أشكر الجميع على المتابعة
نكمل الحوار :
يشتمل التوراة المحرفة على مقدار كبير من المبالغات والافتقار إلى الدقة، لاسيما في سفري التكوين والخروج؛ إذ إن كتابتهما تنحو نحوًا ملحميًّا وأسطوريًّا يستبطن بعض ملاحم الشعوب السابقة وأساطيرها، كملحمة جلجامش التي يظهر جزءٌ منها في قصة الطوفان.
حاول بعض المؤرخين اللاهوتيين، المؤمنين بعصمة التوراة، تحديد بدء الخليقة استنادًا إلى التواريخ وأعمار الأشخاص الذين ذُكِروا فيه؛ فكانت النتيجة أن الخليقة حدثت عام 4004 ق م. :p018: فإذا عرفنا أن عمر الإنسان المنتصب يعود إلى حوالى مئة ألف عام، وأن الإنسان الذي سبقه والمخلوقات الأخرى يعود وجودُها على سطح الأرض إلى ملايين السنين، يبدو واضحًا أن روايات مؤلفي التوراة لا يمكن الركون إليها من الناحية التأريخية.
أما النَّفَس الملحمي وكذلك الأسطوري في التوراة فشواهده أكثر من أن تحصى.
فالعجيب ان قايين (قابيل) ابن آدم يبني مدينة في هذا الزمن المبكر من تاريخ الإنسانية يسميها على اسم ابنه حنوك أو أخنوخ؛ والجيل السادس من ذرية قايين كان منهم يابل، أبًا لسكان الخيام والرعاة :p018: ، ويوبل أبًا لعازفي الكنارة والمزمار، وتوبل قاين الحداد ، أبًا لصنَّاع النحاس والحديد (علمًا بأن عصري البرونز الأول والحديد يعودان إلى الألفين الثالثة والأولى ق م).
ثم إن أبناء الله يرون بنات الناس حسناوات، فيتخذون منهنَّ زوجات، فيلدن لهم أولادًا هم الجبابرة (تكوين 6).
إبراهيم ينتصر على أربعة ملوك ويطاردهم من نهر الأردن حتى أطراف دمشق، ويخلِّص ابن أخيه لوط كلَّ ذلك بثلاثمائة محارب فقط (تكوين 15).
أما يعقوب فيضع أمام الغنم قضبانًا مخططة، فتتوحَّم عليها وتنجب حملانًا منقطة (تكوين 30: 37) :p018: .
ثمة قصة غريبة ذات دلالة خاصة بالنسبة لعلاقة العبرانيين بالكنعانيين، إضافة إلى تأكيدها لكتابة التوراة في تأريخ لاحق.
فعندما جاء العبرانيون إلى أرض كنعان في القرن الثالث عشر ق م كانوا مجموعة من البدو نزلت في نواحي المدن الكنعانية التي بَهَرَتْهم بحضارتها واضطرَّتهم إلى الرضوخ إلى حكم الكنعانيين ومُساكنتهم على مضض ما يقرب من مئتي عام. وبقي الغلُّ في صدورهم، حتى كشفوا عنه بقصة نوح مع ابنه حام الذي رأى عورة أبيه المتعتع بالسكر، فلعنه أبوه قائلاً: "ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته... وليكن كنعان عبدًا لهم" (تكوين 9). وقد أُلصِق اسم كنعان، الذي كان معروفًا منذ الألف الثاني ق م،[المصدر : فراس السواح، الحدث التوراتي، ص 250] بحام، فكان أحد أولاده الأربعة.
أما قصة موسى مع العماليق فهي أشبه بمسرحية منها بقصة دينية.
فقد أوعز موسى إلى يشوع لينتخب رجالاً لمحاربة العماليق، بينما يقف موسى على رأس التل وعصا الإله في يده... فكان إذا رفع موسى يده أن إسرائيل يغلب، وإذا خفض يده أن عماليق يغلب. فلما صارت يدا موسى ثقيلتين قام هارون أخوه وحور بدعم يدي موسى حتى تبقيا مرفوعتين (خروج 17).:p018:
وهل ننسى ملحمية قصة سقوط أريحا (يشوع 6) التي دار حولها الجيش العبراني سبع مرات في سبعة أيام، ونفخ في كلِّ مرة سبعة كهنة في سبعة أبواق، ثم صرخ الشعب فسقطت أسوار أريحا :p018:
أو احتفال سليمان بتدشين الهيكل، حيث اجتمع "جمهور كبير من مدخل حماه إلى وادي مصر" (الملوك الأول 8)؟
مثل هذه الروايات التي يضيق بها التوراة إنما تدل دلالة قاطعة على أن التوراة كُتِبَ بتأثير الجوِّ الحضاري الذي أحاط بالشعب اليهودي، إنْ في مصر أو في السبي البابلي أو في أرض كنعان.
هذه الأجواء الحضارية كانت قد أوجدت آلهتها وأدبها الأسطوري والملحمي الذي أثَّر في الشعب اليهودي، إضافة إلى تأثير الحقد الذي حمله هذا الشعب طوال تاريخه على الشعوب الأخرى.
يتبع :-
.