضَّلالِ، وَأَنْ يَكُونَ هَذَا الدَّاعِي قَدْ عَرَفَ الْهُدَى مِنْ دُونِهِمْ أَوْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِمْ. وَهَذَا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعَرَبِ عِنْدَ ظُهُورِ الاسْلامِ. وَالايَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِحَالِهِمْ هَذِهِ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّ سَرْدِهَا. وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُقَلَّدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالادْيَانِ الْمُدَوَّنَةِ ذَاتِ الْكُتُبِ وَالْهَيَاكِلِ وَالرُّؤَسَاءِ الرُّوحِيِّينَ أَنَّ تَقْلِيدَ هَؤُلاءِ الْعَرَبِ أَضْعَفُ وَجَذَبَهُمْ إِلَى النَّظَرِ وَالاسْتِدْلالِ أَسْهَلُ، وَكَذَلِكَ كَانَ. وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ ظُهُورِ الاسْلامِ فِيهِمْ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ.
الصِّنْفُ السَّادِسُ: عُلَمَاءُ الادْيَانِ الْجَدَلِيُّونَ الْمَغْرُورُونَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ النَّاقِصِ بِهَا الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الْهُدَى فَلَمْ يَتَوَلَّوْا عَنْهُ اتِّبَاعًا لِرُؤَسَاءَ فَوْقَهُمْ، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِيهِ بِالاسْتِقْلالِ وَالاخْلاصِ، بَلْ أَعْرَضُوا احْتِقَارًا لَهُ لانَّهُ غَيْرُ مَا جَرَوْا عَلَيْهِ وَوَثِقُوا بِهِ، وَجَعَلُوهُ مَنَاطَ عَظَمَتِهِمْ، وَحَسِبُوهُ مُنْتَهَى سَعَادَتِهِمْ. وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُقَلِّدُونَ كَعَامَّتِهِمْ، وَلَكِنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الصَّوَارِفِ عَنْ قَبُولِ الْهُدَى مَا لَيْسَ عِنْدَ الْعَامَّةِ مِنْ مَعْرِفَةِ عَظَمَةِ أَسْلافِهِمُ الَّذِينَ يَنْتَمُونَ إِلَيْهِمْ وَمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالصَّلاحِ وَالْفَضَائِلِ وَالْكَرَامَاتِ، وَمِنَ الادِلَّةِ الْجَدَلِيَّةِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا هُمْ عَلَيْهِ.
الصِّنْفُ السَّابِعُ: الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْهُدَى عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا الصَّحِيحِ الْمُحَرِّكِ لِلنَّظَرِ، فَلَمْ يَنْظُرُوا فِيهَا وَلَمْ يُبَالُوا بِهَا لانَّهُمْ رَأَوْهَا بَدِيهِيَّةَ الْبُطْلانِ. وَمِنْ هَؤُلاءِ أَكْثَرُ كُفَّارِ هَذَا الزَّمَانِ الَّذِينَ لا يَبْلُغُهُمْ عَنِ الاسْلامِ إِلا أَنَّهُ دِينٌ مِنْ جُمْلَةِ الأدْيَانِ الْكَثِيرَةِ الْمُخْتَرَعَةِ فِيهِ وَفِي هَذِهِ مِنَ الْعُيُوبِ وَالأبَاطِيلِ وَمَا هُوَ كَذَا وَكَذَا، كَمَا اخْتَرَعَ وَافْتَرَى رُؤَسَاءُ النَّصْرَانِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الاسْلامِ، وَلا سِيَّمَا مَا كَتَبُوهُ قَبْلَ تَأْلِيبِ الشُّعُوبِ الأورُبِّيَّةِ عَلَى الْحَرْبِ الشَّهِيرَةِ بِالصَّلِيبِيَّةِ. فَهَؤُلاءِ لا يَبْحَثُونَ عَنْ حَقِيقَةِ الإسْلامِ، كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لا يَبْحَثُونَ عَنْ دِينِ الْمُورْمُونِ مَثَلا.
الصِّنْفُ الثَّامِنُ: مَنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْهُدَى عَلَى وَجْهِهَا أَوْ غَيْرِ وَجْهِهَا فَنَظَرُوا فِيهَا بِالاخْلاصِ وَلَمْ تَظْهَرْ لَهُمْ حَقِيقَتُهَا وَلا تَبَيَّنَتْ لَهُمْ هِدَايَتُهَا، فَتَرَكُوهَا وَتَرَكُوا إِعَادَةَ النَّظَرِ فِيهَا.
الصِّنْفُ التَّاسِعُ: هُمْ أَهْلُ الاسْتِقْلالِ الَّذِينَ نَظَرُوا فِي الدَّعْوَةِ كَمَنْ سَبَقَهُمْ، وَلا يَتْرُكُونَ النَّظَرَ وَالاسْتِدْلالَ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمُ الْحَقُّ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، بَلْ يَعُودُونَ إِلَيْهِ وَيَدْأَبُونَ طُولَ عُمْرِهِمْ عَلَيْهِ. وَهُمُ الَّذِينَ نَقَلَ الاسْتَاذُ الامَامُ عَنْ مُحَقِّقِي الاشَاعِرَةِ الْقَوْلَ بِنَجَاتِهِمْ لِعُذْرِهِمْ.
الصِّنْفُ الْعَاشِرُ: مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالْهُدَى الْبَتَّةَ. وَهُمُ الَّذِينَ يُعَبِّرُ عَنْهُمْ بَعْضُهُمْ بِأَهْلِ الْفَتْرَةِ. وَمَذْهَبُ الاشَاعِرَةِ أَنَّهُمْ مَعْذُورُونَ وَنَاجُونَ.
هَذِهِ هِيَ أَصْنَافُ النَّاسِ فِي الْهُدَى وَالضَّلالِ، بِحَسَبِ مَا خَطَرَ لِلْفِكْرِ الْقَاصِرِ الآنَ. وَلا يَصْدُقُ عَلَى صِنْفٍ مِنْهَا أَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى إِلا الأوَّلَ وَالثَّانِي. فَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ أَفْرَادِهِمَا فِي حَيَاتِهِ، أَوْ يُعَادِ سُنَّتَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْهُدَى، وَإِنَّمَا سَبِيلُهُمْ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: "نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"،. وَهُوَ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةٍ أُخْرَى: "أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ" (45: 23). وَهُمْ أَجْدَرُ النَّاسِ بِدُخُولِ جَهَنَّمَ، وَصَلْيُهَا الاحْتِرَاقُ بِهَا وَسَائِرُ أَنْوَاعِ عَذَابِهَا، لانَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، وَعَانَدُوا الْحَقَّ وَاتَّبَعُوا الْهَوَى.
وَأَمَّا سَائِرُ الاصْنَافِ فَيُوَلِّي اللهُ كُلا مِنْهُمْ مَا تَوَلَّى أَيْضًا كَمَا هِيَ سُنَّتَهُ فِي الانْسَانِ الَّذِي خَلَقَهُ مُرِيدًا مُخْتَارًا حَاكِمًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الطَّبِيعَةِ الْمُحِيطَةِ بِهِ، بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِمَا التَّصَرُّفَ الَّذِي يَرَاهُ خَيْرًا لَهُ. وَلِذَلِكَ غَيَّرَ فِي أَطْوَارٍ كَثِيرَةٍ أَحْوَالَ مَعِيشَتِهِ وَأَسَالِيبَ تَرْبِيَتِهِ، وَسَخَّرَ قُوَى الطَّبِيعَةِ الْعَاتِيَةِ لِمَنَافِعِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الارْضِ جَمِيعًا مِنْهُ (45: 13). فَهُوَ مُرَبِّي نَفْسِهِ وَمُرَبِّي الطَّبِيعَةِ الَّتِي أَلَّهَهَا بَعْضُ أَصْنَافِهِ جَهْلا مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ لا مُتَصَرِّفَ فَوْقَهُ فِي هَذِهِ الارْضِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الارْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. أَقُولُ هَذَا نَسْفًا لأسَاسِ جَبْرِيَّةِ الْفَلْسَفَةِ الاورُبِّيَّةِ الْحَاضِرَةِ بَعْدَ نَسْفِ أَسَاسِ جَبْرِيَّةِ الْفَلْسَفَةِ الْغَابِرَةِ، هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ مَا يُسَمُّونَهُ: "الافْعَالَ الْمُنْعَكِسَةَ" تَعْمَلُ فِي الانْسَانِ عَمَلَهَا وَأَنَّهُ لا عَمَلَ لَهُ بِهَا. وَالصَّوَابُ أنََّهُ حَاكِمٌ عَلَيْهَا كَحُكْمِهَا عَلَيْهِ: فَإِنْ تَرَكَ لَهَا الْحُكْمَ اسْتَبَدَّتْ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ وَفِيهَا فَعَلَ.
قُلْتُ: إِنَّ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الانْسَانِ أَنْ يُوَلِّيَ كُلاًّ مِنَ الاصْنَافِ مَا تَوَلَّى، وَلَكِنَّهُ لا يُصْلِي كُلا مِنْهُمْ جَهَنَّمَ الَّتِي سَاءَ مَصِيرُهَا لانَّ إِصْلاءَ جَهَنَّمَ هُوَ تَابِعٌ لِمَا يَتَوَلاهُ الانْسَانُ مِنَ الضَّلالَةِ فِي اعْتِقَادِهِ. وَنَاهِيكَ بِهِ إِذْ تَوَلاهَا بَعْدَ أَنْ ظَهَرَتِ الْهِدَايَةُ لَهُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِمَا تَكُونُ عَلَيْهِ النَّفْسُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الطَّهَارَةِ وَالزَّكَاءِ وَالْكَمَالِ بِحَسَبِ تَزْكِيَةِ صَاحِبِهَا لَهَا، أَوْ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ بِحَسَبِ تَدْسِيَتِهِ لَهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا وَذَاكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى".
وَإِنَّنِي لا أَتَذَكَّرُ أَنَّنِي اطَّلَعْتُ عَلَى تَفْسِيرٍ وَاضِحٍ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْحَكِيمَةِ الْعَالِيَةِ نَوَلِّهِ مَا تَوَلَّى، وَإِنَّمَا يُفَسِّرُونَ اللَّفْظَ بِمَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ، كَأَنْ يَقُولُوا: نُوَجِّهْهُ إِلَى حَيْثُ تَوَجَّهَ، أَوْ نَجْعَلْهُ وَالِيًا لِمَا اخْتَارَ أَنْ يَتَوَلاهُ، أَوْ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ اسْتِدْلالَ كُلِّ فُرْقَةٍ بِالآيَةِ عَلَى مَذْهَبِهَا أَوْ تَحْوِيلِهَا إِلَيْهِ. أَعْنِي مَذْهَبَهُمْ فِي الْكَسْبِ وَالْقَدَرِ وَالْجَبْرِ، وَتَعَلُّقِ الارَادَةِ الالَهِيَّةِ أَوْ عَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِالشَّرِّ،. وَالَّذِي أُرِيدُ بَيَانَهُ وَتَوْجِيهَ الاذْهَانِ إِلَى فَهْمِهِ هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ مُبَيِّنَةٌ لِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي عَمَلِ الانْسَانِ، وَمِقْدَارِ مَا أُعْطِيَهُ مِنَ الارَادَةِ وَالاسْتِقْلالِ، وَالْعَمَلِ بِالاخْتِيَارِ. فَالْوِجْهَةُ الَّتِي يَتَوَلاهَا فِي حَيَاتِهِ، وَالْغَايَةُ الَّتِي يَقْصِدُهَا مِنْ عَمَلِهِ، يُوَلِّيهِ اللهُ إِيَّاهَا وَيُوَجِّهُهُ إِلَيْهَا. أَيْ يَكُونُ بِحَسَبِ سُنَّتِهِ، تَعَالَى، وَالِيًا عَلَيْهَا، وَسَائِرًا عَلَى طَرِيقِهَا، فَلا يَجِدُ مِنَ الْقُدْرَةِ الالَهِيَّةِ مَا يَجْبِرُهُ عَلَى تَرْكِ مَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ. وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى لِهَدَى النَّاسَ أَجْمَعِينَ بِخَلْقِهِمْ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الطَّاعَةِ كَالْمَلائِكَةِ، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ عَلَى مَا نَرَاهُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَفَاوُتِ الاسْتِعْدَادِ وَالادْرَاكِ، وَعَمَلِ كُلِّ فَرْدٍ بِحَسَبِ مَا يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْفَعُ فِي عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا إِلَى آخِرِ مَا لا مَحَلَّ لِشَرْحِهِ هُنَا مِنْ طَبَائِعِ الْبَشَرِ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تَوْلِيَةِ اللهِ لِمِثْلِ هَذَا مَا تَوَلَّى هُوَ مَا يَلْزَمُهَا مِنْ عَدَمِ الْعِنَايَةِ وَالالْطَافِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِنَايَةً خَاصَّةً بِبَعْضِ عِبَادِهِ وَرَاءَ مَا تَقْتَضِيهِ سُنَنَهُ فِي الاسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِلاعْمَالِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّظَامِ وَالْعَدْلِ الْعَامِّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجُمْلَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَقِيقَةِ مَعْنَاهَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ هَذَا شَأْنَهُ فَهُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ لأنَّ مِنْ سُنَّةِ اللهِ أَنْ يَكُونَ حَيْثُ وَضَعَ نَفْسَهُ وَاخْتَارَ لَهَا وَأَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارِ. نَعَمْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهَبُ لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَيَزِيدُهُمْ مَنْ فَضْلِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْمَقَامُ مَقَامَ بَيَانِ سَبَبِ الْحِرْمَانِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الاخْتِصَاصِ، إِذْ لَيْسَ مَنْ يُشَاقِقُ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى مَظِنَّةً لَهُ فَيُصَرِّحُ بِنَفْيِهِ عَنْهُ. وَلَيْتَ شِعْرِي أَيَقُولُ الَّذِينَ فَسَّرُوا التَّوْلِيَةَ بِهَذَا النَّفْيِ وَالْحِرْمَانِ مِنَ الْعِنَايَةِ وَالالْطَافِ: إِنَّ هَذَا الصِّنْفَ وَحْدَهُ هُوَ الْمَحْرُومُ مِنْ ذَلِكَ، أَمِ الْحِرْمَانُ شَامِلٌ لِغَيْرِهِ مِنْ أَصْنَافِ الضَّالِّينَ؟ وَهَلْ يَسْتَلْزِمُ حِرْمَانُهُ مِنْ ذَلِكَ الْيَأْسَ مِنْ هِدَايَتِهِ ثَانِيَةً أَمْ لا؟ لا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي هَذَا الْبَابِ مَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ وَيَسْلَمُ مِنَ الايرَادَاتِ الَّتِي لا تُدْفَعُ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ عَوْدَةِ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ الضَّالِّينَ إِلَى الْهُدَى لانَّ عِلْمَهُ بِحَقِيقَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَبُطْلانِ مَا صَارَ إِلَيْهِ لا يَبْرَحُ يَلُومُهُ وَيُوَبِّخُهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ، وَلا يَبْعُدُ أَنْ يَجِيءَ يَوْمٌ يَكُونُ فِيهِ الْفَلْجُ لَهُ.
أَمَّا السَّبَبُ الَّذِي يَحْمِلُ مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى عَلَى تَرْكِهِ فَهُوَ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَالاً مِنَ الاحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ الْقَوِيَّةِ كَالْحَسَدِ وَالْبَغْيِ وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالْكِبْرِ وَالشَّهْوَةِ الْغَالِبَةِ عَلَى الْعَقْلِ وَالْعَصَبِيَّةِ لِلْجِنْسِ. وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِيهِ اتِّبَاعُ هَوَى النَّفْسِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ بَعْضَ أَحْبَارِ الْيَهُودِ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُمْ صِدْقَ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَلَّوْا عَنْهَا حَسَدًا لَهُ وَلِلْعَرَبِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِيثَارًا لِرِيَاسَتِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ عَلَى أَنْ يَكُونُوا مَرْؤُوسِينَ فِي غَيْرِهِمْ. وَارْتِدَادُ جَبَلَةُ بْنُ الايْهَمِ عَنِ الاسْلامِ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ يُسَاوِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَطَمَهُ مِنَ السُّوقَةِ. وَارْتَدَّ أُنَاسٌ فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنْ دِينِهِمْ لافْتِتَانِهِمْ بِبَعْضِ النِّسَاءِ مِنَ الْكُفَّارِ. وَعِلَّةُ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَيْ عِلَّةُ تَأْثِيرِ هَذِهِ الاسْبَابِ فِي نُفُوسِ بَعْضِ النَّاسِ، هِيَ ضَعْفُ النَّفْسِ وَمَرَضُ الارَادَةِ بِجَرَيَانِ صَاحِبِهَا مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ عَلَى هَوَاهُ، وَعَدَمِ تَرْبِيَتِهَا عَلَى تَحَمُّلِ مَا لا تُحِبُّ فِي الْعَاجِلِ لاجْلِ الْخَيْرِ الآجِلِ. وَهَذَا هُوَ مُرَادُنَا مِنْ إِرْجَاعِ جَمِيعِ الاسْبَابِ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ. وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ الانْسَانَ مَفْطُورٌ عَلَيْهِ مِنْ تَرْجِيحِ مَا يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْفَعُ. وَصَاحِبُ الْهَوَى الْمُتَّبَعُ لا يَتَمَثَّلُ لَهُ النَّفْعُ الاجِلُ كَمَا يَسْتَحْوِذُ عَلَيْهِ النَّفْعُ الْعَاجِلُ لِضَعْفِ نَفْسِهِ وَمَهَانَتِهَا وَعَجْزِهَا عَنِ الْوُقُوفِ فِي مَهَبِّ الْهَوَى مِنْ غَيْرِ أَنْ تَمِيلَ مَعَهُ. وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ مَدَّ سِمَاطًا عَامًّا لِلنَّاسِ فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَرَأَى فِيهِمْ أَعْرَابِيًّا يَأْكُلُ بِشَرَهٍ شَدِيدٍ. فَلَمَّا جَاءَتِ الْحَلْوَى تَرَكَ الطَّعَامَ وَوَثَبَ يُرِيدُهَا، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ سَيَّافَهُ أَنْ يُنَادِيَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْحَلْوَى قُطِعَتْ عُنُقُهُ بِأَمْرِ الامِيرِ! وَالْحَجَّاجُ يَقُولُ وَيَفْعَلُ. فَصَارَ الاعْرَابِيُّ يَنْظُرُ إِلَى السَّيَّافِ نَظْرَةً، وَإِلَى الْحَلْوَى نَظْرَةً، كَأَنَّهُ يُرَجِّحُ بَيْنَ حَلاوَتِهَا وَمَرَارَةِ الْمَوْتِ. وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ ظَهَرَ لَهُ وَجْهُ التَّرْجِيحِ، فَالْتَفَتَ إِلَى الْحَجَّاجِ وَقَالَ لَهُ: "أُوصِيكَ بِأَوْلادِي خَيْرًا"، وَهَجَمَ عَلَى الْحَلْوَى وَأَنْشَأَ يَأْكُلُ، وَالْحَجَّاجُ يَضْحَكُ، وَهُوَ إِنَّمَا أَرَادَ اخْتِبَارَهُ".
أما الذى أثار كل ذلك الآن فهو محاضرة صادفتها على المشباك كان برتراند رَسِلْ قد ألقاها بتاريخ السابع من مارس للعام 1927م فى الجمعية المسماة: "National Secular Society" بلندن، وشن فيها على المسيحية والكنيسة ورجال الدين المسيحيين حملة كاسحة بسط من خلالها القول فى الأسباب التى حملته على الكفر بذلك الدين بعدما كان واحدا ممن يؤمنون به. وكان اصطدامى بتلك المحاضرة على غير ترتيب منى حين كنت أنكش فى المشباك بحثا عن شىء لا أذكر الآن ما هو. وقد وجدتها أولا فى ترجمة عربية منشورة فى أحد المواقع المشباكية لشخص رمز لنفسه باسم "زمكان" (نحتًا، فيما يبدو، من كلمتى "الزمان" و"المكان")، ثم بحثتُ عن الأصل الإنجليزى وراجعته على الترجمة المذكورة فألفيتها فى كثير من الأحيان ترجمة تقريبية، وفى بعض الأحيان الأخرى تخطئ أخطاء غير هينة. ولهذا نحيتها جانبا وشرعت أترجم النصوص التى أريد الاستشهاد بها بنفسى.
وأول ما لفت نظرى فى كلام رَسِلْ تعريفُه للمسيحى فى بداية المحاضرة، إذ قال: "وكما يشير لفظ "مسيحى" ضمنا فإنه يتعين عليك أن تؤمن بأشياء معينة بالنسبة إلى المسيح. فالمسلمون مثلا يؤمنون بالله والأبدية، ولكن لا يمكن أن يُسَمَّوْا: مسيحيين. ذلك أنه يجب، ولو بشكل طفيف، أن تؤمن بأن المسيح، إن لم يكن إلها، فهو أكثر الرجال حكمة على مر التاريخ. فإذا لم تؤمن بألوهيته أو حكمته المطلقة على الأقل فإنك لست بمسيحى، ولا تملك الحق فى أن تسمى بهذا الاسم". ومن الواضح أن رَسِلْ يشير هنا إلى أن المسيحية ليست بالضرورة المسيحية التثليثية، التى تؤله المسيح عليه السلام وتؤمن بصلبه فداء للبشر من خطيئة آدم الأولى، إذ الواقع أن هذه ليست سوى فرقة واحدة من فرق المسيحية، وليست كل المسيحية، علاوة على أنها ليست أقدم تلك الفرق ولا هى بالفرقة الأصيلة، وإن كان لها الآن الانتشار الواسع دون المسيحية الموحدة التى لا ترى فى المسيح عليه السلام سوى رسول لا يتجاوز وضعه بالنسبة إلى الله عز وجل وضع العبودية.
ثم يمضى رَسِلْ فيشير سريعا إلى ما يعرفه تاريخ تلك الديانة التثليثية من استحداث عقائد لم تكن موجودة من قبل، ثم أُوجِدَتْ بفعل فاعل بشرى عن طريق المجامع والمجالس، وحَذْف عقائد كانت موجودة ثم أُبْعِدَتْ وطُمِسَتْ، وكأن الدين اختراع إنسانى يستطيع البشر أن يغيروا فيه ويبدلوا كلما عَنَّ لهم ذلك، وليس وحيا سماويا لا يحق لهم أن يتلاعبوا به على أى وضع من الأوضاع. قال: "كان المسيحي القديم يؤمن بالجحيم. إنه يؤمن بنار أبدية كانت تشكل إيمانا أساسيا وجوهريا لدى كل مسيحي حتى أوقات قريبة جدا. وفي هذا البلد (يقصد بريطانيا)، وكما تعلمون، أصبح الإيمان بالنار الأبدية شيئا غير أساسي في المعتقد المسيحي بعد القرار الصادر من مجلس الملكة. وبعد هذا القرار كان مطران كانتربري ومطران يورك قد أعلنا معارضتهما لهذا القرار الملكي. ولكن في بلدنا يتم تحريك الدين عبر القرارات البرلمانية، ولهذا فقد كان المجلس الملكي قادرا على أن يسيطر على المسيحية، وأن يتم إلغاء الإيمان بالنار كجزء أساسي من معتقدات المسيحيين".
وعلى الرغم من أن رَسِلْ إنما ألقى محاضرته أساسا للاعتراض على المسيحية وتوضيح الأسباب التى حملته على الكفر بها فإنه قد تعرض لقضية الوجود الإلهى، وكان قاطعا فى إنكار ذلك الوجود، الذى بدون الإيمان به لا يمكن أن يكون المرء مسلما، إذ لا تختص هذه القضية بالمسيحية وحدها، وإن كان مفهوم الإله عندنا يختلف عن مفهومه عند المسيحيين التثليثيين ذوى الأغلبية الآن. لكن رَسِلْ، حين تناول تلك القضية، لم يتناولها من الوجهة المسيحية كى نقول إن كلامه لا يلزمنا، بل أنكر الله إنكارا مطلقا دون التطرق إلى القول بأنه إنما ينكر ألوهية عيسى وحدها، فقد أكد أننا "إذا أردنا أن نقترب من السؤال المتعلق بوجود الله فسنجده سؤالا ضخما وخطيرا. وإذا كنت أنوى معالجة الأمر بشكلٍ صحيحٍ فيجب أن تسمحوا لي بمعالجته بإيجاز واقتضاب. إنكم تعلمون أن الكنيسة الكاثوليكية قد وضعت الله كمرتكز إيمانى تقوم على أساسه المسيحية، وهذا الإيمان لا يتم التطرق له بالوسائل المنطقية. إن هذه العقيدة تثير الفضول، ورغم هذا تظل عقيدةَ الكاثوليك الرئيسية. لقد اضطُرّوا إلى إنشائها لأنه فى وقت من الأوقات كان المفكرون المتحررون يدخلون فى جدالات شتى سببها البحت هو الله ومحاولة هؤلاء المتحررين نفى وجوده. وهم يعرفون في أعماقهم أن الله موجود فى الإيمان فحسب. ولقد طالت مدة هذه الحوارات وامتدت لوقتٍ ليس بالقصير، وشعرت الكنيسة الكاثوليكية أن الوقت قد حان لإيقاف هذا الجدل. ولهذا أقرّت الكنسية بأن إثبات وجود الله يتم عبر أسباب جدلية، وهي الأسباب التي ظنّوها قادرة على إثبات وجود الله. وهناك عدد كبير من هذه الفرضيات، ولكننى هنا سأستعرض القليل منها".
ثم يمضى قائلا تحت عنوان "الجدال حول المسبب الأول"، وهو، كما يرى القارئ، كلام عام يهم المسلم مثلما يهم كل مؤمن بالله سبحانه: "لربما كانت قضية المسبب الأول هى أسهل وأكثر النظريات قابلية للفهم. وهي تعنى أن كل شىء نراه في هذا العالم له سببه، وعندما تذهب إلى أبعد حلقات هذه السببية ستجد المسبب الأول، وهو ما يسمى بــ"الله". إن هذه الفرضية فى اعتقادى لا تحمل مصداقية قوية هذه الأيام لأن السبب فى المقام الأول ليس واضحا كما يتصور بعض الناس. لقد خاض الفلاسفة ورجال العلم فى هذه السببية، وهذه الفرضية السببية ليست بالصلاحية المرجوة التي كانت تؤتي أكلها فى الماضى. ولكن، بمعزل عن كل هذا، سنجد أن فرضية السببية ليست على مستوى عالٍ من المصداقية. ويمكن القول بأننى فى شبابى كنت أجادل بخصوص هذه الأسئلة بكل ما أوتى عقلى من طاقة. ولقد قبلت لوقت طويل بفرضية المسبب الأول، حتى جاء اليوم الذي تخليت عن هذه الفرضية بعد قراءتى لسيرة حياة جون ستيوارت ميل، التى قال فيها: "لقد علمنى والدي أن السؤال عمّن خلقنى لا يمكن الإجابة عليه لأنه يستلزم على الفور سؤالا أبعد من هذا، وهو: من خلق الإله؟". لقد بينت لى هذه الجملة القصيرة حتى هذه اللحظة أن مبدأ المسبب الأول هو مبدأ مغالط ومسفسط. فإذا كان لكل شىء مسبب فيجب أن يكون لله مسبب أيضا. وإذا كان كل شىء بلا مسبب فسيكون العالم هو الله! لهذا وجدت أنه لا مصداقية فى هذه الفرضية. إنها تماما مثل الفرضية الهندوكية التى تقول إن العالم رقد على ظهر فيل، وإن الفيل رقد على ظهر سلحفاة. ثم حين يُقال: وماذا عن السلحفاة؟ يبادر الهندي بالإجابة: "دعنا نغير الموضوع!". إن السببية ليست بأفضل حالا من الطريقة الجدلية السلحفائية. إننا لا ندرك السبب الذى من أجله جاء العالم بلا سبب. وعلى الجانب الآخر لا نستطيع أن نعرف لماذا كانت السببية غائبة وغير موجودة على الدوام. إنه لا يوجد أي داعٍ نفترض بناء عليه أن للعالم بداية. إن فكرة وجود بداية لكل شىء سببها فقر مخيلتنا عن هذا العالم. ولهذا لن أهدر مزيدا من الوقت فى المجادلة حول السبب الأول".
وقد خطر فى ذهنى، وأنا أقرأ ما كتبه رسل فى هذه الفقرة عن السلحفاة الهندية، الحديث النبوى الذى رواه الإمام أحمد فى"مسنده"، ونصه: "يأتي الشيطانُ الإنسانَ فيقول: من خلق السموات؟ فيقول: الله. ثم يقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله... حتى يقول: من خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل: آمنت بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم". ثم أمعنتُ النظر فى الحديث وما يقوله الهنود فوجدت الأمر مختلفا تمام الاختلاف. وهذا هو الوضع الطبيعى، لأن حديث الهنود هو حديث الخرافة والأساطير، على حين أن ما يقوله الرسول هو حديث التوحيد النقى. فالواضح مما يقوله الهنود أننا إزاء خرافات لا صلة بينها وبين العقل والمنطق، إذ العالم عندهم راقد على ظهر فيل، والفيل راقد على ظهر سلحفاة، وهذا أمر لا يقوله الإسلام ولا يمكن أن يقبله لأن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية واضحة صريحة فى هذا السبيل، فضلا عن مخالفته للواقع الذى نعرفه جميعا. كذلك ليس عندنا هذا التسلسل على أى نحو كان، إذ كل شىء هو من خلق الله كما يقول الحديث وكما يكرره القرآن فى مواضع كثيرة منه. وإضافةً إلى هذا فالهندى، حين يصل الأمر إلى السلحفاة، يطلب تغيير الموضوع، وهو ما لا وجود له فى الحديث. وكل ما هنالك أن الرسول يوصى المسلم بألا يتمادى فيما لا يليق بجلال مفهوم الألوهية، إذ هو سبحانه وتعالى خالق لا مخلوق، وهو الأول الذى لا يسبقه شىء، والآخِر الذى لا يأتى بعده شىء، والقادر قدرة مطلقة، والمريد الذى يقول لأى شىء: "كن" فيكون، لا راد لمشيئته، والقوىّ قوة لا تُحَدّ... إلخ. وهذه طبيعة الألوهية، ومن ثم كان من غير المنطقى أن يقيس الإنسان الله على نفسه وغيره من المخلوقات فيستاءل عمن خلقه، إذ إن هذا يتنافى مع أبسط قواعد المنطق، فهو سبحانه لو كان مخلوقا ما كان إلها أصلا. ذلك أن الألوهية والاعتماد على خالق يخلق ضدان لا يجتمعان.
وهذا ما قاله عدد من علماء الحديث أيضا، ففى "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" يكتب ابن حجر ما نصه: "قال الخطابي: على أن قوله: "من خلق ربك؟" كلام متهافت ينقض آخره أوله لأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقا. ثم لو كان السؤال متجها لاستلزم التسلسل، وهو محال. وقد أثبت العقل أن المحدثات مفتقرة إلى محدث. فلو كان هو مفتقرا إلى محدث لكان من المحدثات... قال الطيبي: إنما أمر بالاستعاذة والاشتغال بأمر آخر ولم يأمر بالتأمل والاحتجاج لأن العلم باستغناء الله جل وعلا عن الموجد أمر ضروري لا يقبل المناظرة". وفى "فتح البارى" أيضا: "قال ابن بطال: فإن قال الموسوس: فما المانع أن يخلق الخالق نفسه؟ قيل له: هذا ينقض بعضه بعضا، لأنك أثبتَّ خالقا وأوجبتَ وجوده ثم قلت: "يخلق نفسه" فأوجبت عدمه. والجمع بين كونه موجودا معدوما فاسد لتناقضه، لأن الفاعل يتقدم وجودُه على وجودِ فِعْلِه فيستحيل كونُ نفسه فِعْلا له. وهذا واضح في حل هذه الشبهة".