الغيبه
الغيبة من الغيب ، والغيب هو كل ما توارى عنك وسُتر ، وسمت بذلك لأن المتحدَّث عنه متوارٍ مستور .
وقد عرفها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث :" أتدرون ما الغيبه ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما يكره " . فالحديث أطلقها ولم يقيدها بمن هو حاضر أو غائب ، ولكن صَلُح تقييدها بالغائب بقرائن : منها التسمية اللغوية لهذه الفعله بـ " الغيبه " الذي يحتم بوجود ارتباط بينها وبين التسميه ،ومنها الإشارة القرآنية في وصفها " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه " والميت لا يستطيع أن يذب ويذود عن نفسه وهو ما يتناسب من كونه غائب ، ومنها أن الحوادث جميعها التي عالج التشريع فيها هذا الأمر كانت في حق من غاب ، مثل حديث أبي هريرة " أن رجلا قام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا في قيامه عجزاً ، فقالوا يا رسول الله ما أعجز فلانا ! فقال : أكلتم أخاكم واغتبتموه " . ما يؤكد كل ذلك ما ذهب إليه بعض شراح الحديث وبعض المفسرين من أن الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره وهو غائب ، قال ابن الأثير الغيبة " أن تذكر الأنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه " . وقال ابن حجر " والأرجح اختصاصها بالغيبة مراعاة لإشتقاقها وبذلك جزم أهل اللغة " .
وقد تضافرت النصوص من القرآن والسنة على حرمتها والتشديد فيها. قال تعالى :" ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم " فالآية غاية في الزجر والنهي ، حيث صورت الغيبة بأكل لحم الميت ، وهو أمر تعافه الطباع وتكرهه ، الأمر الذي يؤكد تحريم الغيبة بشده .
وقال تعالى :" ويل لكل همزة لمزه " وهو وعيد لمن يسيء للناس والهمز يكون بالفعل كالإشارة والمحاكاة والغمز بالعين احتقاراً , واللمز يكون باللسان وفي كل تكون الغيبه .
ومن الأحاديث الدالة على تحريم الغيبة حديث أنس وفيه :" لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم ، قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " أخرجه أبو داوود ، قال الطيبي : لما كان خمش الوجه والصدر من صفات النساء النائحات جعلها جزاء من يقع في الغيبة إشعاراً بأنها ليست من صفة الرجال بل هي من صفة النساء في أقبح الأحوال ،
وفي قصة ماعز ، أن رجلا قال لصاحبه : انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رُجم رَجم الكلب ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم :" كلا من جيفة هذا الحمار - لحمار ميت – فما نلتما من عرض هذا الرجل أشد من أكل هذه الجيفة " صححه ابن حبان .
وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية أنها قصيره فقال : لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " ومعناه لو خلطت بماء البحر على فرض كونها مائعا لغلبته وأفسدته .
وعند أبي داوود قول النبي صلى الله عليه وسلم :" إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق " وفي هذا ذكر القرطبي في تفسيره على أنها من الكبائر ، والحديث يعُمُّ الغيبة وغيرها في كل ما يؤذي المسلم من احتقاره والترّفع عليه والوقيعة فيه .
والثغرات التي تنفذ منها الغيبة والبواعث الحاملة عليها كثيرة ، منها :
1- ضعف الإيمان ، يجعل المسلم يقع في الغيبة وأعراض الناس ، ففي حديث الإفك قالت عائشة : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش عن أمري فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت عليها إلا خيرا ، قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني ، فعصمها الله بالورع ، ( وتساميني ) أي تعاليني من السمو ، أي تطلب من الرفعة والحظوة عند رسول الله ما أطلب . ومعنى الحديث أنها رغم كونها كانت نداً لي إلا أن الورع والإيمان عصمها من الوقوع فيّ . قال الفضل بن عياض وابن المبارك :" أشد الورع في اللسان " .
2- كثرة الهزل والمزاح ، فمن اعتاد على كثرة المزاح والهزل والضحك تكثر ثغراته ثم لا يجد بداً إلا أن يقع في أذيّة الناس بالغيبة وغيرها .
3- موافقة الجلساء والأصحاب ، ومجاملتهم في أحاديثهم حتى ولو كانت في الغيبة ، مما يوقعك معهم في الغيبة ، بل وربما تخرّجك تلك المجالس واؤلئك الأقران إلى رجل يتلذذ ويبادر بالغيبة ، قال تعالى :" وكنا نخوض مع الخائضين " .
4- الحسد والإعجاب بالنفس ، قال الفضل بن عياض ، ما من أحد أحب الرّياسة إلا حسد وبغى وتتبع عيوب الناس وكره أن يذكر أحد بخير .
هذه أهم منافذ الشيطان لإيقاع المسلم بالغيبة .
لقد ابتلي كثير من المسلمين بهذه الآفة وهذه المعصية التي تحصد آثاما كثيرة وتجر صاحبها إلى غضب الله ، ونذكر هؤلاء وأمثالهم :
1- بتقوى الله عز وجل والحياء منه ، قال صلى الله عليه وسلم :" استحيوا من الله عز وجل حق الحياء ، قلنا يا رسول الله : إنا نستحي والحمد لله ، قال : ليس ذلك ، ولكن من استحى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى ، وليحفظ البطن وما حوى ... " .
2- مجالسة الصالحين والبعد عن رفقاء السوء ، قال صلى الله عليه وسلم :" مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فالجليس الصالح إما أن تشم منه رائحة طيبة أو يعطيك منه ، والجليس السوء إما أن تشم منه رائحة خبيثه أو يحرق ثيابك " ، قال النووي في الحديث : نهى عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع ومن يغتاب الناس أو يكثر فجوره " .
3- أن يتذكر المسلم المغتاب مقدار الخسارة التي يخسرها من حسناته لمن اغتابهم ، قال صلى الله عليه وسلم :" أتدرون من المفلس ، قالوا : المفلس من لا درهم له ولا متاع ، قال : المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وقد شتم هذا وضرب هذا وأكل مال هذا ، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار " . وقد روي أن الحسن قيل له : إن فلان اغتابك ، فبعث إليه الحسن رُطبا على طبق وقال : بلغني أنك أهديت إليّ من حسناتك فأردت أن أكافئك عليها .
4- أن يتذكر عيوبه وينشغل بها عن عيوب الناس ، وأن يحذر أن يبتليه الله بما يعيب به الناس ، فإن الإنشغال بعيوب الناس ينسيك عيوبك ومساويك ، قال أنس بن مالك : أدركت في المدينة أقواما لم يكن لهم عيوب فعابوا الناس فصارت لهم عيوب ، وأدركت بهذه البلدة أقواما كانت لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس فنسيت عيوبهم .
5- أن يعاهد نفسه الإقلاع عن الغيبة وأن يقصرها على ذلك قصراً وإن لزم الأمر أن يعاقبها حتى تقلع عن الغيبة فَعل ، فالأمر ليس بالهيّن ولا اليسير وإنما الأمر جد خطير " وما يكب الناس في النار يومئذ إلا حصائد ألسنتهم " كما جاء في الحديث .
ويجب على المسلم أن يتوب من فعلته هذه ومن كل ذنوبه توبة نصوحة صادقة تتحقق فيها شروط التوبة ، وقد أضاف الفقهاء شرطا آخر وهو أن يستحل مَن اغتابه لقوله صلى الله عليه وسلم :" من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل أن تؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم " ، ومعناه أن يترك المظلوم مظلمته ويعفو عن الظالم ، ورأى بعضهم أن هذا الشرط في التوبة ليس ضروريا خاصة إذا أدى إلى أذية صاحب الحق والخصومة بينهما ، وهو رأي مروي عن السلف ، قال حذيفة : كفارة من اغتبته أن تستغفر له ، وقال ابن مفلح ، والدعاء له أفضل من إعلامه .
وقد ذكر الفقهاء حالات تجوز فيها الغيبة منها :
1- التّظلّم ، قال تعالى :" لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " وقال صلى الله عليه وسلم :" ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته " واللّيّ هو الظلم ، وعرضه أن يقول ظلمني حقي على وجه الشكاية .
2- الإستفتاء ، جاءت هند بنت عتبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت : إن زوجي أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم ، فقال لها النبي :" خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " . ولم ينكر عليها النبي مما يدل على جواز ذكر بعض العيوب مما تدعوا الحاجة إليه في الإستفتاء .
3- الإستعانة على تغيير المنكر ، قال الشوكاني وجواز الغيبة في هذا المقام أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الثابتة بالضرورة الدينية التي لا يقوم بجنبها دليل .
4- التحذير والنصيحة والإشارة إليهم إذا استشاروا ، جاءت فاطمة بنت قيس تستشير النبي في أمر خطبتها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم :" أما معاوية فرجل صعلوك لا مال له وأما أبو جهم فضرّاب للنساء ، ولكن أسامة بن زيد " ، ويدخل في هذا الباب جرح الرواة حفظا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم .
5- المجاهر بفسقه المعلن لبدعته ، قال الحسن البصري ليس لصاحب البدعة ولا الفاسق المعلن لفسقه غيبه ، قال النووي فالمجاهر بالفسق يجوز ذكره بما يجاهر به ويحرم ذكره بغيره من العيوب .
المفضلات