سنقوم من خلال هذا الموضوع بأداء تجربة بسيطة، نتعرف على نتيجتها من خلال السطور التالية. ولا داعي للقلق فلن نذهب إلى معامل الفيزياء أو مختبرات الكيمياء، ولن نحتاج إلى قفازات أو عينات من مادة معينة أو مجاهر إلكترونية وما إلى ذلك، فالتجربة أبسط من ذلك بكثير، هي على الأحرى بحث ميداني صغير ولكن نتائجه مذهلة.
أدوات التجربة:
1. فئات مختلفة من عوام المجتمع.
2. عدة أسئلة في مختلف المجالات ولتكن مجموعة من الاستشارات الدينية والفتاوى الفقهية، مجموعة من أسئلة الاقتصاد، مجموعة أخرى من الأسئلة في الطب والجراحة، بضعة أسئلة في فنون العمارة والبناء، أسئلة في الهندسة الوراثية، وأية أسئلة أخرى في أي مجال ولكن العنصر الأساسي المطلوب هو الأسئلة الدينية.
التجربة:
1. قم بطرح الأسئلة في المجالات السابقة على كل فرد في فئة التجربة، وسجل النتائج.
2. قم بتجميع وتحليل النتائج السابقة وتسجيل الإحصائيات التي توصلت لها.
3. سجل النتيجة النهائية واكتب ما توصلت إليه من استنتاجات.
قد لا يحتاج البعض للقيام بهذه التجربة لأنه يعرف النتيجة بالفعل من خلال تجاربه الشخصية السابقة، وخبراته الحياتية اليومية. ولأننا لسنا في اختبار وليس هذا بواجب دراسي؛ فالنتيجة المؤلمة لهذه التجربة هي أن أغلبية العوام يتحدثون ويفتون في الدين بغير علم، على عكس أي مجال آخر، وكأن الجميع أصبحوا علماء في الشريعة وأصبح لقب كل منهم " مفتي الديار ".
في حين أنك حينما تطرح سؤالاً في الهندسة الوراثية مثلاً أو في نظرية التجارة الخارجية أو علوم برمجة الحواسيب أو في طب المناطق الحارة ستتلقى الإجابة التالية: لا أعلم.
وهو مما يرسم فوق رأسي علامات التعجب والاندهاش.. فلماذا يمتنع الشخص عن الإجابة في أي مجال غير تخصصه في حين يجيب ويرد ويشرح ويستفيض في الرد حينما يكون السؤال متعلقاً بفتوى أو مسألة دينية؟
ومن العجيب أيضاً حينما يَرُدُ شخص تبدو عليه علامات الاستقامة بجملة " لا أعلم "حينما يستفتيه شخص آخر، لتجد السائل وقد علت قسمات وجهه علامات الغضب والدهشة في آن واحد، ثم ينفض عنه دهشته ويقول له: كيف تكون ملتزماً ولا تعلم؟ ثم يلحقها بجملة أخرى على سبيل الاستهزاء والتهكم من هذا الوضع المزري.
فالكثير يعتقدون أن الشخص بالتزامه يصبح فقيهاً وعالماً ربانياً من علماء الأمة، وولياً من الأولياء الصالحين حتى أن أحدهم قد يتمسح بثوبه على سبيل التبرك به. فسبحان الله على هذه الأوضاع العجيبة.
جرب أن تطرح سؤالاً متعلقاً بفتوى معينة على شخص من العامة لم يدرس علوم الشريعة ولا يعرف حتى مبادئ عقيدته وانتظر الإجابة. ستجد هذا الشخص وقد أخذ يحك رأسه علامة على التفكير ويدير عينيه باحثاً عن الإجابة ثم يطرق برأسه ليتحفك برد على غرار: أنا أرى ، أعتقد، في رأيي، أظن، وكأنك سألته عن رأيه في لون سيارة ما.
لماذا يجيب بغير علم متجاهلاً حكم الفتيا بغير علم، لمجرد حب الظهور بمظهر العالم العارف أو خوفاً من أن يظن الناس أنه جاهل ولا يعلم. ألا يعلم هذا الشخص أنه يقع في كبيرتين بسبب فتواه بغير علم؟؟
فالكبيرة الأولى هي الجرأة على الكذب والافتراء على الله.
قال الله عز وجل: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) الأعراف/33. فالمفتي بغير علم يقول على الله ما لا يعلم، وقد قرن الله تعالى تحريم ذلك بتحريم الإشراك به، مما يدل عل عظم ذنب من قال على الله ما لا يعلم.
أما الكبيرة الثانية فهي إغواء الناس وإضلالهم.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ).[1] فالمفتي بغير علم ضلَّ عن الحق، وأضل غيره ممن اتبعه في فتواه.[2]
والله لو نظرنا لأحوال الصحابة والسلف في هذا الأمر لما رد أحدنا على أي من الأسئلة المطروحة عليه. يقول الهيثم بن جميل : شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتينوثلاثين منها لا أدري ، وسئل الإمام مالك مرة عن مسألة فقال : لا أدري فقيل له: إنهامسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قوله جل ثناؤه: "إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً " المزمل/ 5.
وقال أبو بكر الأثرم: سمعتأحمد بن حنبل يستفتى فيكثر أن يقول: لا أدري. وذكر لأبي حنيفة قولمن قال: لا أدري نصف العلم قال: فليقل مرتين لا أدري حتى يستكملالعلم. قال يحيى: وتفسير قوله لا أدري نصف العلم، لأن العلم إنما هو أدري ولا أدريفأحدهما نصف الآخر.[3]
وبما أننا بصدد الحديث عن الفتوى وخطورتها فلابد لنا أن نذكر ملحوظة بخصوص حديث: (أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار) وذلك لانتشاره، فهذا الحديث ضعيف لعدم اتصال سنده. والحديث وإن كان ضعيفاً غير أن معناه صحيح، فمن أقدم على الفتوى من غير تثبت ولا بحث في الأدلة فقد تسبب في إدخال نفسه النار.[4]
ولإمامنا ابن القيم كلام بديع في إعلام الموقعين عن الفتوى وخطورتها يقول: " وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها فقال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) الأعراف/33.
فرتب المحرمات أربع مراتب:
1. وبدأ بأسهلها وهو الفواحش.
2. ثم ثَنَّى بما هو أشد تحريماً منه وهو الإثم والظلم.
3. ثم ثَلَّث بما هو أعظم تحريما منها وهو الشرك به سبحانه.
4. ثم ربَّع ما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه.
ومما يدل أيضا على أنه من كبائر الإثم قول الله تعالى: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) النحل/116-117.
فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه: هذا حرام ، ولما لم يحله: هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه وتعالى أحله وحرمه " انتهى
لا يمكن أن تكون لي إضافة أخرى بعد هذه الدرر من كلام الإمام ابن القيم إلا الدعاء بأن يجعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وأن يجعلنا وإياكم صالحين مصلحين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
حاشجيات
